شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
انتحار المسرحي أحمد جواد...

انتحار المسرحي أحمد جواد... "درس أخير في الحب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 4 أبريل 202304:39 م

في مشهد مريع، وأمام بناية وزارة الثقافة في شارع غاندي في العاصمة المغربية الرباط، أقدم الفنان المسرحي المغربي أحمد جواد، على إضرام النار في جسده، منفّذاً ما كان يصرّح به للصحافة، أو يكتبه في تدويناته عبر وسائل التواصل الاجتماعي منذ 2013، مقدّماً جسده قرباناً لأبي الفنون في يومه العالمي في 27 آذار/ مارس، بعدما يئس من جميع المحاولات والمطالب لانتشاله من الهشاشة التي يعيشها منذ سنوات، والتي لم تجد آذاناً صاغيةً من قبل المسؤولين في وزارة الثقافة، ما دفعه إلى التسوّل وطلب الأكل والدواء له ولأبنائه.

مشهد أخير في حياة "المسرحي"

صبيحة الثاني من نيسان/ أبريل الجاري، توفي الفنان أحمد جواد، في المستشفى الجامعي ابن سينا في الرباط نتيجة الحروق، ودُفن بعد ظهر أمس الإثنين، في مقبرة سيدي بلعباس في سلا، بحضور عدد قليل من الفنانين ومن أفراد عائلة الراحل، تاركاً جرحاً غائراً وسؤالاً عريضاً عن الهشاشة التي يعانيها الفنانون في المغرب، والوضع الاجتماعي الصعب الذي لا تنفع معه لا "بطاقة فنان" (بطاقة رسمية)، ولا تغطية صحية، لأنه في غياب العمل المستمر والمدخول المحترم الذي يغطّي احتياجات الفنان وأسرته، لا يمكن الحديث إلا عن الفقر والغبن والحكرة والتهميش واليأس والإحباط، في انتظار التعجيل في إخراج قانون إحداث "مؤسسة الفنان" إلى حيّز الوجود، وهو المطلب الذي لطالما عبّر عنه المثقفون والفنانون وحتى الإطارات الثقافية للنهوض بالوضع الاعتباري المادي والاجتماعي والصحي للفنان.

كانت حياته تعبيرا مستمرا عن عشق المسرح، وهدّد بالانتحار لسنوات لما وصفه بالتهميش المتعهد لفنه. رحيل أحمد جواد، بعد إضرام النار في نفسه يطرح تساؤلات حول واقع الفنانين المغاربة

برغم أن وزارة الثقافة خرجت ببيان، بعد انتشار خبر إحراقه نفسه، يؤكد أن الراحل يستفيد من تقاعده وحصل على تمويل لمسرحيتين، إلا أن مثقفين وفنانين انتقدوا سياسة الحكومة الثقافية، وعبّروا عن استيائهم من الوضع العام للفنانين الذي دفع بجواد إلى إضرام النار في جسده.

"تهميش مستمر"

على الرغم من تصريحات الفنان الراحل أحمد جواد، المتكررة خلال السنوات العشر الأخيرة، بأنه سيُقدم على الانتحار بإحراق نفسه، وتجرّده من ملابسه أمام مبنى البرلمان المغربي، إلا أن الجميع لم يأخذوا تلك التصريحات على محمل الجد، خاصةً بعد انخراطه في السنوات الأخيرة في بعض الأعمال المسرحية، وتنشيط بعض اللقاءات الثقافية لأصدقائه. ولكن بإقدامه على إحراق جسده في مشهد أخير على مسرح الحياة وفي اليوم العالمي للمسرح، تأكد أن وضعه كان أخطر مما كانوا يعتقدون، وأنه لم يتم الإنصات إليه ولا حتى قبول طلباته المتكررة للاجتماع بوزير الثقافة، خاصةً أن راتبه التقاعدي من عمله الوظيفي في مسرح محمد الخامس، في السلّم الخامس، والمحدد بـ1،800 درهم، لم يكن يغطّي لا الديون المتراكمة عليه بسبب كراء بيت متواضع في مدينة سلا، ولا إعالة أسرته وأبنائه.

"أنا مجبر على التسوّل معالي الوزير"؛ هكذا صرخ الفنان أحمد جواد، في رسالة وجهها إلى وزير الثقافة محمد المهدي بنسعيد، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عبر الصحافة، قائلاً: "هل سمعتم عن رجل مسرح يُضرب عن الطعام أمام المسرح البلدي لمدينة الجديدة حتى لا يُهدم، وتم اعتقالي وقدمت جنايات في 27 آذار/ مارس 1994، في سنوات الجمر والرصاص، وها هو المسرح البلدي ما زال يحمل اسم محمد سعيد عفيفي؟ وهل تعلم أني جراء هذا الظلم الذي طالني خارج القانون، قد أنصفتني هيئة الإنصاف والمصالحة بحكم لصالحي بالتعويض وجبر الضرر، وقد حصلت على التعويض في حينه، أما جبر الضرر فللأسف لم أحظَ به، علماً بأن وزارتكم هي المسؤولة عن تفعيله".

ناضل أحمد جواد من أجل المسرح فنا وممارسة مهنية، لكن ضيق ذات اليد واليأس دفعاه إلى اتخاذ خطوة إضرام النار في جسده، ما أدى إلى وفاته متأثر بحروقه

وبعد هذه الرسالة خاض جواد إضراباً عن الطعام يوم 6 شباط/ فبراير، أمام مقر وزارة الثقافة، احتجاجاً على رفض الوزارة دعم عمله المسرحي الجديد "درس في الحب"، بحجة أنه إنتاج قديم، واحتجاجاً على التقاعد الهزيل الذي كان يتلقّاه بعدما تقاعد من وظيفته في المسرح الوطني محمد الخامس، مطالباً برد الاعتبار لشخصه وتجربته المهمة في التنشيط الثقافي والفني في "نادي الأسرة" في تسعينيات القرن الماضي، وبعدها في "بهو المسرح"، قبل أن ينقطع ذلك كله مع تغيّر الوزراء والمسؤولين، ويظل الغبن والحسرة يأكلانه، وهو الذي لم يكن يجد عزاءه إلا في أزجال الشاعر إدريس المسناوي، التي كان يحفظها عن ظهر قلب، ويرددها في كل المناسبات، بل اشتغل عليها في عمله المسرحي "هو"، المقتبس من "كناش لمعاش"، للزجّال المسناوي، والذي تولّى فيه الإخراج والدراماتورجيا والتشخيص، تكريماً للمناضل عبد الحميد البجوقي.

حياة في حب المسرح

أحمد جواد، ابن مدينة الجديدة المولع بكرة القدم في صباه، والذي قرّبته دار الشباب "البريجة"، حيث كانت تعقد فرقته الاجتماعات، من فن المسرح، إذ انخرط في التدريبات مع جمعية "عروس الشواطئ" في أواسط سبعينيات القرن الماضي، إلى أن سكنه المسرح كما يقول في حوار سابق له مع الكاتب عبده حقي، وقاده القدر إلى المشاركة في العديد من الأعمال المسرحية لمسرح الهواة من مثل: "العين والخلخال" 1978، و"البوهالي" 1982، و"السيرك" 1985، و"الفكرون" 1986، قبل أن يشتغل مع المسرحي عبد الحق الزروالي، تقنياً في مسرحية "عكاز الطريق" و"سرحان المنسي"، ويقدّم عام 1991 مسرحية "الصعلوك" مع جمعية "عروس الشاطئ" في مدينة الجديدة، التي دافع فيها عن المسرح البلدي الذي كان عرضةً للهدم، عبر إضراب عن الطعام في عام 1994، وتعرّضه للاعتقال والتعذيب والمحاكمة وتهديده بإحراق نفسه، غير أن الإعلامي الراحل خالد الجامعي، أثناه عن فعل ذلك، وتوسّط له من أجل العمل في المسرح الوطني محمد الخامس في الرباط، لما لمس عنده عشقاً كبيراً للمسرح والفن والثقافة.

بين الحركة والسكون شاهَد لقبر تايقرا بَالمقلوب كْفوفنا... بين الحياة والموت تايطوالوا رجلين خوفنا

غير أن دفاعه عن بناية المسرح البلدي في الجديدة، والتي تم إصلاحها وإطلاق اسم المسرحي المغربي الراحل محمد عفيفي عليها، لم يشفع له في شيء، إذ تم افتتاحها أخيراً بحضور مجموعة من المسرحيين وإقصائه، برغم أنه ناضل بقوة من أجل استمرار تلك البناية، ولعل هذا ما حزّ في نفسه، وجعله يُقدِم على إحراق جسده بذلك الشكل المريع بحسب المقربين منه، وفي اليوم العالمي للمسرح، حتى يظل المسرحيون في المغرب، وعبر العالم، يتذكرون حرقته وألمه اللذين رافقاه سنوات طويلةً من دون التفات من الجهات المسؤولة التي رفضت ترقيته، وظل في السلم الخامس إلى أن أحيل على التقاعد براتب هزيل في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2021.

أحمد جواد عنوان عريض لتراجيديا الفن المسرحي في المغرب وللفنانين الذين يعانون من شتى صنوف ضنك العيش، التي ضيّقت عليهم في السنوات الأخيرة، والتي تستدعي كل الاهتمام، فاليوم فُقد الفنان أحمد جواد الذي عاش وعايش المحن بمختلف صنوفها، وغداً يمكن أن تتكرر الفاجعة لا قدّر الله، وبأشكال مختلفة ومع أسماء لا يمكن توقّعها، لأن الفقر والغبن والتهميش واليأس والإحساس بـ"الحكرة" قد تصنع قرابين أخرى، وقد لا يسعنا إلا أن نقول مع الزجّال إدريس المسناوي من ديوانه "شهوة الضو":

"بين الحركة والسكون شاهَد لقبر تايقرا بَالمقلوب كْفوفنا 

بين الحياة والموت تايطوالوا رجلين خوفنا

شكون يدوَّر الزمان فالجهَة اللي بغينا نطلُّوا على أهدافنا؟

شكون يدوَّر المغزل ف يد الشمس تعاود غزيل أوصافنا؟

الساعة ما عرفناها مطلقانا ولّا غير مخاصمانا !

للسؤال ما لقت ركوب بلا مقصّ تقطَّع ف جوفنا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image