طفلة رقيقة، تجري وتقفز وترقص بجوار أنور وجدي، وكأن الزمن توقف معها وزمانها الذي أصبح بعيداً عنا الآن، وكأنها لم تكبر أبداً. هكذا تظل الأرمينية بيروز أرتين كالفايان، الشهيرة بـ"فيروز" في الذاكرة الجمعية العربية.
بضحكتها أضحت فتاة أرمينيا، أشهر طفلة ظهرت على شاشة السينما العربية بأغنيتها الشهيرة، وهي تهتف راقصة "معانا ريال... معانا ريال... ده مبلغ عال ومش بطال".
نحاول استعادة ملامح حياة فيروز ومجتمعها وتحدياتها الحياتية احتفالاً بالذكرى الـ80 لميلادها.
من الجالية الأرمينية
لعب القادمون من أرمينيا إلى مصر، هروباً من المذبحة في النصف الأول من القرن الماضي، دوراً كبيراً وفاعلاً في التاريخ الفني العربي، وأثْرت تلك الموجات مصر الكوزموبوليتانية، وكانت الطفلة "فيروز" إحدى تلك الموجات.
فيروز ابنة عائلة فنية حققت شهرة واسعة في مصر، نجحت منهم/ن ثلاث فتيات أرمينيات، ففيروز هي الأخت الكبرى للفنانة نيللي، وابنة عمة النجمة لبلبة.
ورغم أصلها الأرميني فإن فيروز لم تعرف غير مصر وطناً، فقد ولدت في القاهرة في 15 آذار/مارس 1943 أثناء الحرب العالمية الثانية.
إلياس مؤدب مكتشف فيروز
بالصدفة البحتة دخلت فيروز الطفلة إلى عالم الفن على يد الفنان السوري إلياس مؤدب صديق لوالد الفنانة فيروز، وفي إحدى زياراته إلى منزلها في القاهرة، جلس مع والدها وبدأ في العزف على الكمان لتنطلق فيروز في الرقص وسط دهشة الفنان السوري.
قرر الممثل السوري خفيف الدم تطوير موهبة فيروز، وألَّف ولحّن مونولوغاً خاصاً لتغنيه وحدها، لتتجلى وهي في بداية مشوارها الفني.
إلياس مؤدب، مكتشف فيروز، ولد في شباط/فبراير 1916 في مدينة طنطا بدلتا مصر، وتوفي بالقاهرة في أيار/مايو 1952، اسمه "إيليا مهدب ساسون"، ممثل كوميدي مصري، وتعود أصول والده لمدينة حلب في شمال سوريا، بينما تنتمي والدته لمدينة طنطا، وقد كان يهودي الديانة. درس إلياس في مدرسة الليسيه الشهيرة في القاهرة، وكان يسكن في حارة اليهود بحي الضاهر.
إلياس مؤدب مكتشف فيروز ممثل كوميدي، أصوله من حلب السورية... من حياة فيروز صاحبة أغنية "معانا ريال"
مسيرته العملية بدأت بتصليح الساعات، قبل أن ينتقل لحياة الفن، ويعمل كمونولوجست في الأفراح، حتى تعرف على أسطورة الكوميديا إسماعيل ياسين، الذي قام بتقديمه للراقصة ببا عز الدين ليعمل معها في كازينو البسفور، بعدها انطلق في عالم السينما وشارك مع إسماعيل ياسين في 12 فيلماً.
البداية
قرر إلياس مؤدب الدفع بفيروز للجمهور بعد أن قدم لها أول مونولوغ خاص، وفي أول ظهور لها لفتت الأنظار إليها بشدة، وحققت نجاحاً كبيراً، ليبدأ المنتجين السينمائيين في الانتباه إليها وإلى موهبتها الفطرية.
شاهد الفنان أنور وجدي، الطفلة فيروز في عروضها الأولى، ووقع عقد احتكار مع والدها، ودخلت عالم السينما المصرية من بابه الواسع، وكان عقدها بمبلغ كبير جداً في ذلك الوقت، حيث نص على حصولها ألف جنيه عن كل فيلم.
ياسمين 1950
كانت البداية مبكرة جداً لفيروز، وبقدر سرعة الدخول المفاجئ للمشهد الفني، كان انسحابها سريعاً أيضاً، قدمت أول أعمالها السينمائية ولم تكن قد بلغت السابعة من عمرها، وهو فيلم «ياسمين» عام 1950، ولم تستمر مسيرتها الفنية إلا 9 سنوات فقط حتى عام 1959 ولكنها حصدت في تلك السنين شهرة طاغية سواء محلياً أو عربياً.
قدمت فيروز في تلك السنوات التسع، 10 أفلام سينمائية هي "ياسمين، صورة الزفاف، دهب، الحرمان، عصافير الجنة، إسماعيل يس للبيع، إسماعيل يس طرزان، أيامي السعيدة، بأفكرفي اللي ناسيني".
مسيرة السنوات التسع لفيروز جاءت على مرحلتين، الخطوات الأولى كانت مع أنور وجدي واستمرت معه فنياً لمدة 3 سنوات حتى عام 1953، عندما قرر والد فيروز انفصال الفتاة الصغيرة بمشروعها الفني، وقرر إنهاء عقدها الاحتكار مع وجدي، وأن يقوم هو بإنتاج أفلامها.
قام والد فيروز بإنتاج فيلم "الحرمان" ولم تشارك فيه فيروز وحدها، بل شهد ظهور شقيقتها الفنانة الاستعراضية نيللي، وشقيقتها الثالثة ميرفت.
توقفت فيروز بعد هذا الفيلم عن العمل الفني لمدة 3 سنوات، ثم قدمت 4 أفلام أخرى لم تحقق النجاحات المتوقعة، منها فيلم "إسماعيل ياسين للبيع".
"أنا من عملت نفسي"
ربما كان تواري فيروز السريع والمفاجئ عن المشهد العام، هو ما جعل سيرتها مبعثرة وغير واضحة بالشكل الذي يليق بنجوميتها، والتي ربما كانت قصيرة، لكنها شديدة الرسوخ وامتدت لأجيال متعاقبة.
وعندما مرت ذكرى رحيلها منذ شهرين تجاهلتها الصحافة العربية، ولم تتعامل معها بالشكل المناسب، بسبب غياب المواد الباقية من أثرها، ومن أندر ما يكشف صندوق "فيروز الأسود" هو حوارها مع مجلة "آخر ساعة" التابعة لمؤسسة أخبار اليوم في 3 إبريل/نيسان 1957 وكانت لا تزال في الـ14 من عمرها.
أنكرت فيروز دور أنور وجدي في صعودها كما تردد، وقالت: "أنا من علمت نفسي التمثيل، وأما بدايتي مع أنور وجدي فقد عملت في الحلمية بالاس، والكيت كات، وعلى مسارح أخرى قبل أن ألتقي بأنور وجدي، ولكن ما فعله هو أنه أعطاني أول فرصة للظهور على الشاشة".
ووصفت فيروز الحب بأنه المرض الذي يصاب به المجنون، وقالت إن الأصوات التي تحبها هي أم كلثوم وفيروز.
بعد عامين من هذا الحوار اعتزلت فيروز في عام 1959، لتصبح الوجه الوحيد الذي يترك الفن وأضواءه بين الثالوث العائلي، شقيقتها نيللي التي ستصبح أشهر فنانات الاستعراض، ونجمة السينما لبلبة ابنة خالتها.
زوج مسلم وزوجة مسيحية
خلال فترة عملها في فرقة إسماعيل ياسين، كانت محطة لقائها بالفنان المصري بدر الدين جمجوم، الذي أحبها وتزوجا بعد فترة قصيرة من اعتزالها، ولهما من الأبناء أيمن وإيمان.
وعاشت فيروز حياة مستقرة مع زوجها لما يزيد عن ثلاثين عاماً، حتى توفي جمجوم عام 1992، وكان آخر ظهور لها في المشهد الفني يوم تكريمها في مهرجان القاهرة السينمائي، قبل رحيلها بـ15 عاماً، في عام 2001.
أصر أبناؤها على إقامة صلاة جنازة لها في مسجد الحامدية الشاذلية بحي المهندسين بالعاصمة المصرية، وقد أثار هذا الأمر جدلاً واسعاً، بسبب أنها مسيحية
ومن أبرز المفارقات الباقية من أثر فيروز هو أنها كانت مسيحية الديانة، بينما كان زوجها مسلماً، واحتفظ كل منهما بديانته طوال 3 عقود عاشاها سوياً.
وعندما رحلت فيروز صباح السبت 30 كانون الثاني/ 2016، أصر أبناؤها على إقامة صلاة جنازة لها في مسجد الحامدية الشاذلية بحي المهندسين بالقاهرة، رغم أن فيروز مسيحية الديانة، وقد أثار هذا الأمر جدلاً واسعاً، بسبب أنها أول مسيحية تقام عليها صلاة الجنازة في المسجد مثل المسلمين، ولكن تم إجازة ذلك قبل أداء صلاة الجنازة على جثمانها بكنيسة الأرمن الأرثوذكس في ضاحية مصر الجديدة.
وبعد مرور 80 عاماً على ميلادها، ما زالت الأغاني التي قدمتها فيروز الطفلة هي أبرز وأشهرالأغاني للأطفال في تاريخ السينما المصرية، ولم يستطع أحد أن يشغل هذا المكان حتى الآن، من يستطيع أن ينسى "كروان الفن وبلبله، وبحلق لي، والدربكة، والبلياتشو، واتمخـطرى وأتمايلي يا خيل، مبروك عليكى عريسك الخفة، حلو يا حلو يا حلو الحلو"، وبالطبع "معانا ريال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.