يضطرّ المحكومون بالقوة إلى اللجوء إلى أساليب في التعبير والحديث، تكفل لهم تسريب بعض ما في الأعماق بشكل آمن إلى حد ما، فالخوف المعمم الذي تفرضه السلطات يحفر في الوعي الاجتماعي، ويترك أثره على أشكال الخطاب المعلن، وأنماط التعبير عن الاحتجاج والغضب، كما عن الرغبات والآراء.
النخبة الحاكمة تتقن البلاغة الإنشائية التي تمجّد السلطة وتجمّلها، وتجيد صناعة الأوهام وتسويقها حول إنجازاتها وانتصاراتها التي هي انتصار للوطن، وفي المقابل، يتقن المحكومون بلاغةً من نوع آخر، ويعرفون كيف يتجنبون الإعلان الصريح عن الموقف الحقيقي النقيض، ويهربون من العجز عن مواجهة القاهر المتسلط، إلى الانتقام الرمزي منه عبر فضح سيرته المستورة والسخرية منه.
يقول الكاتب المسرحي والرئيس التشيكي السابق، فاتسلاف هافل: "المجتمع حيوان غامض جداً، مكتنف بالأسرار، له وجوه وإمكانات مخفية عديدة، ومن قصر النظر البالغ أن تعتقد أن الوجه الذي يعرضه المجتمع لك في لحظة من اللحظات هو الوجه الصحيح، لا أحد منا يعرف جميع الإمكانات التي تكون نائمةً في روح السكان".
يندر طبعاً -إلا في حالة الانتفاضات والثورات- أن يتجاسر المحكومون على مقاومة الأعراف العامة في الخضوع، والتي ترسخها وتفرضها السلطات عبر زمن مديد متوسلةً أدواتٍ متنوعةً في العقاب والتهديد، تنتزع من المجتمع قدرته على التعبير والمطالبة أو المبادرة المستقلة، وتجعل من الغالبية محض أفراد مصطفين إلى جانب بعضهم دونما رابط يؤلّفهم بهوية جامعة، لذلك يلجأ هؤلاء إلى بناء حيّز خاص ومموّه تنْسرِب فيه مكنوناتهم ورغبتهم في الصراخ.
من الطريف فعلاً الاطّلاع على بعض الإشارات الساخرة التي تنتصر على الخوف بالضحك عليه، وأوّلها تجنّب ذكر اسمه: "بسوريا السرطان بيسمّوه هداك المرض، وهلق في هداك المسلسل"
والخوف المعمم من العقاب في حال الاعتراض أو انتقاد السلطة، يدفع المحكومين إلى استخدام وجهَين نقيضَين، وجه تريده السلطة وترغب في إظهاره من قبل المحكوم كدليل على الانصياع والطاعة حتى لو كان قناعاً يخفي الرفض، ووجه خفيّ يظهر في المجالس الخاصة، ما يشكّل نمطاً من انفصام الشخصية يعيه المحكوم لكنه يُقسَر عليه، ويتعود على الانتقال السلس من تقديم الوجه الأول في موقف إلى تقديم نقيضه في موقف آخر بعد لحظات.
يقول أستاذ العلوم السياسية الأمريكي جيمس سكوت: "إن كل جماعة محكومة تخلق من محنتها موروثاً مخفياً، يمثّل نقداً للسلطة يقال وراء ظهر صاحب السيطرة".
المثال الجديد المعبّر بوضوح عن هذه الفكرة هو طريقة تعاطي السوريين وتفاعلهم مع المسلسل التلفزيوني المعروض مع بداية شهر رمضان والمعنون بـ"ابتسم أيها الجنرال"، المنتَج خارج سوريا بطبيعة الحال، وأدوار البطولة فيه لفنانين سوريين غادروا سوريا منذ سنوات وجرى تصنيفهم كمعارضة، وقد بدأت تتسرب أخباره ولقطات منه، واتضح قبل العرض أن المسلسل يمثّل وجهة نظر المعارضة، لكن الأخطر هو تناوله لشخصية رئيس الجمهورية في سابقة لم تحصل من قبل، ولن يفيد طبعاً تأكيد صنّاع العمل أنهم لا يقصدون أحداً وأن أي تشابه هو محض صدفة، فالنفي هنا بمثابة تأكيد، وهو ما يحيلنا أيضاً إلى فكرة التحايل آنفة الذكر.
ليس بالجديد على السوريين -كما غيرهم- أن يحوّلوا بعض صور مآسيهم ومشكلاتهم المزمنة إلى مادة للسخرية والتندّر، وقد أثبتوا موهبةً فائقةً في ذلك كما المصريين، وسنوات الحرب الطاحنة التي عاشوها واضطروا إلى التكيف مع ضغوطها وتبعاتها علمتهم كيف يستخدمون النكتة بصيغها المتنوعة كآلية للتخفيف من ثقل الواقع ومفرداته والانتصار عليه رمزياً، فتأخذ السخرية شكل الغمز والتورية اللغوية والمبالغة وقلب الأشياء إلى نقيضها، وتركيب الصور بطريقة كاريكاتورية والتعليق عليها والأسطرة وتأليف الأغاني، وغير ذلك من صيغ يفاجئنا المخيال الشعبي بقدرته على ابتكارها.
التسريبات الأولية للمسلسل أثارت فضول الكثير من السوريين، والرغبة في مشاهدته لم تقتصر على جمهور المعارضة، لكن الخشية المعتادة من "أبو حيدر جوية"، دفعتهم لاستخدام التسميات البديلة والغمز وتركيب الكثير من النكت القصيرة الذكية، وقد وفّر عرض الحلقة الأولى فرصةً لابتكار المزيد من الطرافة، حيث أخذ الحديث عن خشية المشاهدة أكثر من الحديث عن محتوى العمل ومستواه الفني.
يدرك السوريون بفئاتهم كلها أن السلطة لا تقبل بتداول أي سردية عنها، فالغموض والجهل المحيطان بالأحداث يسمحان لها بالحفاظ على الهالة القدسية التي تضفيها على "معجزاتها" وشخوصها
وللتذكير بسابقة مماثلة أقل خطورةً، عمد السوريون على منصات الميديا إلى استخدام أسماءٍ بديلة للدولار، حين جرّمت الحكومة الحديث عنه وعدّته مسيئاً إلى الثقة بالاقتصاد والعملة الوطنية، ونصّ القانون على الحبس والغرامة، فاستخدموا تحريفات لاسمه مثل الدومار والفولار، وأسماء بديلةً منها المعروف كالأخضر، ومنها المبتكر باللهجة المحكية مثل "المغضوب، اللي ما يتسماش، الدودو، كيلو الكوسا"، ما يشكّل مفارقةً من نوع التراجيكوميديا التي تذكّر بأجواء رواية جورج أورويل "1984"، فالدولار الذي يتسبب أكثر من مرة في اليوم الواحد بالتأثير على حياة السوريين واستهلاكهم للسلع والخدمات نتيجة تدهور قيمة الليرة أمامه، يُعدّ مجرد ذكر اسمه جريمةً!
لذلك، فإن غالبية التعليقات والأخبار عن المسلسل وعن موعد عرضه وكيفية مشاهدته استندت إلى بديهة راسخة في وعي السوريين هي خوف الاقتراب من التابوهات السلطوية والأثمان المحتمل دفعها، ومن الطريف فعلاً الاطّلاع على بعض الإشارات الساخرة التي تنتصر على الخوف بالضحك عليه، وأوّلها تجنّب ذكر اسمه: "بسوريا السرطان بيسمّوه هداك المرض، وهلق في هداك المسلسل"، ثم مصير من يتابعه: "أول حلقة منشوفها بالبيت والتانية منشوفها عملي بفرع فلسطين".
ثم التحذير من خطر الاعتقال: "الهمّالالي عم يسجل أسماء اللي بيشوف هداك المسلسل ع هديك القناة"، ورجل الأمن الذي يسأل طفلاً في الشارع: "عمّو شو بيشوف البابا مسلسلات؟"، وكيف حاول أهل السلطة أن يشوّهوا صورة المسلسل ويحذروا الأُسَر منه: "ديروا بالكو، طلع فيه كتير مشاهد +18"، بالإضافة إلى إعلان عدم الرغبة: "شفناه بالصدفة البحتة، وبكرا يمكن نشوفو بالصدفة"، والمبالغة في إظهار التبرّؤ من المشاهدة: "يا جماعة إذا إجت الكهربا بالسهرة هاد بيكون كمين، إخلوا البيت فوراً وتمشّوا بالشارع وخلّوا العالم تشوفكم".
ربما يشكّل "ابتسم أيها الجنرال" فاتحةً لأعمال أخرى في الدراما أو الفنون الأخرى، تتجرأ على تحطيم الأيقونات وإنزال الرموز من عليائها... أخيراً.
بعد عرض حلقات عدة، بدأت تظهر الآراء المتشنجة من قبل الكثير من رموز الموالاة، وتكاثرت الأحكام حول العمل في الميديا بين مرحّب، معجب، وشاتمٍ رافض، وبينهم الكثير من الآراء التي تقيّم المحتوى والسيناريو وأداء الممثلين، ومن الواضح أنه حظي باهتمامٍ ومشاهدةٍ حتى من قبل بعض الرافضين له، وقد يفضي التحليل النقدي حين انتهاء العرض إلى عدّه فاشلاً، لكن فرادة المسلسل تأتي من كونه المحاولة الأولى درامياً لتناول طبيعة السلطة الحاكمة في سوريا وآلياتها وصراعاتها، ويدرك السوريون بفئاتهم كلها أن السلطة لا تقبل بتداول أي سردية عنها، فالغموض والجهل المحيطان بالأحداث يسمحان لها بالحفاظ على الهالة القدسية التي تضفيها على "معجزاتها" وشخوصها، إذ ما تزال الغالبية تجهل ما جرى بالضبط في المناسبتين الغاليتين على قلب البعث الحاكم: "ثورة آذار/ مارس 1963"، و"الحركة التصحيحية 1970"، والمسموح هو فقط الإشادة بالإنجازات العديدة لهما في الخطب والهتافات والشعارات المدرسية.
وبالتغاضي عن المعايير الفنية لجودة المسلسل، فإنه ربما يشكّل فاتحةً لأعمال أخرى في الدراما أو الفنون الأخرى، تتجرأ على تحطيم الأيقونات وإنزال الرموز من عليائها... أخيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.