حوَّل اللبنانيون، أي طاقمهم السياسي-الإعلامي، تعليق انتخاب رئيس دولتهم الاسمي (والاسمية) إلى حائط مبكى. وأنزلوا ملء "الشغور الرئاسي"، على قولهم، منزلة "افتح يا سمسم"، أو الكلمة-الجملة التي تلزم الأبواب الموصدة كلها بالانشقاق، والانقياد للداخل والخارج، ورفع الحواجز أمام المعاملات والتجارات والمواصلات. وشاع التغني بدور الرئاسة "الأولى" الفريد في "انتظام عمل المؤسسات"، ولم تكن قد مضت إلا أيام قليلة على نهاية عهد امتلاء المنصب بل تخمته برئيس صرف أعوامه الست في تعطيل المعاملات، وتعقيم "التجارة"، وتقطيع الأواصر والعلائق وتسميمها.
وسرت عدوى النسيان الرئاسي في أوصال الهيئات الأخرى. فغفل البكاؤون، "ذوو الدمعة" على قول بعض أهل المذاهب والفرق، عن أن الشغور، أو الفراغ الفاغر، أصاب الرئاسة الثالثة، الوزارية والإجرائية، قبل الأولى، حين كفّت رئاسة الجمهورية، المنوطة بالرئيس (يومها) ميشال عون، يد الحكومة والإدارة الفعليّتين، وأقالتهما وعطّلتهما من داخلهما، ومن طريق حصتها الوزارية والميثاقية (التي تقضي باحتساب وزراء القطب الطائفي واقتراعهم على القرارات).
وكان التعطيل الفعلي قد أصاب العمل الوزاري، والتشريعي استتباعاً، مع تعاقب أزمات التشكيل بعد استقالة سعد الحريري غداة حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. ودلّت محاولة ملء الفراغ الوزاري بوزارة حسان دياب، وكانت كارثة مرفأ بيروت القاصمة في 4 أيلول/ سبتمبر 2020 ذروة "إنجازاتها"، على عسر إنجاز طبعة ثانية من "تفاهم" ميشال عون-حسن نصر الله، الماروني-الشيعي، على المنحدر أو المنقلب السنّي-الشيعي. فيُولّى المناصب الوزارية، والإدارية وملحقاتها ومصالحها من بعد، مَن ينيبهم عن ناخبيهم ودوائرهم و"عائلاتهم" وعصبيات طوائفهم الداخلية، الوصي الشيعي.
ووجدت معضلة الإنابة والانتداب، في غياب النادب أو تغييبه، حلها في رئيس حكومة سياسي "موشّى" على قول فيلون الإسكندراني (20ق.م.- 45م.) أو "مرقّط"، على قول الشاعر اللبناني يوسف بزي، نصفه أصيل التمثيل ونصفه معار، هو رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. والرجل ملتقى ومفترق سياسات القوى المحلية التي تتنازع على التمديد لتعليق المشكلات العصبية القائمة، وللطاقم السياسي الحاكم. فهو مع التدقيق المالي الجنائي، ومع الرقابة على تحويلات النقد الأجنبي، ومع هيكلة القطاع المصرفي، ومع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ومع "الضابط" المحارب رياض سلامة حاكم مصرف لبنان (المركزي)، معاً وجميعاً.
لبننة وبلقنة
والشغور النيابي البرلماني لا يقل حدّة وإلحاحاً عن الدوران الرئاسي والوزاري في حلقتين مفرغتين، على رغم ثبات صورة رئيس المجلس (منذ 31 عاماً)، واعتداده بتحريك خيوط "اللعبة" السياسية اللبنانية الرسمية والشكلية. وقد أسفرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة، في ربيع 2022، عن بلقنة المجلس النيابي، أو لبننته (خلافاً لزعم أنطوان مسرّة، أستاذ القانون وعضو المجلس الدستوري سابقاً، أن "لبنان لم يتلبنن").
فتفرَّق النواب المنتخبون أفراداً، وبعض كتل، وكتلاً غير متماسكة ولا مجمعة، ما عدا الكتلتين الشيعيّتين المتضامنتين تضامناً "آلياً" وعصبياً يحسبه نوابهما "عضوياً" وطوعياً. وفوق هذا، وأشدّ خطراً، انفصل التمثيل النيابي المحلي العصبي والأهلي من التمثيل الوطني أو المشترك. فالنواب المنتخبون، شأن خصومهم، انتخابهم أو الاقتراع لهم هو ثمرة روابط وميول وشبكات. وعلى وجه آخر يجري على منطق واحد: فهو ثمرة عداوات وضغائن وشقاقات، تغلب عليها الصفة البلدية ودوائرها الضيقة والموروثة.
والانتساب الحزبي "الوطني" أو المفترض وطنياً، على شاكلة الانتساب إلى حركة "أمل" أو حزب القوات اللبنانية أو تيار المستقبل (قبل انكفاء رئيسه سعد الحريري وبعد انكفائه) أو الحزب التقدمي الاشتراكي، لا يصل البلدي الأهلي (وهذا يدمج الأواصر العائلية العشائرية في جوار السكن الأصلي، ثم السكن في المهاجر، وفي تقسيم العمل المهني، وفي المعتقد الديني والمذهبي) بالوطني المشترك والعام، إلا صلة ضعيفة وثابتة.
فالأحزاب أو التيّارات اللبنانية، أي تلك التي يمزج تمثيلها النيابي أكثر من دائرة انتخابية وجغرافية "صافية"، تستمد عموميتها الوطنية من انتشار سكن جماعتها الطائفية في "ديرات" متفرقة. ولم يتعدَّ أثر سكن المدن المختلطة، وهو يرقى اليوم إلى قرن من السنين، وغلبةِ عدد المهاجرين من الأرياف على عدد المقيمين الأوائل إنْ في المدن أو في الأرياف، (لم يتعدَّ) هذا الأثر إنشاء دوائر مختلطة.
وتحتسب مقاعد هذه الدوائر، أي هوية نوابها، عدد المهاجرين القدماء الذين دوّنوا أنفسهم في سجل القيد المحلي، وتكاثر أولادهم. فالذين وُلدوا لآباء أجداد تركوا قراهم في ثلاثينيات القرن الماضي، وتعاقبوا أربعة أجيال أو خمسة وهم مقيمون في حي بيروتي، لا يزالون، انتخابياً، جزءاً من جالية أو جزيرة على حدة.
وهذه الجالية، انتخابياً وسياسياً، فرع من أصل يتشاركان، دون الناخبين الآخرين في الدائرة، هوية أهلية واحدة. فلا يتخطى الناخبون حدود الدائرة المحلية والجغرافية، ولا يتجاوزونها إلى "مستوى" أعلى وأعمّ، إلا ليلاقوا وجهاً آخر من قومهم وجماعتهم هو الوجه المذهبي (وليس الطائفي وحده).
"الأرثوذكسي"
ولا تكتم جماعات من اللبنانيين، معظمهم من المسيحيين ومن ذوي الهوى العوني (نسبة إلى الرئيس السابق ميشال عون)، ضيقها بنظام انتخابي مختلط، رغم ضعف هذا الاختلاط والتحاقه بإطار مذهبي يعلوه ويتوّجه. فيقترحون ما يسمّى بنظام انتخاب "أرثوذكسي"، نسبة إلى مذهب الداعي إليه، يَقصُر الاقتراع لنائب المذهب على ناخبي المذهب، فلا يشاركهم فيه أهل مذهب آخر من الدائرة الواحدة وفيها.
وعلى المنوال النيابي هذا، احتجّ حزب الرئيس السابق لأحقيته في الرئاسة ورجحوها. وقالوا: لما عادت الرئاسة الثانية، البرلمانية، إلى "الأقوى" في شيعته، والثانية إلى مقدَّم أهل السنّة والجماعة، وبناءً على معيار واحد، وجب أن تعود رئاسة الجمهورية اللبنانية إلى "صاحب" أكبر الكتل النيابية المسيحية وأكثرها عدد نواب (وليس عدد ناخبين)، وهي يومها التيار الوطني الحر، على ما يسمّي أنصار الرجل حزبهم وقومهم.
"تُستأنف اليوم الحجّة نفسها، وفي المعرض نفسه: عطالة الرئاستين التنفيذيّتين، وقيام الإمساك عن الاقتتال الأهلي (مع التلويح البذيء به) محل العمل السياسي"
واستحال إقرار نظام الاقتراع الأرثوذكسي بسبب اعتبارات لم تملها معايير التماسك الوطني، ولا معايير اضطلاع المجلس النيابي بوظيفتي التشريع والمراقبة على خير وجه، بل أملتها موازين القوى، أي أحجام كتل المقترعين من الطوائف الكبيرة والمنتشرة في الدوائر الانتخابية المختلطة والقريبة من التجانس. فإذا اقترع أهل المذهب لمرشحي مذهبهم خسرت المذاهب الأخرى، وهي الشيعة والسنة، قدرتها الفعلية، وإن المتفاوتة، على ترجيح كفّة "حلفاء" في دوائر يغلب عليها سكان وناخبون من غير المذهبين الإسلاميين. وهؤلاء الحلفاء، أقرب إلى الموالي المقيّدين منهم إلى ممثلين أحرار لناخبين أحرار.
وعلى هذا يبلغ المجلسَ النيابي اللبناني ويجلس في مقاعده، ما عدا استثناءات قليلة تعللها القواعد السائدة التي مر للتو وصف عملها، منتخَبون يدينون بانتخابهم إلى أجهزة حزبية وأهلية متحجّرة منذ عقود. وتتحدّر هذه الأجهزة من حال حرب، أو أحوال حروب، مضى عليها نصف قرن، على أضعف تقدير. وفي الأثناء، لم تعطَّل عوامل الحروب المتشابكة والمتحولة. ولا قطعت حبال السرة التي تربط الجماعات الأهلية المتنازعة بعوامل الانشقاقات والخلافات المتعاقبة. وهذا منذ الخلاف (وهو خلافات) على "الكيان" والولاء ومراتب المواطنة، إلى الانقسام على العامل الفلسطيني المسلح المنقسم على نفسه، ثم على العامل السوري الاحتلالي، وعلى "النظام" الحزب اللهي والإقليمي أخيراً وليس آخراً على الأرجح.
وملابسات الاقتراع العامة هذه، وهي ملابسات الحياة السياسية اللبنانية واجتماعياتها على اختلاف وجوهها، لا تتيح نشوء أحلاف ترتب المسائل المتفق عليها وتلك المختلف عليها على مراتب، وتقيّدها بحدود. فتؤدي المراتب والحدود إلى تطوير الأحلاف، أو فكها، وعقد أحلاف أخرى، في ضوء الحوادث والظروف والتغيّرات الخارجية والداخلية التي تطرأ على البلد، وعلى جمهور القوى السياسية وأحواله وتطلعاته ومصالحه...
اجتهاد وعطالة
وقلما اضطلع المجلس النيابي اللبناني، في نظام دستوري برلماني، بدور سياسي فاعل في الحوادث العادية والمنعطفات التي كان لها أثر في حياة اللبنانيين السياسية، أو الاجتماعية، في العقود الستة أو السبعة الأخيرة. فوقف في أثناء الحروب المتناسلة والمتطاولة التي راكمت، إلى تحكيم العنف و"الأمن" في العلاقات السياسية، التهجير والفصل والتمييز والاستتباع والالتحام العصبي، موقف المتفرّج العاجز، والمحافظ على "مؤسسة الدولة الوحيدة العاملة" وغير المشلولة. وتُستأنف اليوم الحجّة نفسها، وفي المعرض نفسه: عطالة الرئاستين التنفيذيّتين، وقيام الإمساك عن الاقتتال الأهلي (مع التلويح البذيء به) محل العمل السياسي.
والثمن الذي يسدده المجلس لقاء مداومته على الانعقاد، وليس على العمل، في أثناء الأزمات واحتدام الخلافات، هو شلله وتعليقه انعقاده، وتذرّعه بـ"حق (نوابه) الديموقراطي" في تعطيل النصاب، بعد اشتراط نصاب الثلثين على قانونية الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية، والتمويه على الانسلال من قاعة المجلس قبل الجلسة الثانية التي تجيز النصف مع الواحد.
"وجب أن تذوب الجماعات العصبية في ‘الزعيم الأوحد’، من وجه، وأن تتمتع أصغر ‘جماعة’، ولو اقتصرت على رجل واحد، بتمثيل نيابي يساوي الجماعة التي تعدّ نصف اللبنانيين"
وتسوغ غالبية المجلس هذا "الاجتهاد" بالحرص على الحوار والانفتاح وتوفير مشروعية عريضة للرئيس العتيد. والبرلمان اللبناني استرد حق "تفسير" الدستور من المجلس الدستوري وعدَّ هذا انتصاراً للديموقراطية، وهو "اجتهاد" بنيامين ناتنياهو اليوم، ووزيري حكومته إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. وأدى الحرص هذا، وهو قرين التهديد اليومي بـ"مئة ألف مسلح" (أمين عام "حزب الله") على أتم الجاهزية والتعيير بتقلّص عدد المسيحيين...، إلى السهو والذهول (على قول القضاة) عن معنى الانتخاب أو الاقتراع.
فحين يحاول نواب (وأقلام وألسنة) الحزبين التوأمين الشيعيين شرح دلالة الحوار الذي يدعو الأقنومان (في واحد) إليه يقولون: اقترعنا 11 مرة ولم تخرج قرعة واحدة بأغلبية. ويغفلون عن تعمّدهم بتر جلسات المجلس المتواترة قانوناً، وقصرها على واحدة في حضور الثلثين، والحؤول دون جواز انعقاد الثانية بنصاب عادي وغير موصوف. ويخلصون إلى عقم الاقتراع "بالتجربة". ويتغافلون عن أن الاقتراع يحسم المسائل العصية على الحوار، ويوكل إلى العدد والحساب، وإلى التمثيل، البت في ما لا يبته المنطق الحواري، وهو بقية المصالح وانقسامها.
ويحملون العقم هذا، أو "الوصول إلى طريق مسدود"، على تركيبة المجلس، أي على انقسامه وتجزئته كتلاً متفرّقة وأفراداً مستقلين، يستحيل جمعها (وجمعهم) على غالبية واضحة وأقلية واضحة. وبعض هذه الحال يعود إلى قانون الانتخاب الذي أقرّه على عجل المجلس السابق (2009- 2018)، وأدخل فيه العونيون الصوت التفضيلي بديلاً مخفّفاً من النظام الأرثوذكسي، وماشاهم حزب القوات اللبنانية، والتوأمان الشيعيّان.
الخلاف والاتفاق... فتنة
وبعض آخر من السبب في الفسيفساء البرلمانية، وعصيانها اليوم على الجمع والتوليف، يعود إلى السّنن السياسية التي استنّتها السياسة السورية الأسدية، ونحت فيها على مثال الأصل "البعثي"، ورعت دوامها موازين القوى السياسية (= العسكرية والأمنية والإدارية) المتخلّفة عن الإدارة الاحتلالية و"الأخوية" (1976- 2005) المديدة، قبل اتفاق الطائف وبعده.
فهذه الإدارة قضت بعدم جواز الاختلاف السياسي. وحملت الإختلاف اللبناني، التقليدي والبنيوي، على (حدود) السيادة، ومدى "التضامن العربي" (وهو طباق) ومضمونه، وموجبات مناهضة الإمبريالية وتصفية الاستعمارين القديم والجديد- (حملته) على افتعال الفتنة الواحدة والدهرية، وعلى "دسّ الدسائس لمصلحة العدو (الأميركي الصهيوني) وتهديد الأمن القومي"، على قول المحكمة العسكرية في مطالعاتها البليغة.
"السلطة (أو ‘الأمر’، على قول العربية) إذا لم تُقسَّم، وإذا لم يحدّ بعضُها، أو قسم أو سلطة منها، بعضَها الآخر، أو أبعاضها الأخرى، ولم يقيّده، انقلبت استبداداً وطغياناً، وعبّدت الطريق العريض إلى الحروب الأهلية، واستحكام الشقاق، والثارات المزمنة، والفقر، والبربرية ولو بعد حين..."
وتجريم الخلاف السياسي، وإحالته إلى خرق أمني، وقصر السياسة، رأياً ونشاطاً، على "القضية القومية"، ونصب أجهزة الاستخبارات الكثيرة وليَّ أمرها في نهاية المطاف وأوله- أدى تسلسل هذه الأمور، إلى وقف السياسة على الأنصار والموالي. وهؤلاء كثيرون، وهم جماعات عصبية وأهلية، وعليهم تمثيل جماعاتهم هذه، والاقتصار على تمثيلها.
ومجلس "الشعب" (البرلمان)، على هذا، هو إطار مكاني يجلس فيه ممثلو الجماعات جنباً إلى جنب، تحت عباءة قضية واحدة، وجودية، لا تتجزّأ: جزءاً اقتصادياً، وجزءاً تربوياً، وجزءاً صحياً، وجزءاً نقابياً، وجزءاً يتناول المؤسسات وعلاقة السلطات بعضها ببعض... وهذه القضية يجسدها واحد، هو الأمة والشعب واحد.
وعلى هذا وجب واجباً لا راد له، على قول إجازات الاجتهاد في الإمامية الاثني عشرية، أن تذوب الجماعات العصبية في "الزعيم الأوحد"، من وجه، وأن تتمتع أصغر "جماعة"، ولو اقتصرت على رجل واحد، بتمثيل نيابي يساوي الجماعة التي تعدّ نصف اللبنانيين. فيقر التمثيل البرلماني "اللبناني" (السوري الأسدي) للجماعات الأهلية والعصبية، من غير استثناء، بحقها غير المقيّد في التمثيل في المرتبة والدائرة النيابيّتين، ثم في المرتبة والدائرة الوزاريّتين، وبناء على ذلك، في المرتبة والدائرة الإداريّتين، أي في الوظائف والمرافق والعوائد.
ونظير الإقرار هذا، يترتب على الجماعات والمنظمات ألّا تنسج في ما بينها علاقات أفقية، فتلتف بها، من غير قصد، على وليّ الأمر، والوصي عليها ومرجعيتها العمودية. وإجماع الجماعات والمنظمات على الولاء يرتّب عليها، إذن، الإقامة على فرقتها وخلافاتها ونزاعاتها، الدامية في بعض الأوقات على مثال الحرب الأهلية الشيعية (1985- 1991). فيسود فريق الحكم إجماع محكم على الولاء لصاحب الأمر، والقضية الوجودية وقلبها النابض وسلاحها، في القطب الأعلى، وتفرّق أهلي وعصبي ثابت ومزمن، في القطب الأدنى أو المحلي والبلدي.
حرمة المعارضة
وفي مثل هذه الحال، وهي، أي الحال، صُنعت صناعة طويلة ومتقنة- في ضوء تجارب ترقى إلى الفصل الأخير من عمر سلطنة بني عثمان وإلى الانتدابات وعهود الاستقلال قبل العسكرية-الأمنية ثم العهود العسكرية الأمنية المستقرة، وحروبها الأهلية المزمنة- الفرض الأول والمطلق هو ألا تقوم قائمة لمعارضة وطنية، لا تنكر عليها وطنيتها، على المعنى المعياري والقيمي الذي لا يُخرج هذه المعارضة من "الوطن" والانتساب إليه وإلى شعبه وأمته.
وإذا افتقرت المجالس النيابية، والحياة السياسية الوطنية على العموم، إلى المعارضة، أي إلى فريقين سياسيّين، فريق يحكم ويُسأل عن ولايته الأحكام، وفريق سياسي يعارض ويراقب ويعدّ العدّة لخلافة الفريق الحاكم على الحكم- خسرت المجالس والحياة السياسية شطراً جوهرياً من دورها ووظائفها، ومن سياسيتها على الأخص. وتحولت إدارةً خصوصية لا قيد عليها من عمومية قانونية ومعيارية.
فالسلطة (أو "الأمر"، على قول العربية) إذا لم تُقسَّم، وإذا لم يحدّ بعضُها، أو قسم أو سلطة منها، بعضَها الآخر، أو أبعاضها الأخرى، ولم يقيّده- وهذا معنى فصل السلطات الثلاث وتعاونها، ومعنى الحريات المدنية والسياسية- انقلبت استبداداً وطغياناً، وعبّدت الطريق العريض إلى الحروب الأهلية، واستحكام الشقاق، والثارات المزمنة، والفقر، والبربرية ولو بعد حين...
وقياس أحوال "الحياة" السياسية اللبنانية اليوم، والمجلس النيابي جزء منها، على مآلات سلطان الواحد وصورها السورية والعراقية والليبية واليمنية، على سبيل المثال لا الحصر، يحمل (القياس) على استبعاد المقارنة، (ويفترض إغفال أعوام 1975- 1990 ودمارها على أضعف تقدير). وتدل أحوال الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية الماثلة على أن سبل الاستبداد أو سلَّمه (سلالمه) إلى تصديع المجتمعات ليست واحدة، وقد لا يشبه بعضها بعضاً شبهاً ظاهراً.
والتفريغ من السياسة، السياسة على معنى الاحتكام في الخلافات والولايات إلى المداولة من غير إكراه، وليس شغور المناصب وهيئات الدولة وحسب، هو من مناهج التصديع وطرائقه ووسائله. وتبدو "الحياة" السياسية اللبنانية، على خلاف الوصف المتقدّم، متحرّرة من الواحد وولايته ومرجعيته الصارمة والعمياء، بل هي تشكو الكثرة والتعدد (ية) اللتين طالما مقتهما، ويمقتهما، أنصار "الأبد" في بعض بلادنا وأوطاننا.
والحق أن الواحد يتراءى "خلل" الرماد (اللبناني)، على قول نصر بن سيّار في مرثيّته دولة بني أمية واستشرافه دولة بني العباس، أبناء عمومتهم. وشغور المجلس النيابي العميق والفاغر دليل على ظل الواحد وتخييمه الثقيل على "الحياة" اللبنانية وعروقها الجافة.
وتعليق العلاجات والإجراءات كلها، بعد تخطيط دقيق لشل هيئات ومصادر الإجراء، في انتظار رئيس "لا يطعن المقاومة في الظهر" (بعد القول بـ"فم يملأه التبجّح" أن "المقاومة" ليست في حاجة إلى حماية أحد وهي الحامي)، بينما التصدّع يصيب المرافق واحداً بعد الآخر- إنما يصدر (التعليق) عن "نظام" استحوذ، من طرق شتى بعضها مشروع وبعض آخر غير مشروع، على "الوجود" الوطني، وقواعد عمله وأبنيته وموارده.
فاستبعدت سيرورة التعليق المعارضة الوطنية المشروعة. وأبطلت العمومية السياسية الجامعة والمشتركة (وهي الضعيفة من قبل). وسلّطت الجزء الخاص على "الكل" المفتت والمتعاظم التفتيت. وأحلت الجزء ومصالحه الوظيفية و"المعيشية" الخاصة محل مصالح مشتركة ومركبة، وإجماعات يفترض في حياة المجتمع/ الدولة/ الشعب السياسية أن يكون مدارها على بناء المصالح والإجماعات هذه. ورهنت الأحلاف والخلافات والمساومات الوسيطة بذبذبات السياسات الخارجية وتعرّجاتها. فتشرذمت الأبنية السياسية والاجتماعية، واستحال القدر من التماسك والتواصل الداخليّين اللذين استقام تسيير دولة ومجتمع لبنانيين، "ظالمين" ومتفاوتين، بهما ومعهما. وهو ما يعجز أصحاب "زمن الانتصارات" و"المعجزات" عنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...