تقول سهير البابلي في جملتها الشهيرة في مسرحية ريا وسكينة: "ثم اتضح إن ما فيش أحلى ولا ألذ لامن قتل النسوان".
عبارة مضحكة، لكنها ليست موجهة إلى كل النساء، بل تحديداً النساء اللواتي ساهمن في قهرهن، أما القتل فوق خشبة مسرح فمجازي بالطبع.
يفتتح نجيب محفوظ الثلاثية، عمله الخالد الذي نشر في خمسينيات القرن الماضي، بمشهد يصف امرأة مقهورة (أمينة) ثم يأتي التتابع في المشاهد التالية لتصف الرجل المتسلّط (السيد عبد الجواد) قبل أن تنتقل إلى أبنائه الخائفين، المضطربين.
لكن عن سؤال "لماذا لا نملها؟" أشعر ببعض القلق، هل بسبب أننا لم نتطور مع الزمن وأننا نعيش في الماضي؟
ثم تتوالى الشخصيات من أجيال وأزمنة مختلفة، مضطربة، تائهة، مقهورة، بلا حل للأزمة نفسها التي رأى محفوظ أن مفتاح حلّها أولاً في حرية النساء، ثانياً في فضح أن تسلّط السيد أحمد عبد الجواد لم يعد صالحاً للزمن بل يعيق تطوره، وهو الذي ينتج في الأساس سلطة الاستبداد السياسي التي ترى في القائد الذكر أباً يجب احترامه وطاعته، مهما كان طغيانه يعكس خواء ونفاقاً، حتى أن عبقرية محفوظ لا ترصده من لحظة ذروة لتسلطه إلا لترصد أفول تلك السلطة وانهيارها.
اللافت أن تلك المشكلات التي تدور حول الحرية والقهر، سواء قهر الجيل الشاب من جانب السلطة، قهر النساء أو ازدواجية الذكر الشرقي، هي المشكلات نفسها التي تناولتها المسرحيات الكوميدية التي لا نمل مشاهدتها، والتي أنتجها المسرح التجاري الذي لا يعمل إلا وفق معايير السوق، وقد نجحت في اختبار الزمن عبر تقديمها، ربما، مواجهة أعنف، وتحويل المأساة الفردية إلى مسخرة جماعية، تجعل من هؤلاء مهرجين، صغاراً، دون رحمة: ناظر المدرسة في "مدرسة المشاغبين" والأب في "العيال كبرت"، ممثلا السلطة السياسية والعائلية الذكورية، ومن الرجل الذي يفرض القيود على بناته في "سك على بناتك" ويسمح بها لنفسه، ليس من باب "المؤامرة" لتفكيك الأسرة والعائلة، كما تقول النظرة الضيقة للأخلاق، بل من باب الإشارة إلى مصدر الأزمة، بقفازات الكوميديا المخملية، حيث ليس بإمكاننا سوى أن نضحك.
تقول الأنثروبولوجية البريطانية ماري دوغلاس، إن النكتة تلاعبٌ بالأساليب، يتيح فرصة إدراك أن نمطاً مقبولاً معيناً ليس أمراً حتمياً. النكت إذن تتلاعب بالممارسات المقبولة في المجتمع، وتظهر أن هاته الممارسات ليست أمراً حتمياً يجب الانصياع له.
قدّم بهجت قمر وحسين كمال نسخة أخرى، لا علاقة لها بحقيقة ريا وسكينة، السفّاحتين الشهيرتين، ليطرح سؤالاً عن أي أشباح تواجهها المرأة القوية المستقلة
لا نملّ مشاهدة تلك المسرحيات للمرة الألف، ونضحك عليها كل مرّة بالقوة نفسها، أو حتى نكرّر إيفيهاتها بالحماس نفسه، فقد استجابت لهذا الشرط الذي تقول به دوجلاس، وهو أمر يشير إلى شيئين، الأول إيجابي: إن تلك الأعمال هي فن جيد بدليل تجاوزه لاختبار الزمن، لكن عن سؤال "لماذا لا نملها؟" أشعر ببعض القلق، هل بسبب أننا لم نتطور مع الزمن وأننا نعيش في الماضي؟
هي فكرة ذات وجاهة، لكن في ظني أن هناك سبباً آخر هو أن المشكلات التي ناقشتها تلك المسرحيات نفسها لم تحل، مازالت في صلب الوعي، ولا حل كي تتحول تلك المسرحيات إلى أرشيف فني لطيف وقديم، وليس جزءاً من وعينا، إلا بتصفية المشكلات من جذورها، وإذا ما أخذنا مسرحية "ريا وسكينة" نموذجاً، والتي كتبها بهجت قمر وأخرجها حسين كمال، وقام ببطولتها كلٌّ من النجمتين اللامعتين المحبوبتين شادية وسهير البابلي، واثنين من أعلام الكوميديا، عبد المنعم مدبولي وأحمد بدير، في أدوار تزاح إلى البطولة الثانية لصالح إفساح البطولة الحقيقية لسيدتين، فيمكن أن نفهم لما تضحكنا تلك المسرحية حتى الآن.
يبدو قتل الابنة في "ريّا وسكينة" تكفيراً مناسباً، ليس عن خطيئة العنف، بل التلذذ به والاستمرار فيه رغم الانتصار.
قدّم بهجت قمر وحسين كمال نسخة أخرى لا علاقة لها بحقيقة ريا وسكينة، السفّاحتين الشهيرتين، اللتين روعتا نساء الإسكندرية في عشرينيات القرن الماضي، استبعد الفقر والقسوة ليقدم فكرة جديدة، تلتقط شيئاً ما يسري في المجتمع، نسميه المرأة القوية المستقلة، أو Strong independent womanليطرح سؤالاً عن أي أشباح تواجهها تلك المرأة.
من المشهد الأول في قسم الشرطة، تواجه سكينة التي تبادر بنفسها إلى اختيار شريكها ومغازلته، الشاويش عبد العال، اتهاماً يطالها هي وشقيقتها، لمجرد أنهما تعيشان بمفردهما، بعد أن نجحتا في تحقيق الاستقلال المالي الذي يكفل لهما التحرّر من سلطة المجتمع، اللافت أن الاتهام جاء من امرأة (الهبلة العبيطة أم بدوي).
إن كانت سكينة تملك القوة لاختيار شريكها الذكر، فريّا تملك القوة أيضاً لرفض الشريك إذا لم يكن مقنعاً لها، وفي الحالتين عندما تتزوج كل امرأة من شريكها، تكون هي من اختارت ودبّرت وغازلت، القرار ملكها. لا تكفّ ريا عن احتقار شريكها غير المقنع، ولا ينجح تعصب الصعيدي لشروط ذكورية بالية أن تنجيه من شرط أنه يُتلاعب به من البداية، هو ليس سوى مغفل يظن أنه يعرف الحقيقة وأن "كل شيء انكشفن وبان".
نفهم أن ريا وسكينة تحررتا من شروط قاسية من بيئة عوملتا فيها كسلعتين جنسيتين، حرمت الأولى من طفلها بعد أن فرغ منها ابن الباشا، واغتُصبت الثانية وهي طفلة، بمباركة وتخطيط من الخالة الصعيدية أمونة، التي تجدهما لتحاول إجبارهما على العودة من جديد إلى شروط العبودية والاستغلال.
لا تكفّ ريا عن احتقار شريكها غير المقنع، ولا ينجح تعصّب الصعيدي لشروط ذكورية بالية أن تنجيه من شرط أنه يُتلاعب به من البداية. هو ليس سوى مغفل يظن أنه يعرف الحقيقة وأن "كل شيء انكشفن وبان"
بعد ارتكاب الجريمة الأولى، نفهم أنها لم تكونا ضحية للرجال فقط، بل للنساء أيضاً، تحديداً اللاتي تماهين مع شروط المجتمع لقهر النساء، فصرن أكثر إيماناً بها من الرجال.
كان بإمكان ريا وسكينة، نسخة بهجت قمر، أن تتغلبا على الرجال، بعد أن حققتا شرط الاستقلال عنهم وعدم الحاجة إليهم، أن تفرضا بطريقة ما قرارهما، بعد أن تدركا مكامن قوتهما، يردّهما الرجال خطوات لكن تردّهما النساء، إذا ما تماهين مع السيد عبد الجواد، مئة خطوة.
أمونة التي تتحدّث عنهما كسلعة، ثم أم بدوي التي تتهمهما بالانحلال لمجرد استقلالهما، وتستعين بالشرطة لتفتيش المنزل بحثاً عن رجال، لذا ومنذ تلك اللحظة وبلمسة الفن العبقرية، يتحول قتل السفاحتين للنساء من أجل الاستيلاء على مصاغهن في القصة الحقيقية، إلى قوة موجهة نحو النساء اللواتي لم يتجاوزن عقلية العبد والذكر، وصرن أكثر شراسة ورجعية منه، حتى أن المرأة الثالثة التي نراها تُقتل في مجاز فني، كانت المرأة المتزوجة من ضابط المديرية، والفخورة بأنه "ستتها وهننها" وأن هذا يكفي من أجل أن تقدم له طاعة مطلقة، حتى أن ماكياج وجهها المزين لأجله يكون فاقعاً، كاريكاتورياً، يشوّهها في الحقيقة. أما المرأة الرابعة، فهي الابنة المدللة التي لا تفكر في شيء سوى الزواج، كأنه هدف حياتها الوحيد.
لا أدعي أن بهجت قمر فكر في كل هذا، لكن كشأن الفن الجيد والصادق يكمن خلفه وعي ما، وكشأن الفن التجاري الناجح يلتقط نبضاً حقيقياً من الناس والشارع، لهذا يعيش ونضحك معه للمرة الألف
عمليات القتل كانت ضد الأشباح التي تعرقل المرأة المستقلة عن أن تصير كذلك: الرجعية والاتهامات الأخلاقية والرضا وجعل الرجل هدفاً أخيراً ونهائياً، اتهامات الرجال والنساء معاً، تصفية حسابات مع الخيوط الأخيرة التي تشدهما إلى الماضي، بنزع تلك الخيوط عبر قتل مجازي لمن يمثلن تلك الخيوط يتمّ تحررهما، لكن آلة القتل في النهاية يجب أن تتوقف، لذا يبدو قتل الابنة تكفيراً مناسباً، ليس عن خطيئة العنف، بل التلذذ به والاستمرار فيه رغم الانتصار.
فآلة العنف لنزع الحق عليها أن تتوقف ذات لحظة للتسوية مع المجتمع لا الانتقام منه، على الضحية ألا يتحول إلى سيّد مستبد، لا يكتفي بالرغبة في الحصول على حقه، بل بممارسة قهر مضاد ينزع عن الجميع أي حقوق أخرى.
لا أدعي أن بهجت قمر فكر في كل هذا، لكن كشأن الفن الجيد والصادق يكمن خلفه وعي ما، وكشأن الفن التجاري الناجح يلتقط نبضاً حقيقياً من الناس والشارع، لهذا يعيش ونضحك معه للمرة الألف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع