لم يثر حيرتي موضوع لغوي مثلما أثارها الأعراب، فنجدهم في القرآن هم "الأشد كفراً ونفاقاً"، بينما نراهم ملهمين في الآثار النبوية، أو المأثورات اللغوية، قادرين على أن يأتوا من صنوف القول والأحاديث المرتبطة بشؤون الحياة ما عجز قوم أو قبيلة عن الإتيان بمثلها.
وإن نبشنا عميقاً في تراث اللغة العربية، وشخصيتها، نجدها ملونة بلونهم، ومختلطة بروائحهم، وقد عدهم جهابذة اللغة مرجعاً لغوياً حتى القرن الرابع الهجري، بسبب بعدهم عن الخلطة بالأعاجم (غير العرب).
يخلط الكثير من القراء والمثقفين أحياناً بين العربي والأعرابي، وعندما كنت في الجامعة كثيرة هي الدراسات التي درسناها عن سكان الجزيرة العربية ما قبل الإسلام وكأنهم جميعاً بدو رحل يضربون خيامهم في الأرض ولا يعرفون الاستقرار إلا قليلاً، دارسين أثر ذلك على الشعر والعقلية.
وإن نبشنا أعمق، نفاجأ بأن شخصية الأعرابي البدوي، وهي الأكثر تأثيراً في بنية النحو والمعاني العربية، مختلفة كل الاختلاف، فهي الأقرب إلى الطبيعة ببداوتها، والأبعد عن العمران بلين أسلوبها ومسلكها، والأكثر تمرداً وتحرراً من القوالب الاجتماعية التي من السهل الخضوع والتناغم معها عند سكان المدن وأهل الحضر.
وكأننا أمام شخصيتين لغويتين، حالتين متباعدتين، إحداهما منضبطة، خاضعة، والأخرى لا تخضع لشيء، لا لمعيار أو قانون.
1 - الأعرابي الملعون
يعرف ابن منظور في "لسان العرب" العرب بأنهم خلاف العجم، و"الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهش له، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب له".
يوضح ابن منظور الفارق أكثر: "من نزل البادية، أو جاور البادين وظعن بظعنهم وانتوى بانتوائهم فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن مدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب فهم عرب، وإن لم يكونوا فصحاء".
ونقرأ في تفسير القرطبي لقوله تعالى "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً"، "قيل لأنهم أقسى قلباً، وأجفى قولاً وأغلظ طبعاً وأبعد عن سماع التنزيل".
وترتب على هذه الرؤية القرآنية أحكام فقهية، ربما عززت فقر الأعراب، ونالت من مكانتهم؛ يقول القرطبي: "ولما دل ذلك على نقصهم وحظهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم، ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة:
أولها: لا حق لهم في الفيء والغنيمة.
وثانيها: إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة لما في ذلك من تحقق التهمة، وأجازها أبو حنيفة: قال: لأنها لا تراعي كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة.
وثالثها: إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنّة وتركهم الجمعة.
قال الإمام مالك (عن الأعرابي): لا يؤم وإن كان أقرأهم".
ويردد الفقهاء دائماً المقولة الأثيرة عن محمد الرسول: "من بدا فقد جفا"، وجاء في "النهاية": "أي من سكن البادية غلظ طبعه، لقلة مخالطة الناس، والجفاء غلظ الطبع".
ويرددون أن النبي اعتبر الرجوع إلى البادية بعد السكن في الحاضرة من "كبائر الذنوب"، وكثيرة هي الأحاديث التي تصور غلظتهم أمام رقة الرسول وتسامحه، ونقرأ عن أعرابي بال في المسجد، وعندما هم الصحابة بنهيه، قال لهم دعوه، فتركوه حتى بال، ثم دعاه الرسول وقال له: "هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن".
وكان أصحاب محمد يتحرجون من السؤال، مخافة الاتهام بأنهم يشكون في أمور الدين، وكان إذا استغلق عليهم شيء دعوا الله بأن يأتي أعرابي وينقذهم بسؤال النبي، وربما خشي الصحابة أن ينالهم ما نال الأعراب من قوله تعالى: "وقالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا".
جاء عن أنس بن مالك: "نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أن تزعم أن الله أرسلك".
2 - الأعرابي المرح
إن كانت شخصية الأعرابي تثير معاني الجرأة والاستكشاف عند أصحاب محمد التواقين إلى إجابات واضحة عن أسئلة صعبة تعتمل في نفوسهم ولا يجرؤون على الجهر بها، فإنها لطالما أثارت الفكاهة والمرح في أجيال المسلمين الأوائل بسبب هذا التناقض بين عفويتهم وبساطتهم المفرطة، والواقع الغارق في المعايير والقوانين والآداب الإسلامية المحدثة في ذلك العصر.
فعندما تستمع لقصة أعرابي في الصلاة أو الحج، لا تلبث إلا أن تتوقع نكتة تبهجك وتضحكك، ولا تتحرج كثيراً من الإثم أو الخوف على أن تنقل تلك النكتة شكاً أو سخرية من عقيدتك، لأن بطلها أعرابي يتكلم على سجيته تماماً.
وكان أصحاب محمد يتحرجون من السؤال، مخافة الاتهام بأنهم يشكون في أمور الدين، وكان إذا استغلق عليهم شيء دعوا الله بأن يأتي أعرابي وينقذهم بسؤال النبي، وربما خشي الصحابة أن ينالهم ما نال الأعراب من قوله تعالى: "وقالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا"
هذا النوع من السخرية الدينية الحلوة، والخفيفة، أتحفنا به ابن الجوزي في كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" وأفرد فصولاً لمواقف الأعراب، وجاء في أحدها أن أعرابي قال: اللهم أمتني ميتة أبي، قالوا وكيف مات أبوك؟ قال: "لقي الله وهو شبعان، ريان، دفئان".
وعن الأصمعي قال: مررت بأعرابي يصلي بالناس فصليت معه، فقرأ: "وضحاها والقمر إذا تلاها كلمة بلغت منتهاها لن يدخل النار ولن يراها رجل نهى النفس عن هواها"، فقلت له: ليس هذا من كتاب الله. قال: علمني. فعلمته الفاتحة والإخلاص، ثم مررت بعد أيام فإذا هو يقرأ الفاتحة وحدها، فقلت له: ما للسورة الأخرى؟ قال: "وهبتها لابن عم لي والكريم لا يرجع في هبته".
ونقرأ عن الأصمعي: "كنت في البادية فإذا بأعرابي تقدم، فقال: الله أكبر، سبح اسم ربك الأعلى الذي أخرج المرعى أخرج منها تيساً أحوى ينزو على المعزى. ثم قام في الثانية، فقال: "وثب الذئب على الشاة الوسطى، وسوف يأخذها تارة أخرى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ألا بلى ألا بلى". فلما فرغ قال: اللهم لك عفَّرت جبيني وإليك مددت يميني فانظر ماذا تعطيني.
ونقرأ: "حج أعرابي فدخل مكة قبل الناس وتعلق بأستار الكعبة، وقال: اللهم اغفر لي قبل أن يدهمك الناس".
ولا تزال شخصية الأعرابي مثيرة للضحك والسخرية، وقد تحولت إلى "ميمز" في بدايات عام 2019، ويكفي أن تكتب بوستاً أو تغريدة أو تنشر مقالاً فيه أحاديث بشكل ساخر عن أعرابي حتى ينال الإعجاب، مما حدا موقع مصري على أن يجمع ما شاء من نكت في مقال لا معلومة فيه إلا تلك الحكايات.
3 - الأعرابي أبو اللغة العربية
ما فتنني في سيرة الأعراب لدى أجدادنا هو اعتمادهم عليهم في سلامة اللغة وصحتها، يقول مصطفى صادق الرافعي في كتاب "تاريخ آداب العرب": "في البادية فقد بقيت اللغة على خلوصها إلى آخر القرن الرابع، على ما يكون من الاختلاف الذي لا بد منه بين طبائع الأعراب".
وبعد أن فشت العامية، وغلبت على أكثر الجيل، لم يعد الأعراب الفصحاء يفهمون إلا عن أهل البصرة، وجاء في رواية عن أحد الأعراب قدم البصرة، وكان لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، وروي عنه أنه قال: "لعن الله بلاداً ليس فيها عرب".
وتبرز شيماء توفيق، أستاذة في قسم البلاغة والنقد في جامعة أزهرية، في رسالتها عن بلاغة الدعاء عند الأعراب اقتباسات تؤكد ريادتهم اللغوية، وفيه: "الأعراب يومئذ هم أهل الفصاحة، يلتمسهم الرواة، ويحملون عنهم، ويروون فيهم بقية اللغة ومادة العرب" و "قصدهم الولاة والخلفاء لتهذيب أولادهم، وتعليمهم فصيح اللغة، لما في هواء البادية من الصفاء، وفي أخلاق البادية من السلامة والاعتدال، والبعد عن مفاسد المدينة، ولأن لغة البادية سليمة أصيلة".
جاء في دراسة شيماء أن الكثير من علماء اللغة أخذوا عن الأعراب، أشهرهم الأخفش الأكبر، الذي أخذ عنه سيبويه، وكذلك الكسائي، و"وجه الرشيد ابنه المعتصم إلى البادية فتعلم الفصاحة، وكان أمياً، وندم عبد الملك بن مروان على عدم إلحاقه ابنه الوليد بالبادية، فقد كان لحاناً، وقال: "أضرنا في الوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية".
وعن قوة تأثيرهم اللغوي، يقول الجاحظ: "اتخذت الأعراب من الروم والسند والبربر والنوبة رجالاً ترعى إبلهم لحذقهم ودربتهم حتى أن أطفال البربر إذا صاروا إلى البدو فصحت ألسنتهم، وفاقوا الأعراب الخلص".
"العقد الفريد": فن الدعاء عند الأعراب
تدوخني اللغة العربية، ويدوخني العرب الأوائل وأنا أبحث عن تلك الأنماط الأولى الفكرية والاجتماعية واللغوية. كثيرة هي الروايات الشديدة التضارب والتناقض مما يستعصى على الباحث أن يصل إلى نتيجة متماسكة. الحد الأدنى من التماسك يُفتقد دائماً.
في هذا السياق، أذكر قول الدكتور محمد فكري الجزار في كتاب "معجم الوأد": "سبب كل هذا تقديم المنقول على المعقول، ليس فقط، وإنما التوقف عن عقلنة ذلك المنقول حتى إننا لا نكاد نتبين خلف خطاب المعجم في هذه المادة، غير راو يمارس نوعاً من الحكي موضوعه مفردات اللغة".
ولكن أشد ما فتنني وأثارني في شخصية الأعرابي هو براعتهم المتفردة في التعبير عن شؤون الحياة اليومية، وصروف الدهر من فقر ومحن، ومن قلق وحب وإيمان، وكأن اللغة العربية لانت لهم ليناً لم تلن لغيرهم فيها، وكأنهم في كل ضرب من ضروب الحياة يرمون بالكلام فيقولون أحسنه وأبلغه، وبلغ تعبيرهم الجمالي الذروة في الدعاء، وفنونه في الكثير من المناسبات، إذ يكفي للراوي أن يقول دعا أعرابي حتى ينتبه القارئ، فيحسن الانتباه.
في القرآن: "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً"، وفي العقد الفريد: "إذا أردت أن تسمع الدعاء فاسمع دعاء الأعراب"... عن شخصية الأعرابي المتفردة في ثقافتنا العربية القديمة
جاء في "العقد الفريد" لابن عبد ربه: "إذا أردت أن تسمع الدعاء فاسمع دعاء الأعراب".
ويقول ابن عبد ربه عن لغة الأعراب، كائلاً المديح لكلام الأعراب كما لم يكله لجماعة لغوية عربية: "كان أشرف الكلام حسباً، وأكثره رونقاً، وأحسنه ديباجاً، وأقله كلفة، وأوضحه طريقة، وإذ كان مدار الكلام كله عليه، ومنتسبه إليه".
مرّرنا أنا وكثير من أبناء جيلي على حالة الصحوة الإسلامية، وأحطنا حياتنا اليومية بصنوف الأدعية والأذكار
مرّرنا أنا وكثير من أبناء جيلي على حالة الصحوة الإسلامية، وأحطنا حياتنا اليومية بصنوف الأدعية والأذكار، في كتيّب شهير في ذلك الوقت اسمه "حصن المسلم"، وكذلك من رحل إلى الحج والعمرة يوماً سيقدر ويتذوق فنون الدعاء هناك، حيث لكل حركة وسكنة دعاؤها الخاص.
هذا الإتقان الذي وصل إليه الأعراب في فنون التعبير عن حالة "الدعاء"، يختلف اللغويون في تصنيفه باعتباره ملحقاً بـ “الأمر" أم بـ"النداء"، دفعني إلى إعادة قراءتهم وتذوقهم لفهم شخصية اللغة العربية، وديناميكياتها البكر، في نحوها وصرفها وبلاغتها، فالذين كانوا مذمومين لعدم اختلاطهم بالحضر أصبحت عزلتهم مزية، فقد حافظوا على ما يمكن أن نسميه "الحالة البكر" للغة العربية، وما تحملها من إمكانات تطور، ومن قيود تشدنا إلى الوراء، إلى حالتها الأولى.
إضافة إلى هذا، يمكن أن نقارب اللغة الأعرابية متسائلين ومحللين أكثر مما يمكن أن نفعله في نسخة أخرى من اللغة تستند إلى كتاب مقدس كـ"القرآن"، حيث سنصطدم بأشياء وأشياء قد تبعدنا عن الدرس اللغوي لمجالات اجتماعية وسياسية.
من دعاء الأعراب، كما جاء في "العقد الفريد":
"اللهم إنا أطعناك في أحب الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك.
اللهم إن ذنوبي إليك لا تضرّك، وإن رحمتك إياي لا تنقصك؛ فاغفر لي مالا يضرك، وهب لي ما لا ينقصك".
رأيت أعرابياً أخذ بحلقتي باب الكعبة وهو يقول: "سائلك عبد بابك ذهبت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، فارض عنه، وإن لم ترض عنه فاعف عنه غير راض".
دعا أعرابي عند الكعبة، فقال: "اللهم إنه لا شرف إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال؛ فأعطني ما أستعين به على شرف الدنيا والآخرة".
ذكر أعرابي مصيبة فقال: "والله تركت سود الرؤوس بيضاً، وبيض الوجوه سوداً، وهوّنت المصائب بعدها".
قيل لأعرابية أصيبت بابنها: ما أحسن عزاءك، قالت: "إنّ فقدي إياه أمّنني كل فقد سواه، وإن مصيبتي به هوّنت علي المصائب بعده؛ ثم أنشأت تقول:
من شاء بعدك فليمت/ فعليك كنت أحاذر
كنت السواد لمقلتي/ فعليك يبكي الناظر
ليت المنازل والدّيا/ ر حفائر ومقابر"
قيل لأعرابي: كيف حزنك على ولدك؟ قال: "ما ترك همّ الغداء والعشاء لي حزناً!".
"ذلّ الاكتساب، يمنع من عز الانتساب"
"ذلّ الاكتساب، يمنع من عز الانتساب".
أتى أعرابي عمر بن عبد العزيز، فقال: "رجل من أهل البادية، ساقته إليك الحاجة، وبلغت به الغاية، والله سائلك عن مقامي هذا، فقال عمر: ما سمعت أبلغ من قائل ولا أوعظ لمقول له من كلامك هذا.
وقيل لأعرابي: كيف أنت في دينك؟ قال: "أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...