شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كيف تواجه المدافعات عن حقوق النساء في تونس العنف الاقتصادي والاجتماعي؟

كيف تواجه المدافعات عن حقوق النساء في تونس العنف الاقتصادي والاجتماعي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الجمعة 28 أبريل 202303:53 م

يُسأل جميع الأطفال عن مهنة أحلامهم في سن مبكّرة، وغالباً ما تكون الإجابة عن هذا السؤال الشهير معروفة لدى الأطفال: "طبيب/ة أو معلم/ة". كانت إجابتي استثناءً عن غيري حينها: "سفيرة للنوايا الحسنة" أو "مدافعة عن النساء مثل أمي"، وكثيراً ما كانت هذه الإجابة تُتبع بابتسامات السخرية أو بنظرات الشفقة.

كنتُ بمثابة صفحة بيضاء يمكن ملؤها من خلال تدوين الأحداث والذكريات الجميلة، وكانت أمي مؤلفة تلك الصفحة البيضاء. في نظري، تعدّ أمّي الأجمل والأذكى بين كل النساء، فقد كانت -ولا تزال- تعمل بمجال حقوق الإنسان وتدافع عن حقوق النساء والأطفال. كنت أنتظرها كل ليلة لأسمع نقاشاتها مع والدي عن جهودها في الدفاع عن النساء المضطهدات. لم أكن على دراية بالتخصّص الدراسي الذي سيقودني لتحقيق حلمي، لكن، بمساعدة سخيّة من والدتي، ترسّخت في ذهني خارطة الطريق التي مكّنتني من الانتقال من أحلام الطفولة إلى عالم الحقيقة.

لطالما شغلتني قضايا النساء لما يواجهن من ظلم وتهميش على جميع المستويات، وهو ما عايشته طيلة حياتي في بلادي، تونس. لا أحد يشكّك أن للنساء دوراً فعالاً داخل المجتمع منذ الأزل، وأنهن يضطلعن بمكانة محورية في نهضة المجتمعات، كما أثبتن مع مرور الزمن قدرتهن على إحداث التغيير، مع ذلك، يكافحن اليوم لمجرّد الحصول على حقّهن في العيش الكريم.

أنا ضحية عنف اقتصادي

يرتبط العنف الاقتصادي بهشاشة النساء المادية والاجتماعية، ومواصلة تأنيث الفقر في بلادنا. استناداً إلى الأرقام والإحصائيات، بلغ عدد السكان النشيطين في تونس 4.3 نسمة في عام 2020، ولا تشكّل النساء إلّا 29%، ما يعني أنهن الأكثر عرضة للبطالة، هذا ويتضاعف مؤشّر البطالة لدى النساء الحاملات للشهادات العليا، فـ 80% من الحائزات على شهادة الدكتوراه تحملن "شؤون منزل" على بطاقة التعريف الوطنية، ويمثّل القطاع الفلاحي ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد التونسي وهو الأكثر اضطهاداً للنساء.

فبالرغم من أن النساء يشكلن 85% من اليد العاملة بهذا القطاع، يتخبّط عدد كبير منه نتيجة التهميش، بداية من ضبابية عملية انتدابه، وهي في الغالب موسمية وغير مصرّح بها، كما لا يتمتع بأي تغطية اجتماعية رغم طبيعته البدنية الشاقة وتعرضهن للعديد من المخاطر، وتدني الأجر يومي الذي لا يتجاوز 10 دنانير، يتقاضى الرجال ضعفها وأكثر.

تعرّضت للعنف الاقتصادي حين طُردت من عملي لأنني، حرفياً، لم أرق لرئيسي في العمل، ولم أتحمّل مثل بقية الزميلات الغطرسة والنرجسية والمعاملة الدونية، ولم ألتزم الصمت مقابل الإهانات والصراخ والانفعال المبالغ فيه أو التهديد المتواصل بخصم الراتب دون أي مبرّر

ناضلت الناشطات الحقوقيات والعاملات بالمنظمات والجمعيات الحقوقية من أجل إصدار قانون يضع حدّاً لكلّ هذا الحيف الاقتصادي والاجتماعي، ومن أجل مساواة فعلية في كافّة المجالات والميادين.

كان المجتمع المدني ملاذنا جميعاً، شابات وشباب الثورة وحقبة الانتقال الديمقراطي. لا زلت أذكر ارتجافي يوم أجريت مقابلة العمل بمنظمة نسوية. لم تمح من عقلي لحظة دخولي المكتب لمباشرة مهامي، وذلك بعد رحلة عذاب طويلة تنقلتُ فيها بين عدد من المؤسسات الربحية و عانيت خلالها من جميع أنواع الاستغلال: تحرّش، أجرة زهيدة لا تكفي حتى للتنقل ذهاباً وإياباً إلى مكان العمل، القيام بعدّة مهام غير المتفق عليها، أو خلال ساعات إضافية وأيام العطل أو الراحة الأسبوعية، دون مقابل أو حتى اعتراف بقيمة المجهود.

توازى عملي الجديد مع صدور القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بمناهضة العنف ضد النساء والفتيات، وهو قانون شامل يتضمّن التعريف بجميع أنواع العنف، النفسي، الجسدي، الجنسي، السياسي والاقتصادي. قبل صدور هذا القانون، اقتصر الحديث عن خطورة العنف عن حجم الكدمات الزرقاء أو امتداد الكسور والحروق التي تغطّي جسد الضحية.

يرتبط العنف الاقتصادي بهشاشة النساء المادية والاجتماعية، ومواصلة تأنيث الفقر في بلادنا

يعرّف القانون، في فصله الثالث، العنف الاقتصادي بأنه "كل فعل أو امتناع عن فعل من شأنه استغلال المرأة أو حرمانها من الموارد الاقتصادية مهما كان مصدرها، كالحرمان من الأموال أو الأجر أو المداخيل، والتحكم في الأجور أو المداخيل، وحظر العمل أو الإجبار عليه". يعتبر العنف الاقتصادي من أقل أنواع العنف المبلّغ عنها مقارنة بأشكال العنف الأخرى رغم خطورته وآثاره على النساء، فحسب مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث، أقرّت 5.2% من النساء أنهن تعرضن للعنف الاقتصادي من قبل الشريك مقابل 7.2% صرّحن بتعرّضهن له في العمل.

تعرّضت للعنف الاقتصادي حين طُردت من عملي لأنني، حرفياً، لم أرق لرئيسي في العمل، ولم أتحمّل مثل بقية الزميلات الغطرسة والنرجسية والمعاملة الدونية، ولم ألتزم الصمت مقابل الإهانات والصراخ والانفعال المبالغ فيه أو التهديد المتواصل بخصم الراتب دون أي مبرّر. تمّ خصم ربع آخر راتب لي ظلماً بتعلّة التغيّب سبعة وثلاثين يوماً. لم أتردّد للحظة في التوجّه إلى القضاء كضحية عنف اقتصادي. تُهت بين أروقة المحكمة، وعند سؤالي عند مكتب الإرشادات عن مكان تقديم الشكايات عن العنف المسلّط على النساء، استغرب الموظّف قائلاً: "تقصدين عنف عنف؟ لا يبدو عليك ذلك"، مشيراً في وجهي بحركات بوكس (لكمات) غريبة.

لم أستطع إثبات العنف الاقتصادي الذي تسلّط عليَّ كامرأة، واعتبرت قضيتي قضية شغلية لا غير، رغم أن القانون ينصّ على ذلك صراحة، وحرماني من مواردي المالية يعتبر جريمة .

جريمة جابهت مخلفاتها العديدة التي سببتها كامرأة وأم، من وضعية هشاشة وتبعية اقتصادية وضغوطات وعدم اتزان نفسي، وصلت إلى حد فقدان ثقتي بنفسي وبكل المحيطين بي.

لمتابعة أطوار القضية التي يمكن أن تتواصل لسنوات، عليّ الذهاب إلى المحكمة تقريباً كل شهر، بين أخذ وردّ وبيروقراطية الإدارة التونسية، قرّرت عدم الاستسلام وتطبيق ما أدافع عنه طيلة سنوات "العدالة للنساء"، رغم المصادقة على القانون ودخوله حيز التنفيذ منذ سنوات، ورغم الاتفاقيات الموقعة بين الوزارات المعنية، وهي وزارة العدل، وزارة الداخلية، وزارة الصحة ووزارة المرأة، وإلزامهم بتطبيق القانون، لم يتبين لي ولو لوهلة أنهم على علم بوجوده.

مجال تنتهك فيه الحقوق بدل الدفاع عنها

لم نسلم داخل المنظمات الحقوقية والنسوية من التعرّض للتمييز والعنف. تمثّل المنظمات الحقوقية نموذجاً مصغّراً لما يحدث في سياقنا الراهن على المستوى السياسي والاجتماعي، من تهافت على المناصب بانتهازية وحشية وغطرسة تجمع بين العقلية السلطوية والأبوية وتمارس التطبيع مع العنف والتمييز بمختلف أشكاله، بل تتساهل معه لفائدة كل من له سلطة على الآخرين في العمل. استحوذ الشيوخ والكبار على العمل الجمعياتي، كما هو الوضع مع الحكومات المتعاقبة على البلاد ورؤسائها ووزرائها وكل أصحاب القرار، فلا مكان للشباب والنساء.

تمثّل المنظمات الحقوقية نموذجاً مصغّراً لما يحدث في سياقنا الراهن على المستوى السياسي والاجتماعي، من تهافت على المناصب بانتهازية وحشية وغطرسة تجمع بين العقلية السلطوية والأبوية وتمارس التطبيع مع العنف والتمييز بمختلف أشكاله

تعيش معظم العاملات بالمجتمع المدني وضعية اقتصادية واجتماعية هشّة رغم أنهن في الصف الأول للمطالبة بالحقوق الشغلية والكرامة، حيث تنتهي عقودهن بمجرد انتهاء "مدّة المشروع"، وبالرغم من أن المجال صار يضمّ الآلاف اليوم، إلا أنه قطاع مهمّش لا ينضوي تحت إطار قانوني ومؤسساتي كما بالنسبة للقطاعين العام والخاصّ، قطاع هجين تحوّل في خضمّ تشعبات المنظومة السلطوية السائدة إلى مجال تنتهك فيه الحقوق بدل الدفاع عنها.

يلازم المدافعات عن حقوق الإنسان والعاملات بهذا المجال وصم من نوع خاص، فدائماً ما يعتبرن متمرّدات، متحرّرات… وهذا ما يعرّضهن للتحرش والمضايقات المتواصلة من قبل بعض زملائهن، حتى أن البعض يعتبرهن متاحات لمجرّد أنهن غير مقيدات بنواميس الدين والتقاليد الاجتماعية والثقافية السائدة.

لم يكن الشهران الأخيران لي في المكتب سهلين، فقد تعرّضت لجميع أنواع الهرسلة والمضايقات والضغط النفسي والعنف اللفظي. لم يخطر لي لوهلة طوال عملي لسنوات في مجال مناهضة العنف أني سأكون ضحية تالية، وأن يُسلّط عليَّ العنف في مكان عملي، وهو وسط حقوقي كنت أظنه فضاء آمناً يُنادي بحقوق الإنسان ويدافع عنها ويناهض التعذيب. ومن المضحك المبكي أنني كنت أعمل على مشروع حملة ضد الفقر ومن منظور جندري، حين طُردت تعسفياً دون إعلام أو سابق إنذار، فلم أخل بمسؤولياتي كما أنني لم أقم بخطأ فادح في عملي.

تقاليد تعيق النساء

لم يتطوّر مفهوم مؤسسة الزواج في تونس، كما هو الحال في المنطقة، بما يلائم التطوّرات الجذرية التي عرفها المجتمع والأفراد. هو صفقة مربحة للرجال على كل الأصعدة مقارنة بالنساء، فلا يختلف اثنان حول الامتيازات الذكورية التي يتمتّع بها الرجال، كإمكانية استقلالهم المادي عن العائلة ولو بصفة جزئية، والأولوية المتاحة لهم في اختيار تكوين عائلة وتحقيق الاستقرار، مع المحافظة على الروتين السابق، والذي يشمل التمتع بالحرية الكاملة في التنقل والعمل والمشاركة في الحياة العامة والحفاظ على مساحة خاصّة، كممارسة الهواية التي يشترك بها كل رجال الوطن العربي، وهي الذهاب يومياً إلى المقهى على سبيل المثال.

لم يتطوّر مفهوم مؤسسة الزواج في تونس، كما هو الحال في المنطقة، بما يلائم التطوّرات الجذرية التي عرفها المجتمع والأفراد. هو صفقة مربحة للرجال على كل الأصعدة مقارنة بالنساء، فلا يختلف اثنان حول الامتيازات الذكورية التي يتمتّع بها الرجال

في حين تتزايد المسؤوليات على كاهل النساء كفرض يمليه العرف والتقاليد الشعبية، فلا شأن للقوانين ولا للأديان في إلزام النساء بوظيفة يومية غير مدفوعة الأجر لا تشمل أيام عطل ولا راحة ولا تنظّمها ساعات عمل مضبوطة. وفق دراسة قامت بها منظمة أوكسفام وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية، تقضي النساء بين 8 و12 ساعة يومياً في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، مقابل 45 دقيقة للرجال. وقد قدّرت وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن قيمة هذه الأعمال غير المأجورة بـ 23 مليار دينار تونسي.

شهدتُ، وقد تحقق حلمي بالعمل في مركز "إنصات تناصف للنساء ضحايا العنف" من أجل توجيههن وتقديم الدعم لهن، شتى أنواع العنف الاقتصادي الذي تتعرّض له النساء من مختلف الفئات الاجتماعية، هذا وتتعدّد الانتهاكات، سواء من قبل الأزواج العاطلين عن العمل الذين يستولون على مدخرات أو مرتبات زوجاتهن بعد إجبارهن على العمل، أو من قبل أرباب العمل بالتعدّي على حقوقهن أو بطردهن من العمل إثر الحمل أو الإنجاب، فضلاً عن انتداب المتخرّجات حديثاً بعقد لفترة محدّدة، تمنح فيه الحكومة مبلغاً متواضعاً للتشجيع على التشغيل بينما لا يضيف عليه صاحب العمل أي منحة، وهو ما يعدّ استغلالاً لا إنسانياً مقارنة بالمهام المُوكلة للمتخرجات.

ومن مظاهر التمييز الاقتصادي والاجتماعي بين الجنسين الذي تمارسه الدولة، يتواصل إدراج "شؤون المنزل" كمهنة للنساء الباحثات عن الشغل أو العاملات في قطاعات غير مهيكلة، بالإضافة إلى ربّات البيوت في الوثائق الرسمية والأوراق الثبوتية، كبطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر. ولئن يمثّل هذا اعترافاً صريحاً بأعمال الرعاية المنزلية كمهنة، وإن كانت بدون مقابل فهي حكر على النساء فقط، إذ تُدرج للرجال في نفس الوضعية مهنة "عامل يومي".

تتزامن كتابتي لهذا المقال مع حملة 16 يوم نشاط ضد العنف المسلّط على النساء لعام 2022. حيث تتبجّح السلطات خلالها بمظاهر الاحتفالات والتكريمات وتنشر صوراً باللون الوردي والبرتقالي. تواصل افتخارها بقانون بقي حبراً على ورق، يكتسيه غبار أعوام من عدم تطبيقه. ما زلنا نناضل من أجل تطبيق القانون ونناهض تطبيع السلطات من خلال التعتيم التام على آخر الأرقام والإحصائيات، وعدم رصد ميزانية كافية لتوفير خدمات آمنة للنساء، وفقر الآليات المرصودة وعدم نجاعتها، وتخاذل المتعهّدين العموميين رغم وابل الجرائم المسلطة على النساء التي صارت تنتهي في أحيان متواترة بالقتل. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard