ترسم الروايات التاريخية صورة شائعة لعلاقة الأمويين وبني عبد شمس بالإسلام المبكر، مفادها أنهم قادوا المعسكر القرشي المحارب للدين الجديد، وبذلوا ما في وسعهم للقضاء عليه بشتى السبل الممكنة.
ولكن على الرغم من شيوع تلك الصورة في الكثير من الكتابات التاريخية، واستنادها إلى وقائع عن صراعات حادة بين بعض الوجوه البارزة من بني عبد شمس وبين أوائل المسلمين، إلا أنها تفتقر، إلى حد كبير، إلى الدقة والموضوعية. ففي الحقيقة، اعتنق الكثير من الأمويين الإسلام في بداياته الأولى، ولعبوا أدواراً مهمة في مساندة الدعوة المحمدية في كل من مكة والمدينة.
الصورة الشائعة
تظهر علاقة الأمويين وبني عبد شمس بالإسلام والنبي محمد في الكتابات التاريخية على أنها علاقة بين غريمين قبليين قديمين. وأفرد المؤرخ تقي الدين المقريزي كتاباً كاملاً للحديث عن تفاصيل تلك العلاقة العدائية التي لم تهدأ نارها على مر السنين في كتابه "النزاع والتخاصم في ما شجر بين بني أمية وبني هاشم".
يحكي المقريزي في كتابه قصة ولادة الأخوين هاشم وعبد شمس، ولديّ عبد مناف بن قصي بن كلاب، زعيم مكة، ويقول إن "عبد شمس وهاشم كانا يوم وُلدا في بطن واحد، وكانت جباههما ملتصقة بعضها ببعض، فأخذ السيف ففرّق بين جباههما بالسيف، فقال بعض العرب: فإنه لا يزال بينهم وفي أولادهم للأبد".
استناداً إلى تلك القصة، يحكي المقريزي عن العداء المستحكم الذي انعقد بين بني هاشم وبني عبد شمس، وكيف أن عبد شمس وابنه أمية حسدا هاشم على المكانة العظيمة التي وصل إليها في مكة. ثم ينبري المقريزي لسرد تفاصيل العداء الذي نصبه زعماء البيت العبد شمسي للنبي محمد حينما دعا قريش للدخول في الإسلام. وبحسب تلك الصورة، ناهض هؤلاء الزعماء الدعوة الإسلامية، وكان منهم كل من عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وأبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعملوا على تعذيب المسلمين وإبعادهم عن النبي. ولمّا هاجر المسلمون إلى يثرب قاد هؤلاء الزعماء جيوش قريش وحلفائها للقضاء على دولة المدينة الناشئة، وقُتل بعضهم في تلك المعارك بسيوف المسلمين.
تؤكد السردية الشائعة أن العداء بين بني هاشم وبني عبد شمس لم ينتهِ مع فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وأن الحزب الأموي السفياني ظلّ يضمر الكراهية للبيت العلوي الهاشمي. وظهر ذلك في العديد من المواقف، منها ما وقع في حرب صفين، في العام 37هـ، عندما رفض والي الشام معاوية بن أبي سفيان الأموي الامتثال لسلطة الخليفة علي بن أبي طالب الهاشمي، فقاد الجيوش الشامية لقتال أهل العراق، ومنها ما وقع في العام 61هـ عندما قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء على يد الجيش الأموي الذي أرسله الخليفة يزيد بن معاوية.
ويعبّر المقريزي عن تلك السردية العدائية المتكررة عبر الأجيال في بيتين شهيرين:
عبد شمس قد أضرمت لبني ها/ شم حرباً يشيبُ منها الوليدُ
فابنُ حربٍ للمصطفى، وابنُ/ هندٍ لعلي، وللحسينِ يزيدُ
بموجب تلك الرؤية، عادى الأمويون وبنو عبد شمس النبي وعلي بن أبي طالب والحسين لكونهم من بني هاشم. ولذلك رفضوا الإسلام جملة وتفصيلاً، ولم يدخلوا فيه إلا بعد أن هُزموا وتيقنوا من أن إظهار إسلامهم هو الحل الوحيد لحقن دمائهم.
وعلى الرغم من أهمية تلك السردية واعتباريتها التاريخية، إلا أن هناك بعض المشاهد الناقصة في تلك القصة، وهي مشاهد تبيّن أن عداء زعماء الأمويين للإسلام لم يمنع الكثير من أبناء هذا البيت من اعتناق الدين الجديد منذ فترة مبكرة.
الرجال... عثمان وأبي حذيفة وخالد بن سعيد
اعتنق الكثير من الأمويين والعبد شمسيين الإسلام منذ فترة مبكرة من عمر الدعوة المحمدية. من هؤلاء عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. تؤكد أغلبية المصادر التاريخية أن عثماناً كان من ضمن السابقين الأولين إلى الإسلام. وتصبغ بعض الروايات قصة إسلامه بصبغة إعجازية، فتذكر أنه كان في تجارة في بلاد الشام، وبينما هو في الطريق إلى مكة سمع منادياً يدعوه لتلبية دعوة النبي واعتناق الدين الإسلامي.
ويذكر ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبير" أن عثمان عانى كثيراً للحفاظ على إسلامه: "لمّا أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطاً وقال أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث والله لا أحلك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان: والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه".
ترسم الروايات التاريخية صورة شائعة لعلاقة الأمويين وبني عبد شمس بالإسلام المبكر، مفادها أنهم قادوا المعسكر القرشي المحارب للدين الجديد. ورغم استنادها إلى وقائع كثيرة، إلا أنها تفتقر، إلى حد كبير، إلى الدقة والموضوعية
تزوج عثمان من رقية ابنة النبي وهاجرا معاً إلى الحبشة. ورجع بعدها إلى المدينة المنورة وأقام مع المسلمين. ولمّا توفيت رقية في السنة الثانية من الهجرة، زوّجه النبي من ابنته الثانية أم كلثوم. وتتفق الكتابات السنّية على المكانة المهمة التي حظي بها عثمان عند النبي، وعلى دوره المهم في تسيير أمور الدولة الإسلامية الناشئة. على سبيل المثال يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أن النبي استخلف عثمان على المدينة عند خروجه لغزو غطفان في السنة الثالثة من الهجرة، كما أنه استخلفه مرة أخرى عند خروجه في غزوة ذات الرقاع في السنة الرابعة من الهجرة. كذلك كان لعثمان دور مهم في أحداث صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وتتفق الروايات على اعتباره واحداً من العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم النبي بالاسم.
ومن المناقب الكثيرة التي تُذكر لعثمان أنه لمّا وصل إلى المدينة وجد المسلمين يستقون من بئر مملوكة ليهودي، وكانوا يدفعون له الأموال مقابل السقيا، فاشترى البئر من اليهودي ودفع في ذلك مبالغ عظيمة من الأموال، ثم وهب البئر للمسلمين دون مقابل، فوعده النبي عندها بالجنة، بحسب ما يذكر البخاري في صحيحه.
من المُرجح أن زعامة بني عبد شمس وبني أمية آلت إلى عثمان بعد فتح مكة. كان أقدم بني عبد شمس إسلاماً، وأقربهم مودة إلى النبي. وظهر ذلك بشكل واضح في العام الـ23 من الهجرة عندما قُتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، واختير عثمان ليكون واحداً من ضمن الستة المرشحين لاعتلاء كرسي الخلافة. وساند رجال عبد شمس عثمان وأيدوه حتى وصل إلى الحكم. وبعدها أحاطوا به وصاروا ولاته ووزرائه ومساعديه. وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثوة واغتيال عثمان في العام 35هـ.
أيضاً، يُعدّ أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس واحداً من العبد شمسيين الذين أسلموا في وقت مبكر. يكتب شمس الدين الذهبي عن توقيت إسلام أبي حذيفة في كتابه "سير أعلام النبلاء": "أحد السابقين… أسلم قبل دخولهم (أي المسلمين) دار الأرقم…".
هاجر أبو حذيفة إلى الحبشة، وولد له فيها ابنه محمد بن أبي حذيفة، والذي سيصير في ما بعد واحداً من كبار الثوار الذين قادوا حركة المعارضة ضد الخليفة الأموي عثمان بن عفان في العام 35هـ. ومن مناقب أبي حذيفة التي وردت في المصادر التاريخية أنه شارك في غزوة بدر، وأنه دعا أباه عتبة بن ربيعة للمبارزة. كما أنه قُتل في معركة اليمامة في العام الـ11 من الهجرة أثناء قتال مسلمة بن حبيب الحنفي المعروف بـ"مسيلمة الكذاب".
من الأمويين الذين اعتنقوا الإسلام في وقت مبكر خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. وتروي بعض الأخبار أنه لما قُتل، في غزوة أجنادين في العام 13هـ، خرج منه نور ساطع إلى السماء
في السياق نفسه، تتحدث المصادر عن الأخوين خالد وعمرو ابني سعيد بن العاص بن أمية. وصف الذهبي خالداً في السير بأنه "أحد السابقين الأولين". وتذكره بعض الروايات باعتباره خامس شخص يعتنق الإسلام. هاجر إلى الحبشة ومكث فيها لسنوات طويلة، ثم لحق بالنبي إلى المدينة المنورة بعد غزوة خيبر في السنة السابعة للهجرة. وتُنسب له بعض المناقب ومنها أنه كان أول مَن كتب "بسم الله الرحمن الرحيم". عيّنه النبي في ولاية صنعاء في اليمن، ونصّبه أبو بكر الصديق قائداً على أحد الجيوش المشاركة في غزو الشام، وقُتل في غزوة أجنادين في العام 13هـ، وتروي بعض الأخبار أنه لما قُتل خرج منه نور ساطع إلى السماء.
أما عمرو بن سعيد بن العاص، فقد أسلم بعد أخيه خالد بفترة يسيرة. ورافقه في رحلة الهجرة إلى الحبشة، وأثناء رحلة العودة إلى المدينة المنورة. تذكر له الروايات بعض المناقب، من أهمها أنه صنع الخاتم الذي أهداه للنبي، ولبسه من بعده كل من أبي بكر، وعمر، وعثمان، بحسب ما يذكر ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب في معرفة الأصحاب".
كذلك، يذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة" أن النبي عيّن عمرو على تبوك وخيبر وفدك. ومن بين النقاط الجديرة بالملاحظة في سيرته أنه عُرف بولايته لعلي بن أبي طالب حتى وصفه محسن الأمين العاملي في كتابه "أعيان الشيعة" بأنه "كان من شيعة علي أمير المؤمنين".
النساء والحلفاء... أم حبيبة وعبد الله بن جحش
عُرفت أيضاً مجموعة من النساء الأمويات اللواتي دخلن في الإسلام منذ وقت مبكر. منهن أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية. يذكر الذهبي أنها أسلمت في بدايات الدعوة الإسلامية في مكة. وهاجرت مع زوجها عُبيد الله بن جحش إلى الحبشة. ولمّا مات زوجها أرسل النبي إليها فخطبها، وسافرت بعدها مع المسلمين فقدمت إلى المدينة في السنة السابعة من الهجرة، وعاشت فيها حتى توفيت في العام 44هـ في حكم أخيها معاوية.
ويروي ابن سعد في "الطبقات الكبير" أنه "لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه، فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك".
ومن هؤلاء النساء أيضاً رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس. يروي الذهبي أنها أسلمت مبكراً مع زوجها عثمان بن عفان، وهاجرت معه إلى الحبشة. ولا نعرف شيئاً عن توقيت وفاتها.
وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية من الأمويات اللواتي اشتهر خبر دفاعهن عن إسلامهن. يذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "الإصابة" أنها أسلمت في مكة في وقت مبكر من عمر الدعوة المحمدية، وأنها خرجت للحاق بالمسلمين بعد صلح الحديبية، فخرج أخواها في إثرها وطلبا من النبي أن يردها معهما وفق شروط الصلح المبرم بين المسلمين وقريش، فنزلت فيها الآية {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن}، وبقيت مع المسلمين، وتزوجت من زيد بن حارثة.
أيضاً، لم تمنع التحالفات القبلية القديمة من إسلام بعض محالفي بني عبد شمس في وقت مبكر. على سبيل المثال، تذكر المصادر التاريخية، ومنها "المنمق في أخبار قريش" لابن حبيب البغدادي، أن جحش بن رئاب الأسدي كان قد حالف حرب بن أمية في الجاهلية، ورغم اعتبارية تلك التحالفات في المجتمع العربي القرشي في تلك الفترة، فإننا نجد أن أبناء جحش بن رئاب الثلاثة، عبد الله، وعُبيد الله، وأبي أحمد، كانوا من السابقين إلى اعتناق الإسلام في مكة. وهاجر الإخوة الثلاثة إلى الحبشة، ومات عُبيد الله فيها، وقيل إنه ارتد عن الإسلام واعتنق المسيحية قُبيل وفاته. أما عبد الله وأبو أحمد فقد التحقا بالنبي في المدينة المنورة. وقُتل عبد الله في غزوة أحد، في العام الثالث للهجرة، أما أبو أحمد فمن غير المعروف توقيت وفاته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...