شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كشف المسكوت عنه أم مبالغة في السلبيات؟... الخليج في الرواية العربية

كشف المسكوت عنه أم مبالغة في السلبيات؟... الخليج في الرواية العربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 29 مارس 202312:56 م

يقول رولان بارت: "لا يستطيع أحد الكتابةَ من دون أن يتخذ موقفاً انفعالياً مما يحدث في العالم". والأدباء العرب الذين سافروا إلى منطقة الخليج أفادوا من انفعالاتهم تجاه الواقع الذي عاشوه، ووظفوا مشاهداتهم ورؤاهم الفنية فأنتجوا أعمالاً روائيةً مميزةً لاقت إعجاب جمهور القراء والنقاد، ذلك أن تجربة العمل في الخليج من التجارب الخصبة التي مروا بها في رحلة عملهم في الكويت، والسعودية، وقطر، وعُمان، والإمارات، حيث شغلوا وظائف متنوعة، موظفين، ومعلمين، ومهندسين، وصحافيين... إلخ، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهي الفترة التي عرفت بسنوات الطفرة.

المسكوت عنه في المجتمع الخليجي

استطاعت الرواية العربية في تطورها المستمر أن تفرز ما يمكن تسميته بتجربة السفر إلى الخليج أو تجربة العمل في الخليج، وتعتمد كتابات الروائيين العرب على إلقاء الضوء على المكان وطبيعة العلاقات الاجتماعية فيه، سواء بين الوافدين وبين أبناء المكان، أو بين الوافدين وبعضهم البعض، كما استطاعت بعض الأعمال الروائية أن تلقي الضوء بقوة على المسكوت عنه في المجتمع الخليجي، وأن تتوقف عند العديد من الثنائيات المؤثرة في طبيعة العلاقات الإنسانية، كالفقر والعوز في مقابل الثراء الفاحش، وثنائية العبد والسيد، وغيرها من الثنائيات الدالة.

الأدباء العرب الذين سافروا إلى منطقة الخليج أفادوا من انفعالاتهم تجاه الواقع الذي عاشوه، ووظفوا مشاهداتهم ورؤاهم الفنية فأنتجوا أعمالاً روائيةً مميزةً لاقت إعجاب جمهور القراء والنقاد

تُعد تجربة العمل والغربة للأديب العربي في البلاد العربية، من التجارب الإنسانية الباذخة الثراء، التي استفاد منها هؤلاء الكتاب وأنجزوا أعمالاً سرديةً شقت طرقاً جديدةً في الرواية العربية، وباتت تشكل علامات فارقةً في المسيرة الإبداعية لمؤلفيها، وقد تمت ترجمة معظم هذه الأعمال إلى العديد من اللغات الأجنبية، خاصةً الأعمال مثل "نجران تحت الصفر" للكاتب الفلسطيني يحيى يخلف، وزير الثقافة السابق، و"الطريق إلى بلحارث" للكاتب الأردني من أصل فلسطيني جمال ناجي، و"براري الحمَّى" للشاعر والروائي الأردني من أصل فلسطيني أيضاً إبراهيم نصر الله، و"مسك الغزال" (1989) للكاتبة اللبنانية حنان الشيخ، وروايات الكتاب المصريين "البلدة الأخرى" لإبراهيم عبد المجيد، و"الخليج"، و"زوينة" لمحمد جبريل، و"وردة" لصنع الله إبراهيم، و"دَق الطبول" لمحمد البساطي، و"اهبطوا مصر" (2000) للراحل محمد عبد السلام العمري. وقد وقعت أحداث هذه الروايات في قطر، وعمان، والكويت، لكن الكثير منها دارت أحداثه في السعودية.

مبالغات في التركيز على السلبيات

لامست هذه الأعمال واقع المجتمع الخليجي وصفاً ومشاهدة، وإن كان بعضها قد بالغ في التعاطي مع السلبيات الاجتماعية وواقع الحياة، فإن ذلك يعود إلى وجهة نظر الكاتب وزاوية التقاطه لأحداث روايته، وقد تراجع بعض مبدعي تلك الأعمال عن آرائهم التي جاءت في الرواية، بعد سنوات من كتابتها، مثل الكاتب يحيى يخلف صاحب رواية "نجران تحت الصفر" (1977)، الذي قال إن نجران اليوم ليست نجران التي عاش فيها في سبعينيات القرن الماضي، وإن الكثير من التطور في الطرق والمعمار شهدته المدينة في ما بعد.

وتتنامى في هذه الأعمال مجموعة من الثنائيات الدالة، مثل ثنائية الغني والفقير، والمقرّب من صاحب العمل والمغضوب عليه، وثنائية السيد والخادم التي تتجلى في قلة الحيلة أو الانسجام التام اللذين تتعرض لهما الشخصيات المحورية حين يضطرون تحت وطأة ظروف الاحتياج والعوز الذي يعانون منه في بلادهم، إلى التطلع للسفر إلى الخليج حيث وفرة المال، مما يدفعهم إلى التهيؤ نفسياً لقبول كل شروط أصحاب العمل مهما بلغت حدة قسوتها.

أعمال رائدة عن السفر والغربة

قبل ظهور هذه الروايات، ظهرت أعمال رائدة كان لها السبق في ارتياد تجربة الكتابة عن السفر والغربة إلى بلد عربي، منها، تمثيلاً لا حصراً، الأعمال الروائية التي أبدعها كتاب فلسطينيون مثل "صيادون في شارع ضيق" (1960)، التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا عن تجربته في العراق، ورواية "رجال في الشمس" (1963)، للكاتب غسان كنفاني، ورواية "يا ليلة دانة" (1968)، التي كتبها الدكتور عبد الله الدنان عن تجربته في العمل في الكويت، وتوالت الأعمال الروائية بعد ذلك وتطورت لترصد تجارب كتّابها في منطقة الخليج.

تكشف هذه الأعمال عن تجارب حقيقية لكتابها؛ فرواية "صيادون في شارع ضيق" تتناول حياة مهاجر فلسطيني في العراق، من خلال شخصية جميل فران بطل الرواية الذي تتقاطع سيرته مع سيرة المؤلف، واشتملت الرواية على كثيرٍ من المواقف السياسية لكاتبها، بالإضافة إلى أنها صورت شخصيات من شرائح اجتماعية مختلفة.

الرحلة... وصهاريج المياه

أما رواية "رجال في الشمس" التي حولها المخرج توفيق صالح إلى فيلم سينمائي بعنوان "المخدوعون"، فهي الرواية الأولى للكاتب غسان كنفاني، وصورت مأساة ثلاثة فلسطينيين من أجيال عمرية مختلفة، تدفعهم أحوالهم المادية المتردية وحالة العوز للتفكير في إمكانية الهرب إلى الكويت من أجل العمل وتحسين أوضاعهم المادية، فـ"أبو قيس" رجل عجوز يحلم ببناء غرفة خارج المخيم، وأسعد الشاب الطموح يحلم بالثروة وحياة جديدة ومختلفة، أما مروان الصبي الصغير فيحاول أن يتغلب على مأساته المعيشية.

ولتحقيق أحلامهم، يقترح عليهم أبو خيزران الدخول إلى قلب صهريج السيارة ليقلهم عبر العراق إلى الكويت، إلا أن إجراءات الحدود تؤخر السيارة مما يعرضهم لِلَهيب الصحراء، فيموت الثلاثة جراء انقطاع الهواء وارتفاع درجة الحرارة.

يُلاحَظ أن أبطال "رجال في الشمس" الذين حاولوا التسلل إلى الكويت عبر الأراضي العراقية، كانوا يختبئون داخل صهاريج المياه، وانتهت رحلتهم، رحلة البحث عن لقمة العيش، بالموت في الصحراء داخل الصهاريج، أي أنهم لم يصلوا إلى مقصدهم وهو الدخول إلى المكان/الكويت، ولم يتعاطوا مع المجتمع الكويتي، وتالياً فإن الرواية توقفت عند تخوم المكان وحسمت مصائر شخوصها عند تلك التخوم.

بينما تجاوزت الأعمال الروائية التي جاءت بعد ذلك كلَّ التخوم، وامتزجت سيرة البطل الرئيس/الوافد، بسِير أبناء المكان، وتقاطعت مصائر الأبطال المغتربين مع مصائر أبناء المكان، وأصبح وقوع حدث خاص بالبطل الرئيس كفيلاً بأن يؤثر تأثيراً جوهرياً في الأحداث المتعلقة ببقية الشخوص، وفي المقابل -أيضاً- اتسمت بعض الأعمال بأن بات مصير البطل/الوافد فيها مرهوناً بالمنحى الحياتي الذي يتخذه أبناء المكان باختيارهم.

مناطق عربية متعددة... والرؤية واحدة

يُلاحَظ أن الأعمال الأولى وقعت أحداثها في العراق أو في الكويت، أو ما بينهما في الصحراء، بينما الأعمال التي جاءت بعد ذلك وقعت أحداثها في مناطق خليجية مختلفة. وقعت أحداث رواية "نجران تحت الصفر" في مدينة نجران (جنوب السعودية)، وأخذت رواية "براري الحمى" من مدينة القنفذة (شمال السعودية) مسرحاً لها، بينما دارت أحداث "البلدة الأخرى" في مدينة تبوك (غرب السعودية)، ووقعت أحداث "زوينة" (2004)، و"وردة" (2000) في سلطنة عُمان.

لم يكشف الكاتب محمد البساطي عن مسرح أحداث روايته "دق الطبول"، إلا أن ثمة إشارات ودلالات وبعض الوقائع والأحداث السياسية والرياضية كشفت عن أن المكان الذي وقعت فيه الأحداث خليط من أمكنة متعددة، لأن الأحداث السياسية والرياضية التي وقعت في المكان الروائي حدثت في الواقع لكن في أماكن عدة. وذكر البساطي نفسه أن "الرواية ليست عن الإمارات فقط، بل أيضاً عن الأوقات التي قضاها في العراق والسعودية والكويت".

رواية أولى ليحيى يخلف

تُعد رواية "نجران تحت الصفر"، وهي الرواية الأولى لصاحبها الكاتب يحيى يخلف وزير الثقافة الفلسطيني السابق، وصنفها الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب واحدةً من أهم مئة رواية عربية صدرت في القرن العشرين، وتعبر عن حقبة الستينيات الميلادية والتغيرات الكبيرة التي حدثت في المجتمع الخليجي، إذ ترصد تفاصيل الحياة الاجتماعية من خلال التركيز على المكان/بيئة نجران، وتنتقل إلى الشخصيات راصدةً خفايا الدائرة الحضارية الصغيرة في المنطقة وناسها، لا سيما أنها تناولت وقائع وأحداثاً وظروفاً اجتماعيةً.

يوضح يخلف أن نجران القديمة ليست هي نجران الآن، فعندما كان يعمل مدرساً في مدرسة متوسطة نجران، لم تكن هناك مدارس ثانوية، ولم تكن هناك شبكة مياه تصل إلى البيوت، وقد طُبعت الرواية في أكثر من خمس عشرة طبعةً، ومُنعت في بعض البلدان العربية، وصودرت ومُنعت في بعض الأقطار وتضرر بعض الأصدقاء من الأدباء العرب الذين احتضنوها وكتبوا عنها، ومنهم الناقد الكبير رجاء النقاش الذي خسر وظيفته كمشرف على الصفحة الثقافية في صحيفة عربية، لأنه كلف أحد الصحافيين بإجراء حوار معه تطرق إلى الرواية، وبعد نشر الحوار تم إيقاف رجاء النقاش عن العمل في الصحيفة.

"براري الحمّى" معمار روائي حداثي

أما رواية "براري الحمى" (1985)، فقد كتبها الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله، بعد سنوات من إقامته في القنفذة في المملكة العربية السعودية خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وهي الرواية الأولى له أيضاً، ولم تزل تثير الكثير من النقاشات حول بنيتها الفنية وموضوعها، كما أعيدت طباعتها مرات عدة، واتسمت بعالمها الخاص ولغتها المختلفة، واستطاعت أن ترتكز على الكتابة الغرائبية التي تمزج الواقع بالأسطورة ونمنح الصحراء أبعاداً أخرى، واتسمت بعالم كافكاوي حيث يحضر الموت بقوة، وتنحو الرواية باتجاه الأحداث الكابوسية.

لامست هذه الأعمال واقع المجتمع الخليجي وصفاً ومشاهدة، وإن كان بعضها قد بالغ في التعاطي مع السلبيات الاجتماعية وواقع الحياة، فإن ذلك يعود إلى وجهة نظر الكاتب وزاوية التقاطه لأحداث روايته

يوضح إبراهيم نصر الله، أن انفتاح الرواية على الصحراء مثلاً كمكان بِكر، وعلى حركة الداخل الذي يوازي المحيط العام؛ حتم إيجاد لغة خاصة بها تقترب من الشعر، كما أن بحث بطلها عن الذات في المكان الذي ضاع فيه، حتم اللجوء إلى منجزات علم النفس والإفادة من الدراسات المكرسة لعادات وحياة بعض الحيوانات الموجودة في المنطقة، حيث لم يكن بالإمكان مثلاً تصعيد علاقة العداء بين بطل الرواية وبين الخفافيش التي تشاركه الغرفة إلا عبر معرفته بأن هناك أنواعاً من الخفافيش تنقض على النائم وتمتص دمه من دون أن يحسّ بذلك.

تقول الناقدة د. سلمى خضراء الجيوسي: "براري الحمى من أدق التجارب الجمالية تشرباً لروح الحداثة، فقد استبطن المؤلف الحداثة استبطاناً كاملاً وكأنه وُلد فيها".

"دقّ الطبول"... وعالمها الكابوسي

تتمحور رواية "البلدة الأخرى" (1991) للكاتب إبراهيم عبد المجيد، حول إسماعيل الشاب المصري وهو نموذج عن غربة الانفتاح في السبعينيات من القرن الماضي، إذ يبحث عن عمل، أي عمل، في بلاد النفط والصحاري فيقرر الانتقال هناك بعيداً عن حياته اليومية التي لا تصل به إلى أي هدف مهما كان، ويصور عبد المجيد في روايته نماذج من الشخصيات سواء من الوافدين أو أبناء المكان، ويصف طبيعة العلاقات بين بعضهم البعض.

تتناول رواية "دق الطبول" (2005)، تجربة امرأة مصرية تعمل جليسةً لسيدة خليجية لا تقوى على الحركة، وتقع الأحداث في إحدى الإمارات الخليجية التي تنهض على العمالة الأجنبية، العربية وغير العربية، في كافة الشؤون اليومية من دون أن يفصح الكاتب عن اسم هذه الإمارة، وتحفل الرواية بصور عديدة للتفرقة، والبذخ، والإسراف.

يأخذنا البساطي في روايته إلى عالم كابوسي مفزع يصبح فيه الإنسان مثل الآلة، لا حياة فيه ولا عاطفة. واستطاع البساطي بتقنية فيها الكثير من التميز والإتقان، أن يجعل من سيدة مصرية مغتربة بطلة لروايته، فالراوي (البطل) هو الشخصية المركزية للرواية وكل الأحداث تجري من خلاله، يتوارى عالمه ومشاهداته عندما يتناول هذه السيدة وفجيعتها وتصبح هي الراوي والشخصية المركزية التي تحدد مجريات الأحداث. وتصبح في وجودها شخصيةً ثانويةً؛ ذلك أنها جزء أساسي من عالمه ومركز للأحداث.

صرح الكاتب محمد جبريل، لرصيف22 بأنه لم يُعد النظر إلى ما كتبه سابقاً من أعمال روائية تناولت تجربة السفر والغربة في الخليج، وتالياً لا يستطيع أن يحدد إجابةً واضحة عن ماذا لو عاد به الزمن إلى الوراء؛ هل سيكتب عن تلك التجربة بمنظار الرؤية نفسه، أم سيكون هناك اختلاف أو تراجع، لأنه لا ينشغل سوى بما يكتبه الآن وما يطمح إلى تحقيقه في المستقبل، فعلاقته بالعمل الأدبي الذي يكتبه تنتهي بمجرد الانتهاء منه وتسليمه للناشر؟  

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard