في الساعات الأولى من صباح أمس الأحد 5 آذار/مارس، وهي تنادي ابنها قتيل حرب الاستنزاف، غيب الموتُ سلطانةَ الطرب، الفنانة المصرية شريفة فاضل عن عمر ناهز الـ93 عاماً، لتتحطم جدران العزلة والوحدة المريرة التي عاشتها منذ خفوت نجوميتها وانزواء الأضواء عنها منذ منتصف التسعينيات، بعدما كانت من نجوم الصف الأول لجيل الغناء الذهبي في مصر.
فور الإعلان عن وفاتها، ازدحمت صفحات موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك بمقاطع من أغانيها الشهيرة، وراح الكثيرون ممن شهدوا سنوات تألقها، وارتبطوا بصوتها الصداح والمُزغرد، يستعيدون ذكرياتهم مع أغانيها التي ترسخت في وجدانهم، وتحديدا أغنيتها الأيقونية "أنا أم البطل"، وأيضاً أغنية"لما راح الصبر منه"، وغيرها من الأغاني ذات الصبغة الشعبية التي قدمتها شريفة بالتعاون مع الفنان منير مراد مثل أغنيتها الشهيرة خفيفة الظل "حارة السقايين".
لكن هذا الاحتفاء على الفيسبوك، قابلته حالةٌ من الغياب والصمت على أرض الواقع، حيث غاب الوسط الفني والغنائي عن مراسم تشييع جنازة الفنانة الشهيرة، وهكذا تضافرت حالتا الغياب والتجاهل هذه من جانب الوسط الفني مع العزلة التي عاشتها أم البطل، لترحل شريفة فاضل، رحيلاً صامتاً، لا يليق بصوتها المتوهج، وبحتها التي وكأنها نُسجت من أشعة الشمس الذهبية.
في القاهرة، وُلدت فوقية محمود أحمد ندا (الاسم الحقيقي لشريفة فاضل)، في 15 أيلول/سبتمبر عام 1930، وهذا التاريخ، هناك تضارب وجدل حوله في الأخبار التي تم تداولها عند إعلان وفاتها، وهو ما يكشف حالة الاستهتار المؤسف الذي تعاني منه عملية التوثيق الفني للسيرة الحياتية للفنانين في مصر.
قالت في إحدى حواراتها السابقة إنها كانت تعتبر الغناء عبادة، ولا تستطيع العيش دون أن تُغني. فهي خُلقت لتصدح بالغناء، لأن الكون كله يبعث على الغناء٫ سواءً كان حزيناً أم مبهجاً
نشأت شريفة فاضل وسط أسرة تُقدر الفن، البعض منهم يغني، لكنه لا يُمارس الفن، فأمها كانت عازفه بيانو، تقضي أغلب وقتها في العزف، وكانت الطفلة شريفة، تلتقط النغمة من أمها، وتنتفض وكأن روحاً ما تلبستها، حتى يخرج صوتها، قوياً واثقاً، مندفعاً نحو معانقة شيء بعيد. هذا الشيء هو حلمها، الذي ضحت بالكثير من أجله، لأنها- كما قالت في إحدى حواراتها السابقة- كانت تعتبر الغناء عبادة، ولا تستطيع العيش بدون أن تُغني. فهي خُلقت لتصدح بالغناء. لأن الكون كله يبعث على الغناء٫ سواءً كان حزيناً أم مبهجاً، فهكذا هي الحياة: ضفيرة من الحزن والفرح.
كانت أمها عازفة بيانو وفنانة بالفطرة، ولا شك أن هذا كان له تأثيره البالغ على شريفة فاضل، لكنها دائماً ما كانت تقول إنها ورثت الصوتَ القوي من جدها المقرئ صاحب الحنجرة الذهبية الشيخ أحمد ندا، فمن جدها، تسللت إليها الموهبة، وعرفت المقامات، وكيفية اعتلائها، وكذلك النغم المُشبع المُنساب المُتدفق كشلال.
مبكراً انفصلت الأم عن الأب الذي كان يعمل موظفاً بوزارة الزراعة، وتزوجت من أحد الرجال الأثرياء، ابن الفلكي باشا، ثم انتقلت الفتاة ذات الـ13 عاماً للعيش مع أمها وزوجها في إحدى العوامات في النيل، وهناك سمعها أحد الجيران وهي تُغني٫ وكان هذا الرجل هو سيد ياسين صاحب مصنع الزجاج الشهير. هكذا انتبه رجل الأعمال، لموهبة الشابة الصغيرة، وعرض على أمها أن يقوم بإنتاج فيلم لها، فكان أول ظهور لشريفة فاضل في فيلم "الأب"، قامت فيه بدور صبية مكفوفة البصر تُغني: "يا قطن يا حليوه"، وغيرها من الأغاني المبهجة ذات الصبغة الشعبية.
قبل هذا الفيلم، كان لشريفة، تجربة مهمة في الإذاعة المصرية، حيث كانت تقوم ببعض الأدوار الدرامية في الإذاعة مع الإذاعي الشهير محمد محمود شعبان الشهير بـ"بابا شارو"، وهذا ما أشارت إليه الكاتبة والناقدة المسرحية صافي ناز كاظم، التي قامت بإجراء حوار مهم وثري مع الفنانة الراحلة في آب/أغسطس عام 2001، وكان الدافع وراء هذا الحوار في الأساس، هو الحب العميق من جانب صاحبة "تلابيب الكتابة"، لـ"لصداحة" كما تُحب أن تُلقبها، كما أنهما ينتميان إلى جيل واحد، فصوت شريفة، قد ترسخ في وجدان الكاتبة منذ أن كانت طفلة تستمع إليها في الإذاعة وهي تقول: "أنا حورية الماء".
ولصافي، وصف فني جميل لصوت شريفة، كتبت في مقدمة حوارها:" فجأة يلمع صوتها كالجوهر على القطيفة السوداء، إنها ماسة مصقولة بألقٍ نادر، ليس مبعثه حلاوة الصوت وحدها. من المذياع الصغير تنتفض شريفة فاضل بوجد النغم و آآآآه م الصبر وآآآآه. اللحن جياش، ناري، متأجج، وروحها الوثابة تناول أحبالها الصوتية الجمرات. هل السر يكمن في البحة المطعمة لانسياب الآه، أم هذا التمكن والارتكاز القدير فوق المقام، أم هذه اللعلعة الواثقة تروح وتجئ بالليل والعين، تتجول كيفما شاءت، مهرة خفيفة الظل مسحوبة بعشق المراعي الخضراء وشوق الخروج إلى البراح الريان بأنهار العسل واللبن".
يكشف الحوار الذي يعد بمثابة تأريخ مكثف لسيرة حياة شريفة فاضل، الكثيرَ من الجوانب الخفية عن حياتها الحافلة والثرية، وكذلك يقترب بحنان ودفء من حزن شريفة الدفين، هي الأم التي فقدت ابنها الشاب "سيد السيد بدير" في حرب الاستنزاف، ثم امتصت هذا الموت المُفجع، وحولته إلى غناء شجي وعاصف، خارج من أعمق نقطة في روحها، وقد تجلى ذلك في أغنيتها "طبعاً ما أنا أم البطل". وعن كواليس هذه الأغنية روت شريفة لـصافي أنها كانت تتعرض لإغماءات كثيرة أثناء تسجيلها لهذه الأغنية، وكانت تشعر وكأن شرايينها تتمزق: "أم البطل خرجت من الجمر المشتعل في قلبي. غنيتها بكبرياء حزني".
"والله باللفظ ده قالت لي (أم كلثوم) في صوتك حاجة أنا ما سمعتهاش قبل كده"
في الإذاعة، تعرفت شريفة فاضل على المخرج السيد بدير، وكان –كما حكت لصافي- متزوجاً ولديه أولاد، ويكبرها بسنوات عديدة، بل يقترب من سن والدتها، لكنها أحبته، وصممت على الزواج منه وهي ابنة الـ15 عاماً، ممنية نفسها بالنجاح الذي ستحققه كفنانة من خلال ارتباطها بهذا المخرج المهم.
لم تعترض الأم، واستمر الزواج لـ9 أعوام، وضعت نهايته غيرةُ زوجها عليها، حيث حجبها عن الجميع وكان رافضاً أن تغني وتمثل، ومن ثم صممت على الانفصال. ولكن قبل الطلاق أجبرته على أن يصنع لها فيلماً، وكان فيلم "ليلة رهيبة"، غنت فيه شريفة فاضل أغنية "أمانة يا بكرا"٫ وكانت هذه الأغنية بدايتها الحقيقية في عالم الغناء٫ كانت الأغنية من تأليف إسماعيل الحبروك وتلحين محمد الموجي٫ قالت شريفة عن الأغنية في الحوار: "أنا لولا الغنوة دي نجحت واشتهرت ماكنتش ح أبقى شريفة فاضل".
بعد طلاقها من المخرج السيد بدير، تزوجت شريفة من اللواء علي زكي التي قالت إنه حبّ عمرها، ولم تحب رجلاً في حياتها سواه. معاً أسسا "كازينو الليل" بشارع الهرم، وبعدما مرض زوجها، استولى الأصدقاء على هذا الكازينو، وتراكمت الديون عليهم، حتى أنها باعت ما تمتلكه من مجوهرات لكي تُسدد الديون. وبشكل عام رأت شريفة فاضل أن تأسيس هذا المكان لم يكن في صالح تجربتها الفنية: "الليل أساء إلي .. منعوني من الحفلات عشان هو ملهى ليلي... لكنه كان في الأول مكان محترم، وكنت أحترم نفسي... عمري ما قعدت في الصالة مع أحد... كل الأمراء يأتون إلى مائدتي وجوزي معايا... عارفين أنا ما أقعدش مع أحد.".
كان فيلم "سلطانة الطرب" الذي يُجسد سيرة حياة المطربة منيرة المهدية، تجربة مهمة في المسيرة الفنية لشريفة فاضل؛ قامت هي بالإنتاج، وأخرجه المخرج الكبير حسن الإمام. تأثرت شريفة كثيراً بحياة منيرة المهدية، وأحبتها وتعاطفت معها، وكانت تخشى أن يكون مصيرها كمصير منيرة القاسي٫ تقول: "تأثرت جداً بقصة حياة منيرة المهدية… لو شفت الفيلم تاني ح تشوفي إني كنت بعيط في الفيلم حقيقي... مشهد منيرة المهدية على المسرح والناس بتضحك عليها ومش بيسمعوها... مكياجي كله راح من كتر العياط الحقيقي... حسيت بأزمتها تماماً... كنت عاملة حساب اليوم ده لما يحصل لي نفس اللي حصل لمنيرة المهدية".
يقول الروائي والناقد الفني شريف صالح لـرصيف22: "إن أهمية الفنانة شريفة فاضل في الحركة الغنائية المصرية، تكمن في تفردها في تقديمها لنوع خاص من الغناء الشعبي، الذي شكّل مساراً مقابلاً للون الغنائي الشعبي الذي كانت تغنيه خضرة محمد خضر، وجمالات شيحة. فلم يكن هناك فرح في مصر بدون أغنية (يا معجباني يا غالي)، وأعتقد أن هذا الإنجاز ليس بسيطاً".
"أهمية الفنانة شريفة فاضل في الحركة الغنائية المصرية، تكمن في تفردها في تقديمها لنوع خاص من الغناء الشعبي، الذي شكّل مساراً مقابلاً للون الغنائي الشعبي الذي كانت تغنيه خضرة محمد خضر، وجمالات شيحة"… الناقد الفني شريف صالح لرصيف22
وأضاف شريف أن شريفة فاضل "تنتمي لجيل الخمسينيات في الغناء المصري، وفي هذه الحقبة كان هناك مشروع فني وثقافي قوي، وكانت مضامين ورسائل الفن في صلب النظام السياسي، أي أنها كانت تخدمه، وليست منعزلة عنه. ومن ثم كنا نجد الكثير والكثيرات من الفنانين والفنانات، لديهم انتماءات يسارية. وكان هناك اهتمام كبير بتقديم أغاني العمال والفلاحين بما يتلاءم مع التوجه الاشتراكي للدولة، حتى أصبح هناك أرشيف كامل لهذه الأغاني التي لدى شريفة فاضل حصيلة كبيرة منها. وبشكلٍ عام، نجحت شريفة فاضل في تقديم الغناء الشعبي التي تريد السلطة أن تُقدمه للشعب".
أطلق موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب على شريفة فاضل لقب "المُزغردة"، تعبيراً عن البهجة والفرح والصهللة التي تنبعث من صوتها، أما كوكب الشرق أم كلثوم، فقد تنبأت لها بأنها ستكون في مقدمة المطربات والمطربين بل ستمسحهم جميعاً. وبفخر واعتزاز روت شريفة تفاصيل الحوار الذي دار بينها وبين كوكب الشرق حين التقتها مرتين: مرة في منزل أحد أصدقاء زوجها آنذاك المخرج السيد بدير، والمرة الثانية في عرس هدى عبد الناصر، ابنة الرئيس جمال عبد الناصر.
تحكي شريفة: "دخلت لقيت أم كلثوم، وأنا أعبدها. أستغفر الله العظيم أنا ما أعبدش غير ربنا، قصدي أحبها حباً كبيراً وأبويا كان يحبها. حببتني في الغناء، وتعلمت من غنائي لها وأنا طفلة. ما كانش عندي غير غنوتين: أمانة يا بكرا ومبروك عليك. قمت غنيت الغنوتين، بقت تصقف لي قوي، جت جنبي كده وطبطبت علي٫ وقالت لي: انتي عارفة يا صغيرة انتي ح تمسحيهم كلهم. بصيت لها٫ قالت لي: آه سيبك بقى من مين ومين ومين٫ انتي ح تاكليهم٫ ح تمسحيهم مسح. والله باللفظ ده قالت لي في صوتك حاجة أنا ما سمعتهاش قبل كده، صوتك جميل وسليم وفيك بحة جميلة، وبعدين انتي ياختي ما بتقلدنيش، كلهم يطلعوا يقلدوني لكن انتي لك لون لوحدك. عشان كده ح تبقي جميلة".
هذه كانت نبوءة أم كلثوم لشريفة فاضل، لكن حسابات الوسط الفني، كان لها رأي آخر، ففي منتصف التسعينيات، أو ربما قبل ذلك بدأت نجومية شريفة في الخفوت، حتى ارتكنت إلى العزلة والوحدة، لأنها كما أفضت لصافي ناز كاظم كان مغضوباً عليها من جانب شخص، لم تحب أن تذكر اسمه، وظلت لسنوات عديدة وحتى وفاتها، غائبة عن الحفلات، لا تتلقى أي دعوة لحضور الحفلات والمهرجانات الفنية: " خدوني في لبنان. أنا لما رحت حسيت بشريفة فاضل، قلت: يا خسارة، يا خسارة يا بلدي حاجة تحزن. استقبلوني كأني ملكة نازلة عندهم. سألوني في فضائية لبنانية، وينك من الإعلام شريفة فاضل؟ وينك من التلفزيون المصري وأنت من علامات الفن في مصر؟ وفينك من الحفلات؟ قلت لهم والله مش عارفة. أنا نفسي مش عارفة أنا فين من التلفزيون المصري ومهرجانات الغناء والتكريم. اللي بيحصل ده غريب ومش منطقي. 15 سنة كنت بعيدة عن لبنان قلت لهم أنتم فكرتوني إني شريفة فاضل. راحوا كلهم واقفين يصقفوا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع