لا يزال ملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب يؤرق الليبيين، وبات يمثل حجر عثرة في طريق إرساء السلم والأمن المجتمعي. فإبان الحراك الشعبي الليبي في 2011، ضد حكم العقيد معمر القذافي، نقلت تقارير صحافية استخدام القذافي جنوداً من المرتزقة ضد المتظاهرين، وطبقاً للغارديان البريطانية، فإنهم ينتمون إلى دول عدة، مثل تشاد والكونغو الديمقراطية والنيجر ومالي والسودان وبعضهم من آسيا وشرق أوروبا.
عقب سقوط حكم القذافي عام 2011، هيّأت الفوضى التي أعقبت الحراك لتدخّل أطراف إقليمية ودولية من أجل فرض أجندتها الخاصة، حيث نشطت عصابات التهريب، سواء الليبية أو الدولية، بدعم تركي واسع، في جلب السلاح والمرتزقة.
مرتزقة سوريون تحت إشراف تركي
منذ الاتفاق الأمني الذي أبرمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مع رئيس حكومة الوفاق السابقة فايز السراج، بدأ ملف المرتزقة يؤجج الساحة اللببية مجدداً، إذ بدأت الآلاف من جنسيات مختلفة بالتدفق إلى ليبيا، وتحديداً إلى المناطق التي في غرب البلاد، وتسيطر عليها حكومة الوفاق المدعومة من تركيا، وقامت تركيا بإنشاء معسكرات تدريب بإشراف هيئة الأركان والاستخبارات، بلغ عددها 10 معسكرات في تركيا، ومهمتها تأهيل مقاتلين ونقلهم إلى ليبيا، وذلك عقب نقلهم من سوريا عبر معسكرين على الحدود السورية التركية.
مع نهايات عام 2019، أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان أن تركيا بدأت بنقل مسلحين من سوريا إلى ليبيا، عبر طائرات عسكرية تركية إلى إسطنبول وأنقرة، ومن ثم نقلهم إلي ليبيا عبر الطيران المدني الليبي، وتشرف عليهم شركة تركية تُسمّى "سادات". وحسب آخر الأرقام المعلنة من المرصد السوري، فإن أكثر من ثلاثة عشر ألف مرتزق سوري نقلتهم تركيا من سوريا إلى ليبيا خلال الصراع الدائر، بينما قدّرت الأمم المتحدة في تقرير لها عدد المرتزقة الأجانب في سوريا بأكثر من 20 ألف مقاتل، بينهم 13 ألف مقاتل سوري. وبعد تصاعد عمليات النقل والكشف عن تفاصيلها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، اعترفت الحكومة التركية في 21 شباط/ فبراير 2020، بوجود مرتزقة موالين لأنقرة في ليبيا، إلى جانب عناصر التدريب الأتراك.
ظهور مرتزقة "فاغنر" الروسية في ليبيا
في المقابل، جاء ظهور المرتزقة الروس الأُول في المنطقة في أوائل عام 2017، وفي آذار/ مارس 2018، ذكر قادة شركة "فاغنر" العسكرية الروسية الخاصة في إذاعة "سفوبودا"، أنهم سيرسلون بعض القوات قريباً إلى ليبيا، ثم في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، التقى المشير خليفة حفتر خلال زيارته موسكو، بيفيجيني بريغوجين "المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، والذي ترددت في الأوساط الأمريكية والدولية تقارير حوله تؤكد صلته الوثيقة بإدارة شركة المرتزقة الروسية. وبحلول آذار/ مارس 2019، ظهرت تقارير مفصلة تبيّن وجود 300 من المرتزقة من "فاغنر" في قاعدة في بنغازي إلى جانب مشاركتهم في مختلف عمليات الجيش الوطني الليبي، وتشير التقديرات إلى أن مجموعة "فاغنر" بلغ عدد الذين تحت قيادتها في ليبيا بعد ذلك ما يضاهي 3،000 رجل، أغلبهم من السلافيين المنحدرين أساساً من روسيا وروسيا البيضاء والمناطق المستقلة في أوكرانيا (جمهورية نوفيتسك الشعبية، ونوفوروسيا وشبه جزيرة القرم)، بالإضافة إلى ألبانيا وصربيا، بينما وصلت بعض التقديرات بعددهم إلى 3500 مقاتل.
وأشار تحقيق أجرته بي بي سي، بشأن مجموعة فاغنر، إلى أن وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، تموّل وتشرف سرّاً على مجموعة فاغنر، وقد قالت مصادر من المجموعة إن قاعدتها التدريبية في مولكينو في جنوب روسيا، توجد جنباً إلى جنب مع قاعدة عسكرية روسية. ويتواجد مرتزقة "فاغنر" في الداخل الليبي بشكل كبير في محافظة سرت، حيث يتمركزون في قاعدة القرضابية الجوية ومينائها البحري، بالإضافة إلى قاعدة الجفرة الجوية وبراك الشاطئ وسط ليبيا. وبرغم أن موسكو لا تعترف بنشاط "فاغنر" رسمياً، إلا أن الأخيرة تنشط تحت مسميات عدة، سواء كشركات للتعدين والتنقيب عن الذهب والماس، أو كمدربين عسكريين، أو كشركات متخصصة في الحرب السيبرانية. وكانت صحيفة "لوموند" الفرنسية، قد ذكرت أن المملكة العربية السعودية قامت بتمويل قوات فاغنر الروسية في إطار عملية "الجيش الوطني الليبي" للسيطرة على طرابلس، وذلك بعد زيارة المشير خليفة حفتر إلى المملكة.
مرتزقة سوريون ضمن القوات الموالية لحفتر... ودعم إماراتي لمرتزقة السودان
وأكد تقرير مسرب للأمم المتحدة، وجود رحلات جوية بين دمشق وبنغازي، وسمحت هذه الرحلات الجوية بنقل مئات المقاتلين إلى الساحة الليبية، ورصد خبراء الأمم المتحدة 33 رحلةً خلال عام 2020، وينقل التقرير أن عدد المقاتلين السوريين الداعمين للمشير حفتر هو أقلّ من ألفين"، جنّدتهم مجموعة "فاغنر" الروسية عبر مكاتبها في سوريا.
وفي الإطار نفسه، هناك مجموعة من المرتزقة السودانيين يقاتلون داخل ليبيا متمثلين في عناصر من حركة جيش التحرير السوداني، والمجلس الانتقالي لحركة تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة السودانية، وتشير التقديرات إلى أن 3،000 من المرتزقة السودانيين يقاتلون في ليبيا، ويتمركزون في أم الأرانب والقطرون وسبها ومحيط الكفرة وصولاً إلي مناطق جنوب الهلال النفطي، وتقاتل هذه المجموعات من المرتزقة بالإضافة إلى عدد من المرتزقة التشاديين، تحت قيادة حفتر، بدعم مادي روسي إماراتي إذ تم تجنيدهم عبر شركات خاصة. وطبقاً لتقرير سنوي للأمم المتحدة فإن الإمارات العربية المتحدة قد موّلت آلاف المرتزقة السودانيين الموجودين في ليبيا من أجل خدمة "الجيش الوطني الليبي" بقيادة المشير خليفة حفتر، وقالت مصادر عدة داخل هذه الحركات إنه "تمت مناقشة الأموال والدعم والاتفاق عليها في اجتماعات بين قادتهم العسكريين وممثلي الإمارات في ليبيا".
أمريكا وقطر... فوضى التسليح
وبعيداً عن الدعم الإماراتي والروسي لقوات المشير خليفة حفتر، قال تقرير سري للأمم المتحدة تم تقديمه إلى مجلس الأمن، أن حليف ترامب "إريك برنس" استقدم قوةً من المرتزقة الأجانب والأسلحة في 2019، دعماً للمشير حفتر، الذي انخرطت قواته في معارك للإطاحة بحكومة طرابلس، وكشف التقرير أن برنس دعم حفتر بطائرات مسلحة ورحلات استطلاعية وقوارب.
على الجانب الآخر، وحول تسليح المرتزقة، قالت تقارير عسكرية ليبية إن مجموعات المرتزقة السوريين تستخدم أسلحةً حديثةً متوسطةً وثقيلةً، تشتمل على مقذوفات ومضادات للدروع ومنظومة مدفعية وعربات استطلاع وناقلات جند تركية الصنع، بالإضافة إلى أسلحة صربية عدة، متوسطة وخفيفة، جاءتها ضمن شحنة من الجزائر.
واتهم المشير خليفة حفتر، دولة قطر، بدعم بعض المرتزقة في ليبيا عبر دفع الأموال لهم، مشيراً إلى أن قواته تراقب هؤلاء المقاتلين وتسعى إلى التخلص منهم، وفي السياق نفسه اتهم المحلل السياسي الليبي ناصر الفرجاني، في تصريحات خاصة لرصيف22، قطر وتركيا بدعم المرتزقة في غرب ليبيا بالعتاد اللازم عسكرياً، مشيراً إلى أن مطارات غرب ليبيا مفتوحة أمام الإرهابيين من المرتزقة الذين يتم نقلهم تحت إشراف تركي، بالإضافة إلى الموانئ البحرية التي يتم نقل السلاح التركي عبرها لتسليح المقاتلين الأجانب، وأشار الفرجاني إلى امتلاك المرتزقة سلاحاً إيرانياً، وهو ما تم رصده من خلال قوات الجيش الوطني الليبي بعد القبض على عناصر من المرتزقة، منبّهاً إلى أن قطر تستغل علاقتها الجيدة مع إيران لتتمكن من تهريب كميات كبيرة من الأسلحة إلى ليبيا، ويتم ذلك بالتنسيق مع الجانب التركي وقيادات المرتزقة في الداخل الليبي.
حسب آخر الأرقام المعلنة فإن أكثر من ثلاثة عشر ألف مرتزق سوري نقلتهم تركيا من سوريا إلى ليبيا خلال الصراع الدائر
مناطق السيطرة والنفوذ
استطاع الجيش الوطني الليبي المدعوم بالمرتزقة الأفارقة ومجموعة فاغنر الروسية، أن يحرز تقدماً كبيراً خلال معاركه في الشرق الليبي، حيث سيطر بعد معارك مع تنظيمات إرهابية متطرفة طوال ثلاث سنوات، على بنغازي ودرنة وطبرق، وفي مطلع 2020 تمكنت قوات المشير خليفة حفتر من فرض سيطرتها على مدينة سرت الليبية وسط البلاد، بعدما كانت تسيطر عليها قوات مصراتة العسكرية الموالية لحكومة الوفاق الوطني منذ 2016، وعلى غرار المنطقة الشرقية، خضعت أغلبية مدن فزان وبلداته لسيطرة قوات حفتر بعد القضاء على كل العناصر الموالية فيها لحكومة الوفاق.
ونجحت قوات حكومة الوفاق التي تضم المرتزقة السوريين والمدعومة من تركيا، في السيطرة على قاعدة الوطية ومطار طرابلس الدولي ومدينتي ترهونة وبني وليد، لينتهي وجود قوات المشير خليفة حفتر في غرب ليبيا، كما نجحت في السيطرة على العاصمة طرابلس، واستطاعت تأمين العاصمة من غزو قوات المشير حفتر لها، واتّهمت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا مجموعة فاغنر بضلوعها في تشغيل طائرات استُعملت في مهام هجومية في ليبيا، إذ شارك مرتزقة "فاغنر" بشكل نشط في تحضير الهجوم على طرابلس.
وبعد سيطرة قوات حكومة الوفاق على الغرب الليبي كاملاً، اتجهت لأول مرة نحو الشرق الليبي، محاولةً الاستيلاء على مدينة سرت والجفرة، وحينها قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إن تجاوز مدينة سرت وقاعدة الجفرة الجوية الليبية يُعدّ بمثابة "خط أحمر" لبلاده، "وأمنها القومي"، ودعا إلى وقف إطلاق النار في ليبيا عند نقطة الاشتباك على حدود مدينة سرت وقاعدة الجفرة الحصينة. وبرغم المحاولات المتكررة من القوات الموالية لحكومة الوفاق لدخول مدينة سرت والاستيلاء على قاعدة الجفرة، إلا أنها لم تتمكن من ذلك، في ظل تمكّن القوات الموالية لحفتر من صدّ الهجوم، قبل أن يدخل الطرفان في هدنة بعد تدخل أطراف إقليمية ودولية، وبالرغم من خرق الهدنة مرات عديدةً إلا أن خطوط التماس بين طرفي النزاع لم تتغير.
وقف إطلاق النار وإجلاء المرتزقة
في نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020، نشرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا نسخةً من اتفاق وقف إطلاق النار الدائم، الذي وقّعه طرفا النزاع الليبي المنخرطان في اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة، وتضمن الاتفاق إخلاء جميع خطوط التماس من الوحدات العسكرية والمجموعات المسلحة بإعادتها إلى معسكراتها بالتزامن مع خروج جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب من الأراضي الليبية، في مدة أقصاها 3 أشهر من تاريخ
برغم أن موسكو لا تعترف بنشاط "فاغنر" رسمياً، إلا أنها تنشط في ليبيا كشركات تعدين أو كخبراء في الحرب السيبرانية
التوقيع على وقف إطلاق النار. وبالرغم من أن أهم بنود الاتفاق تقضي بإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة في مهلة تسعين يوماً، لكن لم يصدر أي إعلان رسمي من طرفي النزاع عن رحيل هذه القوات أو تفكيكها، بل هناك تقارير تحدثت عن استئناف تركيا نقل المرتزقة السوريين في خضم تدهور الوضع الأمني في غرب ليبيا، حيث شهدت العاصمة وبعض مناطق المدن الغربية اشتباكات بين قوات موالية لحكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وقوات موالية لحكومة فتحي باشاغا المدعومة من مجلس النواب.
تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية
طبقاً لمركز "مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط"، فإن التنسيق الروسي-التركي في ليبيا من العوامل التي حالت دون اندلاع جولة أخرى من الاقتتال بين الفصائل الليبية في مختلف أنحاء البلاد، ويُرجَّح أن يستمر هذا التنسيق في المدى القصير، لكن في المدى الطويل، قد يواجه قرار ضبط النفس امتحاناً صعباً في ليبيا، لا سيما إذا قرّرت روسيا التصعيد، أو في حال أظهرت تركيا تشدّداً أكبر بسبب استعادة الناتو زخمه، أو إذا لجأت المعسكرات الليبية المتنافسة إلى القوة العسكرية. وتظهر ملامح الدور التركي حديثاً في ليبيا عبر تسوية تركيا خلافاتها مع السعودية والإمارات العربية وحوارها مع مصر، إذ تسعى أنقرة ضمن أهدافها إلى الحفاظ على مصالحها في ليبيا التي حققتها عبر تدخّلها العسكري، من خلال اتفاقها معها على ترسيم الحدود البحرية، وتأمين دورها مستقبلاً في خطط إعادة إعمار البلاد.
وقالت جريدة الغارديان البريطانية، إن "مجموعة فاغنر" الروسية نقلت معظم المرتزقة من عساكرها الذين كانوا يقاتلون في ليبيا إلى دونباس على جبهة أوكرانيا، فيما نشرت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، أن روسيا سحبت أكثر من 1،200 من المرتزقة التابعين لها في ليبيا. ويقول الخبير العسكري الليبي عادل عبد الكافي، إن عدداً كبيراً من عناصر مرتزقة "فاغنر" انسحبوا من ليبيا بهدف المشاركة في الحرب الدائرة في أوكرانيا، مشيراً إلى أن "فاغنر" اضطرت إلى إعادة انتشارها في مناطق تواجدها شرق ليبيا، ولفت إلى أن أعداد مرتزقة فاغنر يتراوح حالياً بين 900 إلى 1،000 عنصر فقط. وتراجعت "فاغنر" من مواقع كانت تسيطر عليها في السابق، وأقامت تحصينات في مواقع الانسحاب، نظراً إلى تراجع الأعداد الحالية، فيما عوّضت نقص الأعداد من خلال المرتزقة الأفارقة المتواجدين في ليبيا، إذ دفعت بهم إلى مواقع أقامتها على بعد 20 كيلومتراً في محيط مواقع الانسحاب، في حين زرعت ألغاماً أرضيةً خشية أي هجمات عليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...