بعد أيام من التنديد والبحث والتقصّي، لم يظهر حتى الآن الناشط الحقوقي ماهر الغرياني، الذي اعتقلته كتيبة طارق بن زياد، واقتادته إلى مكان مجهول وانقطع الاتصال بينه وبين أسرته.
الغرياني كان قد انتقد عبر مواقع التواصل الاجتماعي لجنة إعادة الإعمار، على خلفية حملة إزالة المباني والمنازل والإخلاء القسري من وسط بنغازي، حسب ما نشرت منظمة رصد للجرائم في ليبيا، والتي طالبت بإخلاء سبيل الناشط الحقوقي من دون قيد أو شرط، لكن التاريخ القريب أثبت أن هؤلاء لا يعيرون اهتماماً لا للسلطات ولا للمحاكم أو المنظمات الحقوقية. وسيظل الغرياني رهن الاعتقال ومصيره مجهولاً كغيره.
فقد أسنانه مع حريته
حالات الاختطاف هذه ليست جديدةً، فهناك من تم سحبه تحت عدسات الكاميرات وأمام الآلاف من البشر. ومصير الغريان لن يختلف كثيراً عن مصير سابقيه. هذا ما قاله الناشط الحقوقي الذي تم اختطافه تحت أنظار العالم والكاميرات لرصيف22، والذي عاش مصيراً مشابهاً في زنازين المليشيات والجماعات المسلحة.
كان يرى الناس جميعاً أعزاء على قلبه، ويعدّ حمايتهم واجباً فُرض عليه ومسؤوليةً تقع على عاتقه، وكنت أقول في نفسي ما أعظم هذا الفتى المستعد للتضحية من أجل كرامة أهله. متى تعلّم هذا الحب كله للناس ولوطنه، وهو الذي تربّى عمراً تحت يد الديكتاتورية؟ فآنذاك، حتى من كان يفتح فمه عند طبيب الأسنان كان يشعر بالخوف وعدم الأمان.
المفارقة العجيبة أن هذا الحقوقي لم يفقد أسنانه في عهد القذافي، بل بعد الثورة بسنوات، حين أصبح مثالاً للناشط المدني والمدافع عن حقوق الإنسان، وعضواً فاعلاً في عدد من الجمعيات المدافعة عن الحريات والكرامة. سئم العسكر من نضالاته وتحركاته التي أصبحت تشكل خطراً وإزعاجاً، ليقتحم ذات يوم اجتماعاً في صالة فندق جنوب ليبيا، ويلقي القبض على هذا الشاب.
اقتادوه إلى مكان مجهول لأيام ثم أشهر، ولا أحد كان يعرف موعد إطلاق سراحه. وبرغم محاولات أهل المخطوف معرفة إلى أين اقتادوه، وأين يقبع؟ وأين يقع سجنه؟ ومن أخذه؟ إلا أن الحصول على إجابة عن هذه الأسئلة كان من قبيل الترف وأمراً مستحيلاً، برغم أنه لم يكن مطلباً لعائلته فقط، بل للعشرات من الأهالي المرعوبين من هذا الوحش الهلامي في ليبيا، والمسمى "السجون والمعتقلات السرّية".
برغم ما سمعته عن السجون السرّية والمعتقلات، إلا أنها كانت تظل بالنسبة لي قصصاً تُروى وفيها من الصدق والكذب ما فيها، إلى أن رأيت آثارها على وجه هذا الشاب، ولمستها في وجدانه، فلم تكن أسنانه الأمامية هي فقط المفقودة، بل جزء من روحه وإيمانه وثقته بنفسه أيضاً تآكل في ذلك المكان المجهول.
كيف تحولت سجون ثورة الحرية إلى جحيم أبشع بمراحل من معتقلات القذافي؟
من زنزانة القذافي... إلى سجون "الثورة"
بعد أن سقط حكم القذافي، بقيت ليبيا قلعةً بلا أسوار. فمع انهيار النظام، انهارت الدولة التي لم توجد أساساً، وهي في الواقع إحدى إستراتيجيات من كان يلقّب نفسه بالفاتح. لم تكن محض صدفة أو حظاً عاثراً، وهذا ما جعل البلاد مستباحةً بشكل مرعب، فانتشرت فيها كل أنواع التجاوزات والإجرام وخاصةً السجون السرية التي لم يبقَ من سرّيتها سوى مكانها، لأن رائحة الدم والفظاعة كشفت النقاب عنه وفضحت أمرها، وكأن قدر هذا البلد أن لا يتخلص أبداً من لعنة السجون. ومن لا يذكر مجزرة سجن "بو سليم" في العاصمة طرابلس، والتي راح ضحيتها أكثر من 1،200 سجين في عام 1996؟
في ليبيا الثورة، وصل عدد "نزلاء" السجون التابعة للحكومة إلى ما يقارب 11 ألف سجين، من بينهم 55 امرأةً. ووفقاً للإحصائيات في العام 2021، هناك 6،000 شخص من بينهم 113 امرأةً وهم محتجزون من دون محاكمات وغير قادرين على إيصال صوتهم في زنازينهم، إذ لم يكن لديهم الحق في توكيل محامٍ أو طلب محاكمة من قاضٍ. هذه الأرقام والإحصائيات المرعبة كلها، كان مصدرها الأمم المتحدة في غياب أي بيان أو أرقام من أي جهة رسمية ليبية حول هذا الملف.
"وكأن شيئاً لم يتغير في ليبيا بعد الثورة، فالسجون على حالها كما عهدها الليبيون، والفارق الوحيد أن القذافي اختصر السجون في سجن واحد سيئ السمعة، اسمه "بو سليم". أما في العهد الجديد، فقد أصبحت في البلد العشرات من 'بو سليم'"، على حد تعبير وزير العدل الأسبق صلاح المرغني.
في ليبيا ما بعد الثورة، تم رصد 2،438 حالة انتهاك حسب آخر تقرير لمنظمة رصد الجرائم الليبية لسنة 2023، وكأن الليبيين يعاقَبون على ثورتهم وحريتهم، وكأنه كُتب عليهم أن لا ينعموا أبداً بعيشة حلموا بها وناضلوا من أجلها. وما يزيد المشهد قتامةً، هو ما كشفه آخر تقرير لمنظمة العفو الدولية عن أقسى أنواع التعذيب والاحتجاز السرّي والاعتداءات الجنسية والاغتصاب وكل أنواع الترهيب التي كان تمارَس على المعتقلين والسجناء.
المنظمة نفسها رصدت احتجاز آلاف الأشخاص تعسفياً في ليبيا، بالإضافة إلى القبض على عشرات المتظاهرين نساءً ورجالاً وأطفالاً، محامين وصحافيين ونقّاداً وناشطين، ممن تعرضوا للتعذيب وللاختفاء القسري والإجبار على الاعتراف أمام الكاميرات وغيرها من المعاملات السيئة.
سجون الميليشيات تفتك بالليبيين
وككل سنة، يكون نصيب المليشيات والجماعات المسلحة من خرق القانون والتجاوزات واسعاً، حيث ذكرت "الأمنيستي"، أن هذه الأجهزة قتلت وأصابت مدنيين ودمّرت ممتلكات مدنيةً خلال اشتباكات محلية متقطعة مع استمرار تفشي ظاهرة الإفلات من العقاب.
المنظمة التي يقع مقرّها في لندن، ذكرت بوضوح أن السلطات في ليبيا تموّل المليشيات والجماعات المسلحة التي ترتكب الانتهاكات. وللعام الثاني على التوالي، تسمّي المنظمة جهاز دعم الاستقرار بالاسم، وتتهمه باعتراض سبيل آلاف اللاجئين والمهاجرين في عرض البحر وإعادتهم قسراً إلى الاحتجاز في ليبيا، حيث تعرّض المهاجرون واللاجئون المحتجزون للتعذيب، وللقتل غير المشروع، وللعنف الجنسي، والعمل القسري.
"أمنيستي" وجهت أصابع الاتهام أيضاً إلى جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، وجهاز دعم الاستقرار، وجهاز الأمن الداخلي في طرابلس، وقوة العمليات المشتركة في مصراتة، وجماعات مسلحة في المنطقة الشرقية من بينها جهاز الأمن الداخلي وكتيبة طارق بن زياد والكتيبة 128. وهي جهات تلاحقها اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية واستخدام آليات الصعق بالكهرباء والجلد وأشكال التعذيب كلها.
كما تتهم الحكومات المتلاحقة بالتستّر على جرائم المليشيات والمجموعات المسلحة ومنحها الامتيازات لأمراء الكتائب وتمتيعهم بحصانة شبه كاملة والإفلات من المحاسبة والعقاب، برغم أنها تعلم جيداً أن هذه الميليشيات "يأجوج ومأجوج" العصر في البلاد، بزنازينها القابعة تحت الأرض وفي المزارع وبيوت المسؤولين السابقين والأماكن المهجورة حيث تمارَس كل الانتهاكات الوحشية ضد الموقوفين.
أساليب التعذيب التي ذكرها شهود العيان والتقارير الحقوقية كثيرة ومتنوعة، مجرد الحديث عنها موجع وقاتل، فما بالك بعيشها؟ فبالإضافة إلى الضرب والجلد بالسياط والأدوات الحادة، كان هناك الصعق بالكهرباء وإطفاء السجائر في أجساد المعتقلين، ومنع الزيارات ووضع المساجين في زنازين انفرادية للتنكيل بهم. هذا كله كان يحصل بعلم من السلطات التي لا تتجرأ حتى على توجيه اللوم أو الاتهام إليهم.
في ليبيا الثورة، وصل عدد "نزلاء" السجون التابعة للحكومة إلى ما يقارب 11 ألف سجين
شاهد على سجون "الثورة"
في شرق ليبيا، كما في غربها، انتشرت السجون السرّية وتضاعفت، ولا أحد يعلم عددها أو أماكنها. لم يكن أي شيء معلوماً سوى الألم الذي تشعر به كل عائلة ليبية تقريباً، بسبب اختفاء أحد أبنائها. ووفقاً لما رواه شاهد عيان لرصيف22، عن تجربته في سجون الشرق، فإن هذه السجون معروفة بالتصفية والتعذيب حتى الموت، وأغلب تبعيتها كانت "لكتيبة طارق بن زياد"، وكتيبة "أولياء الدم".
ويقول شاهدنا الذي فضّل عدم ذكر اسمه، خوفاً على عائلته وأبنائه: "سُجنت في السابق في معتقل في منطقة 'بوعطني'، وهو سجن سرّي تابع لكتيبة طارق بن زياد تديره مجموعة من 'المجرمين'، وهو مكان لمعسكر قديم توجد فيه 'دشمة' (مبنى تحت الأرض لتخزين السلاح)، وهي مكان لا تتوفر فيه أبسط الاحتياجات الإنسانية مثل دورات المياه أو الأغطية. كان عبارةً عن أرضية إسمنتية ننام عليها، وكان صوت تعذيب المعتقلين ليلاً يقضّ مضجعنا وكل واحد فينا يقول في نفسه إنه التالي". ويضيف: "كنا نقضي حاجتنا في قنينة ماء تُسمّى لدينا 'بانقة'، ويتم تقديم وجبة واحدة في اليوم، وغالباً ما تكون في منتصف الليل، وهي عبارة عن رز سيئ جداً فقط".
ويتابع: "وفي إحدى الليالي، وعند منتصف الليل تقريباً، أتوا بي ووضعوا 'سبطانة البنقدقة' على رأسي من الخلف، وكنت مقيّداً ومعصوب العينين. قالوا لي الليلة ستتم تصفيتك 'حرفياً'، واستمروا على هذا النحو أسبوعاً كاملاً، كل يوم يقودونني مغمض العينين ومكبّلاً ويعلمونني بأن موعد تصفيتي قد حان. كانوا يتلذذون بإهانتي وشتمي وتعذيبي. عشت أسبوعاً من التهديد والترهيب والإهانة في مكان لم أكن أعرفه، ولكن بعد التحرّي اتضح أنه معتقل خاص بكل معارضي خليفة حفتر، ومن ينتقدونه، وبأن من يديره هو شخص اسمه سليمان المسلوخة. لقد تمت في هذا المكان تصفية العديد من الناس من دون أن يعلم أي أحد بهم".
عندما كنت أستمع إلى ضحايا هذه السجون وهم يتحدثون، كنت أحاول أن أضع نفسي مكانهم وأحسّ بما يحسّون به ولو قليلاً، لكنني أحياناً كنت أعجز حتى عن مواصلة الاستماع إلى التفاصيل، كقصة خالتي "عويشة الورشفاني"، التي قرأت عنها في أحد المواقع وقادني التعاطف الإنساني لأعرف عنها أكثر، وهي التي رأت ابنها يُعذَّب حتى فقد بصره، وانتظرتهم ليفرجوا عنه فجاؤوها به محملاً بارداً لا نفس له ولا حراك.
تخيّل أن تفرح ام لمقتل ابنها كي تريحه من العذاب المسلّط عليه يومياً، قد يبدو الوضع قاسياً وغير واقعي لكنه في الحقيقة أشد قسوةً وأكثر إيلاماً.
في السجون السرّية البعيدة عن أعين المنظمات الحقوقية، يجري ما لا يتجرأ عقلك في أحلك الأوقات على أن يفكر فيه، وهناك لا فرق بين رجل وامرأة، أو طفل، وربما لن ينسى الليبيون قصة السجينة التي تعرضت للتعنيف والاعتداء وهي حامل، وقد أنجبت طفلتها في سجن الرويمي في مدينة الزاوية، ولم تستطع حتى أن تعرض قضيتها في المحكمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 5 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت