أثناء قراءتي لأحد الكتب، تلك التي تتحدّث عن النجاح كفكرة أساسيّة، وعن تأويلاته من عدة مناظير مختلفة، مررت بالصدفة على عبارة نُسبت لعالم الكيمياء الفرنسي لويس باستور، يقول فيها: "دعني أخبرك بالسرّ الذي قادني إلى هدفي. إن قوتي تتركز في عنادي".
في الحقيقة، لطالما كانت العبارات الاعتراضية أو المقتبسة الموجودة في الكتب والروايات والمجلات، وحتى تلك المكتوبة على أكياس الحبوب، هي المفاتيح التي أبحث عنها، مفاتيح كل شيء أكتبه، سواء في الشعر، القصّة أو حتى في كتابة يوميّاتي العادية.
وبالعودة الى العبارة آنفة الذّكر، فإنّها، وللأمانة، كانت مفتاحاً لبابين فيما لو أردت استخدامها للدّخول في التساؤلات والبحث عن الإجابات، فهي من جهة تبدو ذات أفق واسع فيما يخص مواضيع وضعيّة، كتلك المتعلّقة بتحقيق الأهداف والسعي وراءها، وتنوّه بشكل واضح وصريح إلى أن العناد يُعتبر من الأدوات الأساسية لتحقيق الهدف، أو الوصول للشيء الذي نريد تحقيقه، مهما كان ذلك الشيء.
بينما من ناحية أخرى، قد يلتبس علينا المعنى النهائي في كلمة "عناد" التي أتى العالم لويس على إيرادها في عبارته، كأنّ العناد بمفهومه المطلق هو نفسه عند البشر جميعاً، وكأن معانيه لا تختلف بين شخص وآخر، أو كأنّ العناد هو نفسه باختلاف المعطيات المتاحة والظروف المحيطة.
سنتفق على أن هدف أي سجين هو الحرية والخروج من سجنه،لكن، هل هذا الهدف بالنسبة للسجين هو هدفه في الحياة، أم أنّه مجرّد هدفٍ صغير سابق، جاء تحت ظروف طارئة؟
التّشابه في المعنى والاختلاف في المقصد
ربما نستطيع أن نسأل أنفسنا عدة أسئلة تمكّننا من بناء فكرة قد نتبنّاها معاً، وهي أن عنادنا يعتمد على الأشياء أو الأدوات الملموسة من حولنا، والتي تعتبر الرّديف الأساسي في جعل رؤية الهدف واضحة. يعني، لا أستطيع أن أكون عنيداً في أمر ما بينما كل شيء يشير إلى أن ذلك الأمر ليس صواباً، وهذا الكلام هشّ إلى حد كبير، بسبب اختلاف الآراء أصلاً حول موضوعَي الخطأ والصّواب، ويظل الفيصل بينهما هو النتيجة النّهائيّة للفعل الذي نقوم به. لذلك، هل يكفي العناد وحده في ظل ظروف غير تلك التي كانت متاحة له (أقصد العالم لويس)؟ وبماذا يفيدنا العناد في حال كانت الأدوات اللازمة لتحقق هدف ما أو حل مشكلة ما، غير متوفرة؟
ربّما لكي نجيب عن أيّ سؤالٍ، يتوجّب علينا في البداية أن نتفق على معنى المفاهيم وشكلها وتأويلاتها النّهائية، لأن لا شيء مطلق، فمفهوم الهدف مثلاً هو في العموم مفهوم تراكميّ، أي أنّ كل هدفٍ علينا تحقيقه، لا بدّ لنا قبل ذلك أن نُحقّق أهدافاً أصغر منه، توصلنا إليه، وهنا تختلف التّسميات والأمثال المضروبة في السعي لتحقيق الهدف: "طلوع السلم درجة درجة" و"طريق الألف ميل يبدأ بخطوة"، وفي كثير من الأحيان تنزاح هذه التسميات جهة التعابير الأكثر دقة، كأن نقول عن الفترات التي تسبق تحقيق هدف ما في الحياة، إنّها مجرّد مراحل.
الهدف، وتغيّر ماهيّته بتغيّر الظروف المحيطة
أغلبنا، في بدايات نشاطنا الفكريّ وذروة طاقتنا في السّعي، نبدأ برسم خطوط عريضة تتلاقى في نهاياتها عند هدف ما، وقد تكون الأهداف في مرحلة من المراحل كثيرة ومتشابكة ومتشعّبة، ثم نبدأ رويداً رويداً بتنسيقها حسب الأولويّة، ونصيرُ فيما بعد، نخطط لتحقيقها مأخوذين بأحلام اليقظة، متخيلين لحظة الانتصار، حيث تغمرنا أضواؤنا الداخلية، وتغيّبُ عنا الكثير من الأمور المُعيقة للتّقدّم، فنكتشف بعد فترة من الزّمن، أن سقف الأحلام أعلى قليلاً، أو ربما كثيراً مما كنا نصبوا إليه، وذلك بطبيعة الحال، قد ينعكس سلباً على حساباتنا، فنقوم بتعديلات تكتيكية على حماسنا، من خلال تخفيفه والرجوع خطوة للخلف، لتكون الأمور أكثر وضوحاً.
أو من جهة أخرى، كيلا أُغفل كل الاحتمالات، قد ينعكس موضوع "الحماس الزّائد" بشكلٍ إيجابيّ، فتزداد، إثر ذلك، رغبتنا في التّحدي من أجل الوصول.
الظروف المحيطة، ودورها في تحقيق الهدف
ماهي الظّروف الأسوأ في العالم؟
بالتّأكيد، هذا السّؤال فضفاض جدّاً، أمام كل الاحتمالات المتاحة للحديث عن الظروف المحيطة بكل إنسان، وقد يذهب البعض في الإجابة عن هذا السؤال إلى آخر ما يستطيعه التفكير، فنقول مثلاً إن الحياة بمفهومها العام هي "مجرّد ظروف"، وقد يرى آخرون أنّ ما نعيشه "ليس ظروفاً طارئة على حياتنا السعيدة"، بل إنّ ما نعيشه هو الحياة بعينها، التي لا يمكن أن تكون سعيدة طالما أنّ احتمال تغيّرها وارد في أيّ لحظة.
وقد يحتاج أمر الحديث عن الالتباس بين المفاهيم شوطاً شاسعاً، لا مجال لتضمينه هنا، لكن من أجل العودة إلى مفهوم الظروف المحيطة وعلاقتها في تحقيق الأهداف، أقول: ماذا لو فكّرنا في سجين ما، أقصد في ظروفه، وماهو الهدف الذي من المحتمل أن يكون مُسيطراً على تفكيره خلال فترة سجنه القسري؟
أعتقد أنّنا سنكون متفقين إلى حدّ كبير، على أن هدف أي سجين هو الحرية والخروج من سجنه.
أثناء قراءتي لأحد الكتب، تلك التي تتحدّث عن النجاح كفكرة أساسيّة، مررت بالصدفة على عبارة نُسبت للعالم لويس باستور، يقول فيها: "دعني أخبرك بالسرّ الذي قادني إلى هدفي. إن قوتي تتركز في عنادي"
لكن، هل هذا الهدف بالنسبة للسجين هو هدفه في الحياة، أم أنّه مجرّد هدفٍ صغير سابق، جاء تحت ظروف طارئة، أو كما قلت في بداية هذا المقال: إنّه "مرحلة من مراحل تحقيق الهدف الرئيسي"، الهدف الذي ربّما كان ينشده ذلك السّجين قبل أن يُحاصر بين أربع جدران والذي قد يكون زواجاً أو سفراً أو حصولاً على منصب ما؟ وهل هذه المرحلة الطارئة تتطلب مرحلة أقل منها للوصول إليها؟
بالتأكيد، كي نتمكّن من الوصول إلى هدفنا الرّئيسيّ في حياتنا، علينا قبل كل شيء أن نحافظ على الحدّ الأدنى من الإمكانيات التي ستساعدنا في الوصول إليه، تماماً كالسّجناء، الذين لا بدّ لهم قبل التفكير في تحقيق أهدافهم في الحياة العادية، أن يحقّقوا هدفهم الأكثر ضرورة ، وهو بقاؤهم على قيد الحياة داخل السجن.
الاستفادة من كل الممكنات المحيطة للخروج بفكرة
في واحدة من القصص التي أعمل على كتابتها وتوثيقها، تميل الأحداث في كثير من جوانبها إلى الإضاءة على ظروف قد لا يُخيّل لبشر أنّها قد تكون موجودة، حيث يُخبرنا أحد المساجين في تلك القصة، أنّ السجان دخل عليهم فجأة، وطلب من كل الذين صار شعرهم طويلاً، النهوض كي يحلقوه، وكان ذلك السّجين واحداً منهم، حيث ساقهم السجّان في رتل واحد وراء بعضهم، وحين وصل الدور إلى السّجين المذكور، حلقوا له شعره كاملاً، وتركوا له في وجهه نصف شارب كي يصير أضحوكة أمام المساجين الآخرين.
هذه الحادثة، خلقت عند السجين نوعاً من الخيبة التي دفعته إلى التفكير في أمر لم يكن ليخطر في باله لولاها، وبات اهتمامه مصبوباً بشكل كبير على احتماليّة وجود مرآة في السّجن.
اختلفت الظروف، وحدث أمرٌ طارئ دفع السّجين لجعل البحث عن مرآة هدفاً رئيسيّاً له، بسبب الفضول لرؤية شكله ومعرفة سبب موجة السخرية التي عصفت به لحظة دخوله الزّنزانة.
في الحقيقة، يبدو أمر إيجاد مرآة في السّجن رفاهيّة تفوق إلى حد كبير أيّ شيء قد يسعى سجين ما لتحقيقه، لكن ما هو احتمال أن يكون هناك في السّجن أدوات تمكنك من صناعة مرآة؟
بكل بساطة قد نظنّ أن ذلك مستحيل، لكن "العناد" الذي انتاب السّجين كي يرى شكله كيف أصبح، دفعه لصنع مرآة باستخدام الإناء الذي يُسكب فيه الطعام وضوء الزنزانة الوحيد وقميصه الدّاخليّ الأسود، ولن أتحدّث هنا عن تفاصيل عملية اختراع المرآة، لكنّ الشّاهد من القصّة هو أنّ الوصول إلى هكذا اختراع بهذه الإمكانات داخل الزنزانة، ليس إلا نتيجة لذلك "العناد" الذي قصده العالم لويس، حيث إنّني، ومن وجهة نظر شخصيّة، أرى أن السّجن "في سياق متصل" هو دافع سلبي جدّاً لتدريب الروح على العناد، الذي يتجلى في مقاومة كل شيء يجعله يفقد الأمل من الخروج، وذلك كيلا يتحول تفكيره إلى تمنّي الموت، والذي يكون في أغلب الأوقات هدفاً لامعاً خلفَ القُضبان، وهنا تأتي فكرة "العناد من أجل البقاء" تليها فكرة "نيل الحرية" التي تعتبر بالنسبة لجميع البشر الهدفَ الأسمى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...