شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
17 تشرين الأول/أكتوبر اللبناني... بين الاحتفال والخلاف

17 تشرين الأول/أكتوبر اللبناني... بين الاحتفال والخلاف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 2 ديسمبر 202212:25 م

بعد ثلاث سنوات على بدء حراك اجتماعي وسياسي لبناني، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، نشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاباً فيما سمّاه "انتفاضة 17 تشرين في لبنان/ ساحات وشهادات"، قطرـ بيروت، 2022، من إعداد خالد زيادة ومحمد أبي سمرا وفي إشرافهما. وإلى المعدّين المشرفين، شارك في العمل، كُل من: بول طبر وجميل كرم وزياد الصائغ وعبيدة تكريتي وغيث حمود وفوزي يمّين ووليد حسين.

ولم يوقّع الأقسام والفصول واحد من المشاركين أو فريق منهم. فنُسب العمل وصفحاته الخمسمئة من القطع الكبير، جملةً، إلى الأسماء التسعة، ولم تعرّف المقدّمة، ولا عرّفت الخاتمة، تقسيم العمل ولا نهجه أو معاييره. ويخالف الإغفال علانية الأبحاث والنشر، والمسؤولية المعنوية والقانونية المترتبة عليها، ما لم يجهر المشاركون جماعية الإعداد والمداولة، والاضطلاع معاً بالتبعة المزدوجة عن كتابهم. وهذا، الجهر، لم يفعله أصحاب العمل.

ومعظم العمل وصفي و"أخباري". ويتناول قسمان راجحان أو مركزيّان باب "ساحات" (بيروت، ساحل المتن وكسروان، طرابلس، حلبا... إلى بلدان الاغتراب)، في مئتي صفحة، وباب "شهادات" (متمرّدة في الثورة المصرية والانتفاضة اللبنانية، شاب من الضاحية الجنوبية، ناشطة طرابلسية، ناشطون من زغرتا...)، في مئة صفحة. ويتولّى قسمان آخران- "مداخل" تأريخية، في مئة صفحة، و"خلاصات" (البنية الرمزية للانتفاضة، مقاربة الإخفاقات...)، في نحو ثلاثين صفحة، "تحليل" الوقائع والمادة المنقولة، إذا جازت معارضة النقل بالعقل، على ما صنع تراث كلاميّ عريض.

الاسم والخلاف

و"17تشرين"، على ما يسمّي اللبنانيون "الحادثة" إلى اليوم، موضوع خلافات كثيرة بينهم، كانوا من أنصارها أم من مخالفيها، أم من غير المبالين بها. ويتطاول الخلاف إلى الإسم أو هو يبدأ به. فبعضهم يقتصر على أعم الأسماء وأكثرها حياداً، وهو الحركة. وذلك على نحو ما سمّيت الحركة العمّالية، دلالة على إضرابات متصلة. أو الحركة الطلابية، دلالة على تظاهرات طلاب تعاقبت في وقت ما، وتناولت مسألة مترابطة الأجزاء.

قد يرجع إسم الحراك إلى نظيره العراقي، "التشريني" المعاصر، على رغم سكوت وقائع الحراك اللبناني عن نظائرها العربية المعاصرة

ويتعدى آخرون الحركة إلى الحراك، دلالة على الدوام زمناً، وعلى السعة والعرض، مضموناً وجمهوراً. وربما تيمناً بالإسم الذي اختاره الجزائريون عمداً لتظاهراتهم الحاشدة والأسبوعية طوال أحد عشر شهراً. وهي سبقت تظاهرات اللبنانيين بنصف السنة تقريباً. وقد يرجع إسم الحراك إلى نظيره العراقي، "التشريني" المعاصر، على رغم سكوت وقائع الحراك اللبناني وجمهوره أو "جماهيره" (والعمل الذي تتناوله هذه العجالة) عن نظائرها العربية المعاصرة والقريبة.

وفئة أو كتلة من المتظاهرين والمعتصمين نَحَّت الإسمين الشائعين، وقدّمت عليهما إسماً ثالثاً، مجللاً بهالة سوابق مجيدة وآمال واعدة، هو الثورة. ففي تظاهرة "أحد الوضوح"، في 2 كانون الأول/ديسمبر 2019، إذا صدقت رواية "ساحة" بيروت (ص149) على رغم الخلل النغمي، ردّدت المسيرات الثلاث يومها الهتاف التالي: "ثاء ثاء ثاء ثورة/ ثورتنا ثورة مش حراك". ودرج كتّاب كثر من الناشطين والمؤيّدين، مذذاك، على التسمية الحصرية هذه، وعلى طلب الإقرار بها وتداولها دون غيرها.

ويتعدى أصحاب "الثورة" الخلاف على الإسم إلى خلاف عميق على ماهيّة أو طبيعة الحادثة أو الواقعة، المديدة والعريضة والكثيرة. فهم ينسبون إليها دوراً حاسماً لا يقل عن "طي صفحة الحرب الأهلية"، المزمنة منذ ربيع 1975، على ما كتب غير واحد من الكتّاب "الثوريين".

ولم يَهَب بعضٌ آخر، يومها وبعدها، القول إن الثورة أخرجت الدولة والمجتمع اللبنانيين من عهد الولاءات الطائفية والمذهبية إلى عهد "المواطنة العلمانية والديموقراطية والمساواة الجندرية والاجتماعية"، على ما قال الشاهد الأول في باب "شهادات" من الكتاب (ص347)، مازجاً التقرير والوصف بالأماني والتطلّعات.

سلمية... حربية

والحق أن خلافات جوهرية على أمور كثيرة، إن لم يكن على الأمور كلها، فرّقت بين الحراكيين وبين غير الحراكيين، المحايدين والمناوئين، وفرّقت الناشطين والأنصار، المداومين والظرفيين، بعضهم من بعض. وتناولت الخلافات وصف الحادثة، وتعريف جمهورها وغاياته التي يسعى فيها، وترتيب الغايات أو الأولويات هذه، الآنية والمرحلية الظرفية والبعيدة: إسقاط الحكومة، إصلاح النظام، حكومة انتقالية، إسقاط النظام كله، انتخابات مبكرة، لا انتخابات، حصار المجلس النيابي أولاً أم السراي الحكومية أم القصر الجمهوري أم المصرف المركزي، إقتحام المرافق العامة الحيوية، حصار بيوت الوزراء والنواب، الطعن على قوى الحكم كلها أم استثناء بعضها، إحصاء هذه القوى...

وتناولت الخلافات "الأساليب" أو الوسائل: العمل المنظّم الذي ينحو نحو البنية الحزبية أم "العفوي"، تقسيم الأنشطة أم ترك القيام بها إلى "المجموعات" الموضعية، التنسيق بين الجماعات أم قصره على الدعوات الميدانية، صوغ برنامج جامع أم إضافة البند أو المطلب إلى البنود أو المطاليب الأخرى...

وفي تظاهرة مشهودة، ليلة 14 كانون الثاني/يناير 2020، وكان مضى على بداية الحراك نحو شهرين، التقى حوالي عشرة آلاف متظاهر بموضع بين المجلس النيابي ومبنى البلدية، وانضم إليهم متظاهرون شماليون وطرابلسيون قدموا في الحافلات. ودار صدام عنيف بين الفريقين، حاول في أثنائه متظاهرون "مسلحون" بالمفرقعات والعصي الطويلة والمعاول و "الدروع"، تسلّق جدار دشم رفعه حرس (رئيس) المجلس، وردّ عليهم الحرس، أو ابتدأهم حال تجمّعهم، بالقنابل المسيلة الدمع والرصاص المطاط والمفرقعات. وطارد المتظاهرين إلى أحياء أو ملاجئ قريبة، الجمّيزة والصيفي شرقاً وجسر الرينغ جنوباً. وجرح العشرات وأُوقف آخرون، وفُقئت أعين. وفي الأثناء تعالت هتافات تصنّف الحادثة وهي تحصل: فذهب بعضها إلى الهتاف: "سلمية! سلمية!"، وهتف بعض آخر: "مش سلمية! مش سلمية!".

اقتصار تحطيم الصرافات الآلية على بعض غرب بيروت، وعلى جناح من أجنحة الحراك في هذه الجهة من المدينة، قرينة على تضارب المصالح والغايات والدواعي التي تقود بعض جماعات الحراك

ومن آيات الخلاف الحادة والظاهرة مسلك المتظاهرين في "ثلاثاء الغضب"، في 14 كانون الثاني/ يناير 2020. وسمّي اليوم بهذا الاسم تنديداً بترشيح حسان دياب، أحد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت، إلى رئاسة الحكومة، في 19 كانون الأول/ديسمبر 2019، وتشكيله الوزارة بعد أيام. وعمّت التظاهرات جونية والجديدة وفرن الشباك والمتن وجبيل، وكلها في "شرق" بيروت المسيحي والجبلي، إلى عمومها طرابلس وعكار، وأحياء بيروت.

وشهد هذا اليوم إقدام متظاهرين في الحمراء وكورنيش المزرعة خصوصاً، على تحطيم أجهزة الصرف الآلي على أبواب فروع المصارف (ص161- 162). وصاحب التحطيم هتاف "شيعة، شيعة، شيعة"، شعار محازبي "أمل"، حزب رئيس المجلس النيابي منذ ثلاثين عاماً و "حزب الله". وتردّد هتاف "تسلم إيدك علي شعيب" (تحية لشاب اقتحم فرع مصرف أميركي ببيروت، في خريف 1973، واحتجز بعض زبائنه واشترط تحويل بعض أموال المصرف إلى "المنظمة" الفلسطينية المسلحة، وقُتل في أثناء الاحتجاز).

وردّدت الهتاف هذا "فرقة" شيوعيين، على معنى عسكري، اختطّت لنفسها نهجاً قتالياً وسياسياً مستقلاً. واقتصار التحطيم على بعض غرب بيروت، وعلى جناح من أجنحة الحراك في هذه الجهة من المدينة، قرينة على تضارب المصالح والغايات والدواعي التي تقود بعض جماعات الحراك، وعلى افتقار الحراك كله إلى وسائل جمع ودمج وتحكيم تمكّنه من حماية مسيره وبناء خطه.

الكثرة

والخلافات الكثيرة التي حفت حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر اللبناني، وتخلّلت مراحله وانعطافاته ونزعه الطويل، إلى غداة انفجار المرفأ في 4 آب/ أغسطس 2020، هي خلافات ترافق إلى اليوم "وقفات" أهالي ضحايا الانفجار، ورابطة المودعين (الذين قلّصت الأزمة المصرفية والمالية قيمة ودائعهم)، وأهالي موقوفي الطيونة (اشتباك متظاهري "أمل" و "حزب الله" مع أهالي طرف عين الرمانة الذي أسفر عن سبعة قتلى من "المتظاهرين")، وجماعات طرفية أخرى، ترتبت على صدور الحراكيين وحركاتهم عن جماعات وظروف ومشكلات متباينة.

اجتمع حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر من روافد يصعب حصرها وإحصاء مصادرها ونُذرها

وتقرير هذه البديهية الأولية، وهذا التعليل اللفظي، ينبّه إلى صدور الحركات الاجتماعية والسياسية العريضة عن فروق كبيرة في أحوال الجماعات، وعن كثرة شكاواها، وتفاوت محال الشكاوى ومواضعها من السياق السياسي والاجتماعي العام أو المشترك (إذا تحقق الأمران: العمومية والاشتراك، وأُدركا).

واجتمع حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر من روافد يصعب حصرها وإحصاء مصادرها ونُذرها. ونقطة الماء التي فاضت بها الكأس الملأى أو المترعة، أي زيادة ستة دولارات على تطبيق "الواتساب" المجاني في فاتورة اتصالات الهاتف الخلوي الشهرية، وأشعلت التظاهر مساء يوم الخميس العتيد، طفت على سطح خزين من النقاط الذائب بعضها في بعض.

ولو اقتصر أمر الحراك على بدايته أو بداياته، وعلى الوقائع التي مهّدت الطريق إلى واقعته أو حادثته الزمنية والمتعاقبة فصولاً، لما أشكل فهمه، ولما تعرّج مساره على النحو الذي تقدّم (بعض) وصفه وتضافرت عليه الخلافات العصية على التحكيم، وخنقته قبل أن يشقّ ثلماً خصباً. فالحراك، إذا تناوله النظر من زاوية اشتعاله أو شرارته، تأخر كثيراً، وتذرّع بتفصيل ثانوي يتضاءل بإزاء شلالات (نياغرا) الإقطاعات السياسية والعسكرية والإدارية، والبلقنة والانحياز الأمنيين والقضائيين، والديون والهدر والفساد والريوع.

الصناعة

والجماعات التي دخلت الحراك، وصنعه دخولها على نحو ما صنع إقبالها وإحجامُها، وتقطّعُ مشاركتها وتعدد مواقفها وأنسابها وأهوائها فصولَ الحراك، ومدّه وجزره و "هبّاته" (ص 141 و142) ومسالمته وقتاليّته، وبرامجَه الوقتية وغدياته المعلنة والمتقلبة، اختبرت في وقت مبكر قضايا طرحتها عليها موازين قوى وعلاقات، وعملُ مؤسسات وهيئات وأجسام، استقرت طوال العقود السابقة القريبة (منذ اتفاق الطائف في 1989 واغتيال رفيق الحريري في 2005)، والأبعد (منذ بداية العقد الثامن).

فالضريبة المتعسّفة والمستفزّة التي فرضتها الحكومة ما كان لها، في دوامة التردّي المستمر للخدمات العامة وانكماش الموارد وتعاظم التعويل على الدين، أن تؤدي الدور التعبوي الذي أوكل إليها يومذاك، وربما اضطلعت به. ولم تلبث الذريعة الظاهرة أن نُسيت وطُويت تحت الشعارات الموقعة، العمومية والواسعة التي سرت في اليوم التالي، 18 تشرين الأول/أكتوبر، وردّدتها جموع عريضة تدفّقت على الساحات في العاصمة وضواحيها ومعظم مدن المحافظات. فهذه الشعارات تناولت هيكل الحكم، وشخّصت صفته العامة بـ "حكم الأزعر".

وأوضحت شعارات مرافقة المقصود بـ "الأزعر": فهو النواب الـ "تمانية وعشرين ومئة" (عددهم)، وكلهم "قرطة حراميي" أو عصابة لصوص وسارقين. وليسوا وحدهم من يسألون عن الانهيار المصرفي والمالي الذي أعلنته المصارف من غير مواربة، في اليوم نفسه، حين جمّدت المعاملات طوال 15 يوماً قادمة كاملة تستّرت في أثنائها على خبايا لا غور لها ولا قاع. ودعا هتاف "شعبه" إلى "الدعس" (السحق بالقدم والحذاء) "عَ الحكومي وعَ المجلس".

لم تلبث ذريعة الضريبة التي فرضتها الحكومة، أن نُسيت وطُويت تحت الشعارات الموقعة، العمومية والواسعة، تناولت هيكل الحكم، وشخّصت صفته العامة بـ "حكم الأزعر"، لوكن من هو "الأزعر" في نظر الجموع على اختلافهم؟

فكلهم رئيس الجمهورية والوزراء والنواب والقادة السياسيون والحزبيون، تصدُق فيهم تهمة السرقة والفساد، كانوا من فريق "أربطعش" (14 آذار/ مارس 2005، الاستقلالي عن الاحتلال السوري) أم من فريق "تماني" (8 آذار/ مارس، تحت لواء "حزب الله" و "شكر" سوريا". فهم "عملوا البلد دكاني"، على قول تتمة الهتاف. وخلص الهتاف إلى: "كلن يعني كلن/ ونصر الله واحد منن". وإلى حسن نصر الله، سعد الحريري ووليد جنبلاط جبران باسيل وميشال عون، من غير إغفال سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية المستقيل من الحكومة في 19/10/2019، أو سامي الجميل، رئيس حزب الكتائب اللبنانية وشريك الحراك.

جموع

من 18 تشرين الأول/أكتوبر إلى الـ20 منه، أيام الجمعة والسبت والأحد، فاضت ساحتا بيروت، الشهداء (البرج) ورياض الصلح، وساحات مدن المحافظات، بالجموع القادمة من الأحياء والضواحي القريبة. وبعض هذه استقل بجموعه، وباشر من تلقائه مراقبة السير أو قطعه، تفادياً لـ "هرب" أو سفر أصحاب الأموال بأموالهم إلى الخارج، على ما جزمت إشاعات نبتت كالفطر بعد الشتوة الأولى. وتوسلت الدعوات إلى التظاهر بوسائط التواصل الاجتماعية والتهاتف، وبالشاشات الصغيرة التي تسابقت على النقل المباشر والمتصل ساعات طويلة، ووصلت الليل، إلى هزيع متأخر، بالنهار الباكر.

والمقارنة بيوم "14 آذار"/ مارس، على وجه العدد، جائزة. ولكنها لا تصح من وجه الظرف، ولا من باب الدلالة. فيوم "14 آذار" نضج بطيئاً طوال شهر كامل. وفي أثناء هذا الشهر، وما تخلّله من دعوات وأحكام ومواقف وتكتل وانحياز، تبلور معنى الرد على اغتيال 14 شباط/ فبراير، ورسو المعنى المتنازع هذا على طلب استقلالٍ "ثانٍ" عن احتلال "شقيق"، وتلخص في جلاء القوات السورية عن الأراضي اللبنانية.

وأتاح خلوّ الاستقلال المنشود آنذاك من المطالبة بتصفية مخلّفات الاحتلال التي تعدّت السيطرة العسكرية الإقليمية إلى تعريف السيادة والهوية والجغرافيا الوطنية وعمل مؤسساتها، تماسك أكثرية نسبية، وغير متجانسة، على بند الاستقلال. وجنّب الخلو هذا اللبنانيين نشوب نزاع أهلي داهم، ذريعته الجاهزة والمزمنة هي "سلاح المقاومة".

يوم "14 آذار" نضج بطيئاً طوال شهر كامل، وما تخلّله من دعوات وأحكام ومواقف وتكتل وانحياز، تبلور معنى الرد على اغتيال 14 شباط/ فبراير

وأبقى وجها "14 آذار" هذان -الرضا بجلاء سوري عسكري وعارٍ من ملحقاته ومخلّفاته الساحقة، والإمساك عن شن حرب أهلية مدمّرة مع الاحتفاظ بآلات هذه الحرب وحصونها وذريعتها- أبقى الوجهان على "سلم" مسلّح وعميق الالتباس. ووسع "اليوم" العتيد وجموعه "المليونية"، على قول مستعار من أجهزة إيران الخمينية، الاحتشاد، إلى أعوام قادمة، من غير أن تتطرّق خلافات فاصلة إلى إقامة الشعيرة السنوية، أو إلى الأحلاف الانتخابية الدورية أو المؤجلة.

وهذا، أو بعضه القليل، لم يتح لـ "17 تشرين"، الحراك كله وليس "اليوم". فلم يختصره مطلب أو برنامج بدهي (الجلاء)، وإن على حساب تجويف مديد الأثر، ولم يتولَّ القيام (أو القوامية السياسية والتنظيمية) عليه طرف عينته الحادثة (الاغتيال نظير الضريبة) وصيّاً أو شبيهاً بالوصيّ، ويملك عدة الوصاية، أو طاقمها ووسطاءها وعلاقاتها ونفقاتها.

وجهان

فتقاطرت الجموع عند اندلاع الشّرر- في أعقاب سلسلة طويلة من الحوادث "المتفرقة" القريبة مثل حريق المشرف في الشوف طوال يومين، وسقوط قتلى في شجارات أهلية وفردية متواترة، وتوالي السرقات في هجمات مسلحة على محال تجارية، وتعاظم التهريب من الحدود السورية، وتكاثر إجراءات الصرف من العمل...- من غير أن تحظى الجموع هذه بمعنى أو بحادثة ترعى التئامها أو التقاءها عند بؤرة بسيطة و "تهجم على الفهم" (عبدالقادر الجرجاني).

وافتقر الجمع إلى "الجهاز"، على معنى الشبكة القديرة على حضانة الجمهور العريض والصادر عن بواعث ودواعٍ وبيئات تعصى التبويب والترتيب. وأوهم تدفق الكلام والشكايات على شاشات التلفزيون المجنّدة، والتعليقات على الوسائط الاجتماعية المبعثرة، الناس بمعرفة الأمراض أو الأدواء وأدويتها. ووصل الناشطون، جنود المجموعات، الأمراض الكثيرة والمتراكمة بحلول سياسية مباشرة لا تقل عرضاً ووزناً عن إسقاط النظام، وصرف طاقمه السياسي، وتقويض أركان جماعاته الأهلية، وحل مؤسساته وهيئاته.

ولا تنفي الملاحظة الحادة هذه صدق الحراك والحراكيين، ولا صدورهم عن اختبار حقيقي وأليم لمترتبات دوران الدولة والمجتمع اللبنانيين في حلقات خانقة وعقيمة. ولا تنكر ما تفتق عنه من ابتكارات في العبارة والمبادرة. ولا تزعم الملاحظة وصف الداء أو الدواء، لا من بعيد ولا من قريب، فمدارها على الفهم أو محاولته.

ولكن صلب الأمر هو الجدار الذي اعترض "14 آذار"، وحال من قبل دون إنهاء الحروب الأهلية والملبننة التي ملأت أعوام 1975- 1989، وأملى توقيع اتفاق القاهرة (بين الجيش اللبناني والفصائل المسلحة الفلسطينية في 10/ 1969)، وأشعل صيف 1958 (الحرب الأهلية "المختصرة" بين أنصار الوحدة المصرية- السورية "المسلمين" وبين أنصار حلف بغداد وكميل شمعون "المسيحيين").

حكم الوكالة

فـ"حزب الله"، وجهازه وشبكته العنكبوتية، ينتسب إلى هذه السلسلة من المراحل والمحطات والأدوار التي علقت الدولة اللبنانية، أبنية السلطة وأبنية المجتمع معاً في إطار مشترك، على خشبة هوية "قومية" صافية. وهذه الهوية هي اليوم، أي منذ 1968- 1969 على أقرب تقدير وأوضحه، "السلاح". ولا يغير تعاقب أصحابه، من فلسطينيين (- لبنانيين) إلى سوريين (- لبنانيين) إلى "شيعة، شيعة، شيعة" (- لبنانيين)، عليه لا في قدسيته، ولا في قوته على التعريف بالهوية وانفراده بهذا التعريف.

المتظاهرون على دولة الضريبة المجحفة هم متظاهرون "مسلحون" على "دولة المقاومة" حال نسبتهم الوزير إلى الحكومة، والحكومة إلى شركاء تأليفها وحلفاء التأليف: رئيس الجمهورية الذي "صنعته" بندقية المقاومة

وتفضي صيغة التعريف على هذا النحو، في لبنان وإيران والعراق وسوريا واليمن وفلسطين والأردن والسعودية ومصر والجزائر...، إلى حروب أهلية، مستترة أو دابة أو ظاهرة أو مرجأة، لا محالة. وعندما يكر "الشيعة" أصحاب الشعار، على "أعدائهم"، ويضربونهم، أو يقتلون نحو 580 منهم في ساحات المدن العراقية التشرينية، و"يختصرون" الجماعات السورية (على قول خالف أبيه) من طريق السلاح الذي يحارب إسرائيل وأميركا- عندما يكرون باسم هوية السلاح وأصحابه، يحكمون بالإعدام على الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية، وهي تلك التي تحتكم إلى عقد حالي ومتجدّد بين أسوياء وشركاء.

فالحكم بالوكالة عن هوية حربية، قومية وقومية-مذهبية وسلكية (علمانية، حرسية...) يضيع الفرق بين الدولة وبين المجتمع، وبين الدولة وبين الشعب أو الأمة. وعلى هذا فالمتظاهرون على دولة الضريبة المجحفة هم متظاهرون "مسلحون" على "دولة المقاومة" حال نسبتهم الوزير إلى الحكومة، والحكومة إلى شركاء تأليفها وحلفاء التأليف: رئيس الجمهورية الذي "صنعته" بندقية المقاومة، على تصريح نائب "حزب الله" عن قضاء صور في المجلس السابق، في المصاف الأول.

وإذا اقتصر المتظاهرون على الوزير، وهو من أخصاء رئيس الحكومة، أصاب تظاهرهم الرئيس الثالث، لسان "دم السنّة (الذي) يغلي غلي"، على زعم أحد الهتافات. فدمج المجتمع، وهو جماعات، في الدولة وسلطتها الواحدة والمركّبة، يضيّع معالم الخصم الوطني، ويلغي التناقض السياسي والاجتماعي ومعه التعدد السياسي. ما يصح في "قداسة" حسن نصر الله يصبح في "عطوفة" نبيه بري، ووزرائه ونوابه "المعصومين"، وفي "زعامة" وليد جنبلاط و "مقاومته" و "عروبته".

والإمساك الذي أشارت إليه ملاحظة سابقة على "14 آذار" ووجهيه، فَقَد مسوّغه مع الالتحام الذي ربط "الشيعة" بعضهم ببعض مذذاك، والاستتباع الذي رتّب الجماعات مراتب ثابتة، وألحق بعضها ببعض، وأرسى اختلافاتها على العداء والحرب، تحت أفق "عروبي" واطئ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image