كنت في طريقي إلى برشلونة الإسبانية، وهي المرة الأولى التي تكون وجهتي فيها إلى أوروبا.
أوروبا يا أوروبا، وما أدراك ما أوروبا؟ همستُ لنفسي.
لم يجتحني التوتر فقط، ولكن تلك المشاعر المرتبطة بالتأهب للتعامل مع الثقافة الغربية. كنت في العشرين، وتداعب مخيلتي أفلام هوليوود، وحكايات سمعتها من أهلي والجيران والأصدقاء عن تيمة واحدة: في أوروبا كل شيء مألوف ومتاح.
الحرية بمعناها الدقيق، حرية الروح والنفس والمظهر حتى الخيال
في هذا العمر، وفي التجارب الأولى دائماً، تمتلك التفاصيل الصغيرة حيوية لا نظير لها، كأنها تكشف لك عن طبيعتك وطبيعة التجربة في أبعادها المختلفة.
وصلت إلى مطار القاهرة الدولي متأخرة قليلاً، فأنا أهوى اللعب مع الوقت، ودائماً أصل في اللحظات الأخيرة، وأقضي تلك الأوقات في حساب كل ثانية تأخير داخل سيارة التاكسي المتجهة بي إلى المطار.
في تلك المرة، كانت الطبيعة ضدي أو هكذا ظننت. في البداية كان هناك خطأ ما في حجز الطيران، ولكن لم يكن لي يد في ذلك. لذا أبلغني موظف الشركة داخل المطار أنني لن أصعد إلى الطائرة، مع كل جمل الاعتذار عن هذا الخطأ والترضية التي أرغب بها حتى موعد الطائرة القادمة.
بابتسامة باهتة، أخبرته أنني لا أرغب في أي تعويض لكنني سأحجز من خلال شركة السياحة الخاصة بي على خطوط طيران أخرى، وسأنتظر أن تعيد الشركة ثمن التذكرة، وهذا ما حدث.
بعدما كسبت معركتي مع الطبيعة كانت هناك جائزة في انتظاري، طائرة أخرى بعد أربع ساعات فقط من فئة رجال الأعمال، وبنفس سعر التذكرة الملغاة، لم أسأل عن تفاصيل أخرى بسبب سعادتي. ساعات قليلة سأقضيها في المطار وأنا أتسكع، وأستمتع بمطعم رجال الأعمال حتى يحين موعد الطائرة.
شعرت بأنني نجمة سينما تجلس في فخامة، وتنظر لمن حولها نظرة انتصار، فالرحلة لن تؤجل، ولن تلغى، سأصل إلى برشلونة في اليوم الذي حددته حتى ولو كنت متأخرة بضع ساعات.
سيدة الدرجة الأولى
شعرت وكأنها إحدى بطلات أفلام الثمانينيات، كانت أشبه بأثار الحكيم أو غادة الشمعة أو هالة صدقي في تلك المرحلة، ربما كانت " تسريحة " شعرها ما أوحى لي بذلك، لكنها كانت أرستقراطية بلا شك، تخطت الأربعين ببضع سنوات، وعلى عكس عادتي، بل بالأحرى عادة المصريين، تبادلنا الحديث، كنت أمقت التحدث مع الأشخاص في الطائرة حتى لا أجد نفسي في التزام ما لتكملة الحديث طوال وقت الرحلة، ولكن تلك السيدة مختلفة.
رأيت أحياء تشبه وسط البلد في القاهرة مع فارق أنها منظمة جداً، بلاد باردة، ونظامها آلي، حتى مصارعة الثيران باتت غير قانونية... مما جعلني أتساءل: هل الحرية موجودة فعلاً، وكل شيء متاح في أوروبا كما يقولون في مصر؟
سألتني عن سبب سفري، فقلت لها عن طبيعة عملي، كانت الدهشة تملؤها بسبب سفري وحدي، وسألتني أكثر من مرة كيف تمتعت بكل تلك الجرأة للسفر وحدي رغم أنها هي أيضاً تسافر وحدها. ولكنها متزوجة وزوجها ينتظرها في مطار برشلونة، أما أنا فوضعي مختلف، شربت كأساً من النبيذ دون أن تكترث، رغم أنها بررت لي بأنها لا تشرب كثيراً، ولديها نازع ديني قوي. لم يستطع ذهني التوقف عن التفكير في شيء واحد، لا فرق بين طبقة عليا ودنيا، فالجميع في مصر يتخوفون من إصدار الأحكام على أفعالهم حتى ولو كانت عادية أو يمارسون حريتهم الشخصية. صارحتها بما دار في ذهني فقالت لي ببساطة: "ربما الأمر يتعلق بالحلال والحرام، لذلك يعلم الله نوايانا، ولكن البشر قد يعتقدون أننا شياطين".
وسط المدينة
النظام هو أبرز ما وجدته عندما تجولت في الشوارع، مما جعلني أتيقن أنني في أوروبا بالفعل.
النظام.
أنا شخصية عشوائية، لا أهتم كثيراً بالتنظيم، وهذا ما جعلني أختار الهند للاستقرار بعد الخروج من مصر. لدى الهنود فوضى منظمة محببة للنفس، تجعلني أعيش بحرية. لكن برشلونة منظمة، تشبه كثيراً شوارع وسط البلد في القاهرة، وشوارع الإسكندرية العتيقة، ولكن بنظام آلي.
وصلت إلى شارع لارامبلا، تحديداً فندق سيرهس، وكانت غرفتي تطل على الشارع. عندما وقفت في الشرفة، شعرت بأنني جزء من لوحة تشكيلية فائقة الجمال. شرفات عتيقة الطراز وعازفو الغيتار على الجانب الأقصى من الشارع، ودراجات مصفوفة بنظام، كل هذا جعلني أتوقع أنني إذا نظرت من بين إطار آخر دراجة سأرى الجانب الآخر للطريق، وهو ذو خطوط تشبه خلفية البيانو.
كان البرد يزعجني قليلاً أثناء التجول، برد أوروبا له طابع عجيب فهو يتخلل عظامك في يسر، لكنه بالتأكيد لن يمنعني من السير بشوارع أوروبا. هذه معركة أخرى مع الطبيعة.
كرة القدم روح إسبانيا
الكامب نو، ملعب كرة قدم يبعد عن الفندق 15 دقيقة بالتاكسي، بالطبع لن أفوت تجربة كهذه، فبعيداً عن أنها تجربة سياحية مشوقة لأي شخص، فالأمر بالنسبة لي خاص جداً، فأنا عاشقة لكرة القدم، وفريق برشلونة هو فريقي المفضل.
وأنا في الطريق سألت السائق عن مصارعة الثيران، فهي رمز من رموز برشلونة، فأخبرني أنها باتت من الماضي، وحالياً هي غير قانونية.
لدى الهنود فوضى منظمة محببة للنفس، تجعلني أعيش بحرية. لكن برشلونة منظمة، تشبه كثيراً شوارع وسط البلد في القاهرة، وشوارع الإسكندرية العتيقة، ولكن بنظام آلي
كانت جولتي في الاستاد الرياضي ساحرة، رغم أنه يشبه ملاعب كرة القدم المصرية ولكن الأجواء التسويقية المحيطة به جعلت فسحتي أكثر إمتاعاً، خاصة معرض الفريق ومركز التسوق.
كنت أتوقع أن يكون مرسى السفن والمراكب كالمراسي في مصر أو الهند أو حتى دبي ولكنه لم يكن كذلك. في حياتي كلها لم أر هذا العدد من المراكب على الشاطئ حتى أنني بذلت مجهوداً لأرى الماء من بينها جميعها.
البحر كان لونه أبيض، يتجانس مع لون السماء الأزرق، مصحوباً بنسمات هواء فضية، تجعلنا نفقد إحساسنا بالزمن. ثم نستفيق ويعود لنا إحساسنا بالزمن، هنا في ميناء برشلونة أمام روعة الطبيعة ورقي النظام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه