بكلمات قليلة، هنّأت الفنانة السورية رشا رزق، الناس بعيد الفصح عبر صفحتها الرسمية في فيسبوك، كاتبةً: "فصح مجيد لكل أحبابنا في العالم العربي، والعالم أجمع". ومن كان ليعرف أن "تهنئةً بالعيد" قد تأتي بكل هذه الفوضى غير المبررة؟
رشا رزق، الفنانة السورية وأستاذة الغناء الأوبرالي، صاحبة تاريخ حافل بالنشاط الموسيقي بين دراسة الموسيقى، والمشاركة في الفرق الموسيقية وتأسيسها، والعديد من المسرحيات الموسيقية والألبومات، وهي معروفة بتأديتها شارات الكثير من المسلسلات الكرتونية التي تأثّر بها جيل كامل في طفولته.
"أنستازيا"، "القناص"، "أبطال الديجيتال"، و"الملاذ الأخير"، وحتى "عهد الأصدقاء" و"دروب ريمي"... هذه كلها لم تمنع الهجوم الديني الإلكتروني على رشا زرق في التعليقات، تحت ذريعة الكليشيه التقليدي الذي أحدثه أئمة التطرف: "هل يجوز للمسلم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم؟". وقطعاً من دون أن تفكّر حتى في مدى سخافة السؤال ولا جدواه، سيجيبك المتطرفون: "لا يجوز ذلك، ومن يفعلها علناً سنهاجمه، ولا تسأل لماذا، لأننا نحن أنفسنا لا نعرف لماذا، فقط هكذا تم تلقيننا".
أنتِ لست ملكاً لنفسك لتقرري، أنتِ ملك سلطتنا!
حين يكون الحديث عن المرأة، فإن العقل المتطرف يعمل على أساس التسلّط الديني، والوصاية الأبوية، ويرى أن تلك السلطة تنبثق من مكان سماوي بعيد ومقدّس، أشبه ما يكون بمستودع للأوهام التي يراها المتطرف دستوراً لحياته، وينكر تماماً أنها صناعة عقله الجامد الذي لا يجرؤ على امتلاك إرادة حرة.
فالمرأة لدى الأوساط المتطرفة، إما أن تكون "صالحةً"، أي خاضعةً للنظام الكهنوتي الذكوري حتى في استقلالها، أو خارجةً عن السياق المحدد للفضيلة، وتالياً منبوذةً وغير مقبولة. وفي أحيانٍ نادرة، قد تتمكن المرأة من فرض ذاتها على المجتمع كـ"حالة ناجحة"، نظراً إلى ظروف استثنائية، كأن تكون طبيبةً ناجحةً مثلاً، أو فنانةً معروفةً (تقدّم فنّاً مُرضياً للنظام الاجتماعي المتدين)، وفي هاتين الحالتين مثلاً تقدَّم لها امتيازات استثنائية من المجتمع، ولكن هذا لا يعني أنها أصبحت خارج المراقبة والوصاية.
في أحيانٍ نادرة، قد تتمكن المرأة من فرض ذاتها على المجتمع كـ"حالة ناجحة"، كأن تكون طبيبةً ناجحةً مثلاً، أو فنانةً معروفةً، وفي هاتين الحالتين مثلاً تقدَّم لها امتيازات استثنائية من المجتمع، ولكن هذا لا يعني أنها أصبحت خارج المراقبة والوصاية
خطأ واحد وفقاً لحسابات ذلك المجتمع، من الممكن أن يضع مسيرتها على المحك، أو يعرّضها لشتى أنواع التهديد، فتكون في هكذا حالة تحت ضغوط إضافية لتحافظ على التوازن الذي صنعته مع مجتمعها.
تجلّت هذه الحالة بوضوح في مشهد الهجوم الإلكتروني للمتطرفين على الفنانة رشا رزق، الذين عرفوها من خلال أغانيها للأطفال، من دون أن ينظروا إلى مسيرتها الفنية الطويلة. فهم يرونها "تلك المؤدية التي كبرنا مع أغانيها، وهي ملتزمة بمعايير تسلّطنا الديني، ولا تشكل تهديداً لنا، ولا تشارك في المؤامرة الكونية التي تحاك ضدنا، وتالياً فهي حالة خاصة يحق لها أن تظهر كما تشاء، أما أن تهنّئ المسيحيين بعيد الفصح! فهذه كارثة، ولن نسكت أبداً".
لقد دارت تعليقات الهجوم جميعها، على منشور التهنئة بعيد الفصح الذي نشرته رشا رزق، حول فكرة واحدة، وهي "خيبة الأمل"! وكأن الوعي الجمعي للمتطرفين يقول: "لقد خيّبت يا رشا رزق أملنا بك، أنتِ التي ظهرتِ في زمن المزاوجة بين الصراخ الوطني، والإسلام السياسي، لتغنّي لنا أطفالاً، ولذا عددناكِ واحدةً منا، واليوم تهنئين المسيحيين بأعيادهم!".
إن حجم التكلفة التي صُرفت على مشروع الإسلام السياسي كانت كفيلةً بإقناع أي أحد مهما كان راسخاً في فكره، بأن "الإسلام هو الحل".
في واقع الأمر، لم تكن هناك مناسبة سابقة لتتحدث فيها رشا رزق، عن قناعاتها وأفكارها الشخصية وتوجهاتها. كانت فقط تظهر عبر صوتها لتغنّي شارات البداية والنهاية لمسلسلات قناة "سبايستون"، تلك الفضائية المقبولة اجتماعياً، والتي كانت تدور في فلك الأفكار السائدة آنذاك، وهذا ما دفع المتطرفين لتوقّع أن رشا "بطبيعة الحال"، تعتقد كما يعتقدون، وتنتمي إلى الحالة نفسها التي ينتمون إليها.
لذا كانت صدمةً للمتطرفين أن تنشر رشا رزق، مثل هذه التهنئة، وهذا ما دفعهم لمهاجمتها وتهديدها، فالمتطرف لا يمكنه استيعاب أفكار مثل: "كل إنسان لديه الحق في أن تكون له معتقداته الخاصة، وإرادته الحرة، وتوجهاته المستقلة، بل يتوجب عليه احترام تلك الاستقلالية وتقبّلها...".
هل هؤلاء هم شباب المستقبل؟
لا يمكننا إنكار الفئات الواسعة من المجتمعات العربية التي تتّسم بالتحرر والانفتاح والتقبّل، والتي تشكّل نسبةً جيدةً في الأوساط الاجتماعية في كل بلد، تلك الفئات التي تعطي متّسعاً من الأمل والتطلع إلى مستقبل مختلف عما نعاصره، ومصير مغاير عما يدفعنا نحوه الوعي الأبوي/ السلطوي للمجتمع العربي، كرأي الشارع، والبنى الفكرية للسواد الأعظم الذي يشكّل الصورة النهائية للمنطقة.
ربما هي صدمة حقيقية، لمن قضى وقتاً من عمره يبذر أفكاراً عن الخير والعطاء والعمل والإبداع والمحبة، أن يحصد كل هذا التشتت والتيه، وأن تتم مهاجمته أيضاً من الجيل نفسه الذي كان يتوقع أن يكمل مسيرته، في تعميم الحب والعمل والإبداع، كلاً حسب طريقته.
ما زالت النظرة الكلاسيكية إلى الدين هي ذاتها، بل إن تراكم الأزمات والانتكاسات زاد من الأمر تعقيداً، وأظهر حالات غريبةً كـ"مجاهدي السوشال ميديا" الذين يجدون قيمة الحياة في تهديد الآخرين، وفرض الوصاية الدينية على آرائهم
ولكن تلك الصدمة كانت متوقعةً على أي حال، فمن يتتبع الحياة التي عاشها جيل التسعينيات الذي غنّت له رشا رزق، عبر شركة الزهرة التي كانت تبث أعمالها عبر فضائية أنشأتها الشركة للأطفال حملت اسم "سبايستون"، مطلع العام 2000، يجد أنها لم تكن حياةً، "خصوصاً في مناطق الحروب والنكبات"، بقدر ما كانت تأريخاً للصراع، وتسلسلاً للأزمات، وتلقيناً دينياً للأجيال بأن الإسلام وحده هو نجاة الأمة، ومن لا يلتزم بالنص الديني الحرفي، فهو إلى الهلاك.
لقد عاصر ذلك الجيل بداية الانتكاس الحقيقي للشعوب العربية، فكانت حقبة صعود الوهابية، وتمكين السلطة الأبوية، وسلطة رجال الدين، والتمهيد لعرض الإسلام السياسي في الأسواق كمنتج جديد سحري وفعّال لحل جميع قضايا الشرق الأوسط، شرط الإذعان لكل ما يأمر به مروّجو ذلك المنتج، حتى يتم الحصول على أفضل نتيجة.
كان شعار "الإسلام هو الحل"، عنوان تلك المرحلة، إذ إن نسبةً كبيرةً من التنويريين والطبقات البرجوازية والمثقفة والاشتراكيين وفئات المعارضة المختلفة، ارتدت الحجاب، وأطالت جلابيبها، وجلست في المسجد تنتظر النصر العظيم والفوز الأكبر. إن حجم التكلفة التي صُرفت على مشروع الإسلام السياسي كانت كفيلةً بإقناع أي أحد مهما كان راسخاً في فكره، بأن "الإسلام هو الحل". كان العربي آنذاك يعيش فترة يأس وخذلان، فإسرائيل تفتك بفلسطين، وأمريكا تتحضر لغزو العراق، والمنطقة بأسرها كانت بين تعافٍ من احتلال، وغليان داخلي وصراع على الشكل الذي ستحمله لاحقاً.
تلك العوامل كلها ساهمت في تعزيز المنهج المتطرف، والفكر الوهابي السلفي الأصولي، والتمسك المرضي بالإسلام، كسبيل للخلاص من حالة التشرذم والضياع؛ هكذا روّج أزلام الإسلام السياسي للأمر، حتى أن مركز الزهرة ارتأى أن يعرّب أعمال الأنمي اليابانية بشكل تام، بحيث تجاوز الأمر الدبلجة إلى تعديل الحوارات، وشكل الشخصيات، وبعض المنعطفات الدرامية، لتناسب تلك الأعمال "الأفكار العربية" التي كانت دارجة في ذلك الوقت.
وإلى يومنا هذا، ما زالت النظرة الكلاسيكية إلى الدين هي ذاتها، بل إن تراكم الأزمات والانتكاسات زاد من الأمر تعقيداً، وأظهر حالات غريبةً كـ"مجاهدي السوشال ميديا" الذين يجدون قيمة الحياة في تهديد الآخرين، وفرض الوصاية الدينية على آرائهم، كما في حالة رشا رزق. وإذا كانت الوصاية الدينية تُفرض في السابق طلباً للغفران والخلاص واستعادة الأوطان، فهي الآن تُفرض بلا أي سبب منطقي! تأتي فقط كحالة استكمالية لحالة الضباب والغمام التي يعيشها ذلك "المجاهد الفيسبوكي"، بين الأنظمة الرجعية والأنظمة الدينية والأنظمة الدولية الشمولية، حتى لم يعد يعرف أين يقف، وفجأةً يجد نفسه يهدد فنانةً وموسيقيةً "بأنه سيفجرها"، إن هي هنّأت المسيحيين مجدداً بأعيادهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...