احتلّت "خزانة الخليفة" مكانة كبيرة طيلة عصور الدول الإسلامية المختلفة، بعدما لعبت دوراً أساسياً ومتنوعاً تزامن مع بناء الدولة، فكانت الشاهد الرئيسي على عصور القوة الإسلامية، والتي تُرجمت إلى الحرص على اقتناء كُتبٍ نفيسة ومجوهرات لا نظير لها ووثائق نادرة لم يجد الخليفة خيراً من خزانته للحِفاظ عليها.
بعد سقوط بغداد، أمر هولاكو بسجن المستعصم الخليفة العباسي الأخير داخل خزانته شامتاً فيه، ثم طلب منه أن يأكل ويشرب من تلك الكنوز التي داوم العباسيون على حِفظها حتى وكأنهم أهملوا دولتهم وجيوشهم.
لم تخبرنا هذه الرواية الحزينة بالكثير عن المحتويات التفصيلية للخزانة العباسية حينها ومنحتنا فقط إشارة إلى أنها كانت تضمُّ بُردة النبي التي كان يتّشح بها حين وفد عليه الشاعر كعب بن زهير وألقى عليه قصيدة أعجبته، فنهض الرسول من مجلسه وألبسه بُردته الصوفية.
خزانة الأمويين
بحسب الروايات التي أرّخت لمسار حياة هذه البردة فإنها قد ذهبت إلى الخليفة السادس معاوية بن أبي سفيان بعدما اشتراها من ورثة كعب، ثم بقيت محفوظة عند الأمويين حتى قضى العباسيون على دولتهم واستولوا على البُردة لتُصبح واحدة من النفائس النادرة التي عاصرت قيام الدولتين الأموية والعباسية منذ البداية وحتى النهاية، ولعلها تكون الأثر الوحيد الذي حظي بتلك التجربة.
واختلف مصير البُردة عن مخطوطات أحاديث النبي التي لم يصلنا منها شيء، فيقول أحمد العبادي في كتاب "دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية" إنها ظلّت محفوظة في الخزانة العباسية طيلة قيام دولتهم، وكانوا حريصين على لبسها في المناسبات الرسمية إعلاناً لشرعيتهم وصِلتهم المباشرة بالرسول. عقب سقوط بغداد، أخرج هولاكو البُردة من الخزانة وحاول حرقها.
اختلف مصير البُردة عن مخطوطات أحاديث النبي التي لم يصلنا منها شيء. يقول أحمد العبادي في كتاب "دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية" إنها ظلّت محفوظة في الخزانة العباسية طيلة قيام دولتهم، وكانوا حريصين على لبسها في المناسبات الرسمية إعلاناً لشرعيتهم وصِلتهم المباشرة بالرسول
هنا اختلفت المرويات في مصيرها ما بين نجاح المحاولة المغولية والقضاء على البردة نهائياً، وبين نجاتها حتى وقعت بين أيدي الخلفاء العثمانيين بطريقةٍ ما، وهي المحفوظة حالياً في إسطنبول.
هنا يجب ذِكر أن البُردة النبوية لم تكن أشهر شيء ثمين حوته الخزانة الملكية الأموية، فقد أضيف إليها في عهد عمر بن عبدالعزيز مخطوط لواحدٍ من أقدم محاولات كتابة السُنة النبوية، بعدما تلقى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أمراً من عمر بن عبد العزيز بتدوين ما عرفه من مواد الحديث، ففعل ذلك وأودع مخطوطته في خزانة الخلافة، حسبما ذكر محمد عثمان في كتابه "المدخل إلى التاريخ الإسلامي".
هذه المخطوطة صارت أساساً لكُتب المغازي، والتي سينبثق عنها كتاب سيرة ابن إسحق، الذي سيلخصه ابن هشام في مصنّفه الحديثي الشهير، ليكون أقدم نص وصلنا عن سيرة النبي.
المفارقة أن محاولة الاختصار الأخيرة جرت بطلب الخليفة العباسي المنصور، الذي أمر محمد بن إسحق بتأليف كتابٍ لابنه المهدي يحوي تاريخ الخليقة إلى بداية الدولة العباسية ففعل. ولما سلّمه إلى الخليفة المنصور أمر بحفظه في خزانته، كما ذكرت بان حسين في دراستها "مدرستا البصرة والكوفة في التاريخ في القرن الثالث الهجري". وهكذا كانت خزانة الخلفاء الأمويين والعباسيين حافظة للمحاولات الأولى لكتابة علم الحديث.
وفي كتابه "تاريخ تدوين السُنة وشبهات المستشرقين" يؤكد حاكم المطيري أنه قبل عصر عمر بن العزيز، آوت الخزانة الأموية دفاتر كُتبت فيها أحاديث أبي هريرة وحُفظت في خزنة الخليفة مروان بن الحكم. هذه الدفاتر رُوجعت بواسطة أبي هريرة نفسه للتأكد من صحتها ودقتها.
ويؤكد المطيري أن مروان بن الحكم احتفظ أيضاً بدفتر احتوى على أحاديث الصحابي زيد بن ثابت وآرائه الفقهية، وهو النهج الذي حافظ عليه كثيرٌ من أفراد الأسرة الأموية، إذ يقول المطيري: "كان هؤلاء الخلفاء والأمراء يجمعون هذه الأحاديث في خزانة الدولة للاحتفاظ بها والرجوع إليها عند الحاجة، كما كانوا يجمعون فيها كتباً أخرى".
وعلى نسق مُشابه لما سيفعله العباسيون لاحقاً، سارت الخزينة الأموية في قرطبة، إذ حرصت على استقطاب أشهر وأندر النفائس حول العالم.
وفقاً لكتاب "الأمويون٬ العباسيون٬ الأندلسيون" لوجدان علي نايف، فقد احتوت خزانة قرطبة على عددٍ ضخم من النفائس منها عُقد من الزمرد كان مملوكاً لهارون الرشيد في بغداد، ولؤلؤة بحجم بيض الحمام لُقبت بـ"الدرة الفريدة" كانت ملكاً لأحد ملوك الروم علّقها عبد الرحمن الثالث في سقف القاعة الذهبية، كذلك امتلك الخلفاء الأندلسيون حجر ياقوتٍ ضخم كانوا يضعونه على العمامة في المناسبات الخاصة، هو الآن أحد قطع مجوهرات التاج البريطاني.
خزانة الخلفاء الأمويين والعباسيين كانت حافظة للمحاولات الأولى لكتابة علم الحديث.
كذلك ضمّت الخزانة القرطبية عشرات الكتب الهامة والوثائق والسجلات، عرفنا ذلك من سيرة المؤرخ محمد بن الحارث الخُشَني، الذي شكّلت "وثائق الخزانة" جزءاً رئيسياً من تفرُّد تجربته التاريخية، بعدما استعان بجزءٍ كبيرٍ من هذه الوثائق والمراسلات الرسمية في كتاباته، وفقاً لما أورده أحمد الوزان في دراسته "التدوين التاريخي في الأندلس".
فصّ الياقوت
حكى المسعودي في كتابه "مروج الذهب" أن هارون الرشيد اشترى فصّاً من الياقوت الأحمر كان يُعرف بِاسم "الجبلي"، نُسبت ملكيته إلى الأكاسرة ملوك الفرس، دفع فيه الرشيد 300 ألف درهم.
منحت الرواية أبعاداً أسطورية لخصائص ذلك الفص الياقوتي، فكان يضيء بالليل كضياء المصباح حتى أنه إذا وُضع في منزل مُظلم أشرق فيه بالنور، أيضاً إذا نُظر إليه بالليل كان يُرى فيه تماثيل تتحرّك!
لذا وصفه ميخائيل عواد في كتابه "صور مشرقة من حضارة بغداد في العصر العباسي" بأنه "أخطر الجواهر، وأعلاها قدراً، وأبعدها صيتاً".
ويضيف: تداولته (يقصد الفص) أصابع العظماء من خلفاء وملوك وغيرهم، وتنقّل من بلدٍ إلى بلد ومن خزانة إلى خزانة طوال قرونٍ عديدة.
وبحسب المسعودي، فإنه بعد وفاة الرشيد، خرج الفص إلى النور في عهد المستعين بعدما أمر بإخراجه من خزانة الخلافة، ثم وضعه إصبعه بعدما نقش عليه اسمه، فصار حديث الناس، لأن هذا الفص كان معروفًا أنه "لم ينقشه ملكٌ إلا مات قتيلاً"، وهو ما جرى فِعلاً مع الخليفة المستعين، فبعدما خلعه التُرك من منصبه تم اغتياله. بعدها ظهر الفص الياقوتي مُجدداً في أيام الخليفة المقتدر، ثم اختفى أثره بعدها.
ووفقاً لكتاب ميخائيل، فلقد آوت الخزانة العباسية عدداً كبيراً من الجواهر بالغة النفاسة والفرادة، مثل "الدرة اليتيمة" التي كانت تزن ثلاثة مثاقيل، وفص "ورقة الآس" الذي كان يزن مثقالين واشتراه الخليفة العباسي المقتدر بالله بـ60 ألف درهم.
أيضاً حوت خزائن الخلفاء فصّاً اشتهر بِاسم "العنقاء" كان يزن 23 مثقالاً، وكذلك فصاً من ياقوت أحمر عُرف بـ"المنقار" وزنه 15 مثقالاً، وكان على خِلقة طائر له منقار أصفر.
حكايات الزيبق ومناديل القوة
بخلاف جوهرة الياقوت، فقد بلغت في عهد الرشيد الخزانة الخليفية ذروتها في إيواء الكنوز والنفائس، وهو ما يُمكننا الاستدلال عليه من حادثة السرقة التي وقعت للخزانة في عهده فاستعان بعرّافة أنبأته بمكان المسروقات وكانت كميات كبيرة من الدُر والياقوت والزمرد خبّأها اللص في بئر، حسبما روى أحمد الشنتناوي في كتابه "التنبؤ بالغيب قديماً وحديثًا".
وتطرّقت حكايات ألف ليلة وليلة لإعجاب هارون الرشيد بشخصية البطل الشعبي علي الزيبق، وأمر بأن تُكتب سيرته في كتاب يُوضع في خزانته تخليداً لها. صحيح أن الليالي العربية ليست كتاباً تاريخياً، لكنها تعطينا دلالة شعبية هامة على مدى مكانة "الخزانة" في العهد الهاروني بعدما اعتبر أن حِفظه لأي شيءٍ فيها هو غاية التكريم والخلود.
وبما عُرف عن الخلفاء العباسيين من الاهتمام باستعمال المناديل كدليل على القوة والعظمة، لذا امتلكوا أعداداً كبيرة منها حتى احتوت خزانة الرشيد على 5 آلاف منديل متنوعة الأصناف، حسبما ذكرت أسماء عمارة في بحثها "البلاط العباسي".
كذلك ضمّت خزانة هارون نسخة من التوراة ترجمها أحمد بن عبدالله بن سلام، أحد موالي الرشيد، حسبما ورد في "الفهرست".
كتاب المأمون
خلال خلافته، حرّر الخليفة المأمون كتابًا من خمس صفحات يأمر فيه بشتم معاوية والأمويين على المنابر مع كل صلاة. أكثر المأمون من الاستشهاد بالآيات والأحاديث التي تذكّر بظُلم الأمويين للعلويين. ظلَّ هذا الكتاب محفوظاً في خزانة الخلافة حتى أخرجه الخليفة المعتضد بالله عام 284هـ وأمر بقراءته على الناس بعد كل صلاة.
احتوت خزانة قرطبة على عددٍ ضخم من النفائس منها عُقد من الزمرد كان مملوكاً لهارون الرشيد في بغداد، ولؤلؤة بحجم بيض الحمام لُقبت بـ"الدرة الفريدة" كانت ملكاً لأحد ملوك الروم علّقها عبد الرحمن الثالث في سقف القاعة الذهبية
أيضاً، حفظ المأمون في خزانته أثراً تاريخياً نادراً هو رقعة من الجلد كتب عليها رجل حميري شهادة دينٍ اقترضه من عبدالمطلب بن هاشم، جد النبي، وفقاً لما ذكرته "دائرة المعارف الإسلامية".
لعل تلك القطعة من الجلد، هي نموذج خط المسند الحميري، الذي ذكر المؤرخ ابن النديم، أن المأمون كان يحفظه في خزانته تخليداً لهذا النوع النادر من الخط العربي.
ديوان الإمام جابر بن زياد
هو واحدٌ من أبرز علماء الدين الذين ظهروا في العهد الأموي، تتلمذ على يدي عبدالله بن عباس، وبرع في الفقه حتى شاع ذِكره في العالم الإسلامي.
قيل عنه إنه وضع واحداً من أهم الكُتب العلمية في التاريخ الإسلامي، وهو "ديوان جابر"، الذي شمل مختلف فنون الشريعة، لم يصلنا هذا الكتاب لأنه ظلَّ محفوظاً في خزانة الخليفة العباسي، فلم يعرف الناس عن محتواه شيئاً رغم فرادة موضوعاته وأهميتها.
يحكي ميثم الجنابي في كتابه "الأشباح والأرواح: المثقف والسُلطة في العصرين الإسلامي الأول والأموي" أن فرج بن نصر، وهو قائد إحدى الفرق الإباضية المغربية، سافر إلى بغداد للحصول على نسخة الكتاب التي "كان يشحُّ الخليفة بها على أمة المسلمين"، اشترط عليه الخليفة أن يُجيبه على عدة أسئلة نجح فرج في تجاوزها جميعاً، وبالفعل حصل على الكتاب، لكنه أضاعه في طريق عودته إلى المغرب.
قِبلة الكنوز
بمرور الوقت، صارت الخزانة العباسية أهم مكانٍ في العالم لجمع الكنوز، فبخلاف النفائس التي توارثها الخلفاء العباسيون أباً عن جد، شهدت العصور العباسية الأخيرة ظاهرة تنافس أمراء العالم على التقرّب إلى الخليفة بإرسال المجوهرات الضخمة إليه حتى قال محمد كامل في بحثه "الألقاب الفخرية والنعوت التشريفية في الدولة السلجوقية"، إنه أصبح معتاداً أن تتلقى خزانة الخلافة الهدايا الفاخرة والتحف النادرة من الطامعين في الألقاب لدرجة أنها أصبحت مصدرًا من مصادر الدخل الهامة للخليفة.
فعندما زُفّت قطر الندى (أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون) إلى الخليفة العباسي المعتضد، أمر الأخير بإكرامها فور قدومها عليها. وبحسب الرواية فإن الخدم فتحوا الخزانة وأخرجوا منها 4 شمعات من عنبر في أربعة آنية من الفضة.
في المقابل، فإن قطر الندى اصطحبت معها إلى زوجها كميات هائلة من الذهب تمثلت في مائة هاون وأباريق وطاسات وآنية كلها مصنوعة من الذهب، وهو ما تعجّب له الخليفة قائلاً: "يا أهل مصر ما أكثر صفركم" (الصفْر هو النحاس)، فردَّ عليه أحد الحضور "يا أمير المؤمنين، إنما هو ذهب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت