شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"كل دا كان ليه؟"... صدارة الأغاني من أم كلثوم إلى نجوم المهرجانات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 9 فبراير 202301:40 م

"كل دا كان ليه؟"، كتاب كبير للكاتبة الفنانة المصرية فيروز كراوية. عنوانه الفرعي "سردية نقدية عن الأغنية والصدارة"، وأظن الكتاب أكبر من عنوانه الفرعي الشارح، فالرصد الأفقي الذكي لمسار الأغاني وتصدُّرها يتفاعل مع بحث رأسي عن سياقات سياسية وتفاعلات اجتماعية وثقافية أسهمت في طيّ تيارات، ونشوء أخرى. وفي الرحلة الغنائية الموسيقية، منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، تنتصر المؤلفة للمستقبل، وتراهن عليه، ولا تصادر على المجددين، مهما تكن الموجة قصيرة العمر. لكن التفاؤل بخروج الأغنية من سطوة الرعاة الرسميين، من محتكري السلطة أو المال، بالاحتكام إلى أرقام الاستماع من خلال المواقع الإلكترونية، ينتهي باحتيالات يجيدها الأذكياء.

"كل دا كان ليه؟"، سؤال بدا بسيطاً في أغنية محمد عبد الوهاب. والإجابة تطلبت كتاباً تضافر فيه النخبوي والشعبي، السياسي والثقافي، وتقصي تطور الغناء، وظاهرة الصدارة، من البدايات إلى نجوم الراب والمهرجانات. في الإجابة المركبة تنافَس صوتا الستّ والزعيم على الميكروفون، فلا نعرف أين تنتهي أم كلثوم، وأين يبدأ عبد الناصر، وفي الفراغ والخلخلة دخل صوت عبد الحليم، تحمله موسيقى كمال الطويل، لإبلاغ رسالة صلاح جاهين. جاذبية الكتاب لم تمنع مصادفتيْ توقّـف، لأقرأ روايتيْ صنع الله إبراهيم "1970" و"67". عدت محملاً بالدراما، وتوثيق متمهل للروائي تسلل إلى الكتاب. كلاهما، صنع الله وفيروز، على مسافة عقلانية تُسائل الزعيم، ولا تتسامح معه.

"كل دا كان ليه؟"، سؤال بدا بسيطاً في أغنية محمد عبد الوهاب. والإجابة تطلبت كتاباً تضافر فيه النخبوي والشعبي، السياسي والثقافي، وتقصي تطور الغناء، وظاهرة الصدارة، من البدايات إلى نجوم الراب والمهرجانات... كتاب"كل دا كان ليه؟" لفيروز كراوية

الإجابة عن سؤال "كل دا كان ليه؟"، شغلت الكتاب الذي يضم 300 صفحة كبيرة القطع، وأصدرته "ديوان للنشر" بالقاهرة، بإخراج غير تقليدي للفنان أحمد اللباد، والمراجعة والتحرير للشاعر اللبناني فادي العبد الله الذي قال في المقدمة إن مفهوم الصدارة "أن يكون الإنسان علماً على زمنه... يجمع في مسيرته ونفسه تقاطع المسارات الأكثر تحديداً لهذا الزمن والأقدر على منحه سمعة البقاء في الزمن اللاحق صورةً لعصر كامل". لعل تعريفه للصدارة مثالي، ولا ينطبق إلا على استثناءات قليلة، ولا يراعي التقلب السريع للأذواق، فترفع من شأن أغنية، ثم تجذبها "موضة" لاحقة تطفئ الحماسة للأغنية وصاحبها. من يذكر "لولاكي"، أو علي حميدة الآن؟

الصدارة واختبار الزمن

لا علاقة للصدارة باختبار الزمن، أو قدرة المنجز على أن يصير أطول عمرا من حياة صاحبه. في الفنون يتمكن محترفون من صنع ظاهرة واستثمارها، تتصدر حتى ينتهي الغرض منها. كما تعاد الحياة إلى أعمال لم يتحمس لها معاصروها، ولم يمنحوها اهتماما لائقا. انتهى روائيون لازمتهم الشهرة والمبيعات والأفلام، والآن لا تطبع أعمالهم. من جيل نجيب محفوظ تصدر محمد عبد الحليم عبد الله، من يريد الآن قراءته؟ وإسماعيل ولي الدين من أبرز الظواهر سريعة الانطفاء.. روايات بيست سيلر، وأفلاما ناجحة تجارياً. ولم تشفع الصدارة هنا وهناك، ولا صلاح أبو سيف وحسين كمال. قضى الرجل آخر ربع قرن من حياته في عتمة.

الصدارة ليست مفهوماً مطلقاً

الصدارة ليست مفهوماً مطلقاً، ولا عابرا للأجيال إلا في استثناءات نادرة. يتصدر أحدهم بضع سنوات، ثم يسكن في موضع يناسب حجم الموهبة، حيث لا يفيد الذكاء الاجتماعي ولا الدعم السياسي والإنتاجي والترويجي. من يتجاوزون زمنهم ندرة، استثناءات يتضمنها نوعان: أولهما عبقرية تتفجر، وتزلزل صاحبها، إلى درجة التدمير أحياناً، ويمنحه الموت المبكر خلوداً. وثانيهما فائق الموهبة والذكاء والقدرة على تطوير أدواته، ويتمتع بحساسية للجديد والتجديد، ويتفادى الاصطدام بالسطات كافة، ويتوافق مع الأنظمة مهما تتناقض وتتصارع إلى حد هدم القديم والتبرؤ منه. يتساءل فادي العبد الله: "وهل أبقى من أغنية علامةً على عصر؟". ويمكنني القول: وهل أبقى من فنان عنوانا على عصره؟

في الفضاء الإلكتروني تتوارى الرقابة، وتتسع الذائقة لأنماط تشمل إعادة تقديم التراث، والأغاني المناطقية، واليومي الحسي الخشن

"كل دا كان ليه؟" ليس فقط سؤالاً؛ إنه بشكل ما إجابة، دليل تقدمه فيروز كراوية على أن في مصر "كتابة" تبقى سرداً أعمق من دردشات ينثرها هواة يسمون أنفسهم نقاداً للغناء. ولعله عصا موسى، تعيد الاعتبار إلى نقد ثقافي لا يكتفي بالوصف، وإنما يتعقب السياق المعقد، ويحلل نشوء الظاهرة وصعودها، وانحسارها أو بقاءها. من زمن طقاطيق العوالم والمؤديات، إلى المشهد الحالي، بالأحرى "سوق" الغناء الحالي، الذي يبدو في ظاهره تمثيلا لديمقراطية الإنتاج والتلقي. كل قالب غنائي، في هذه الرحلة، ابن زمنه. منذ تباهي "الصيّيت" بقدراته الصوتية التي تطرب جمهور السرادقات والساحات، وسخريته من دخول الميكروفون الذي رآه سندا للأصوات الضعيفة.

البقاء للأذكى

البقاء للأذكى. لا عزاء لفنانين رواد، جُسور بين عصرين. يستعيد الفصل الأول، "عوالم أم مطربات"، القاهرة الخديوية الزاخرة بصالات ومسارح تعمل فيها فرق وفنانات شاميات هاربات من الاضطهاد التركي. واقتحمت منيرة المهدية مجال "التمثيل والمسرح الغنائي كأول مصرية مسلمة"، وفتحت بابا لأخريات، وازدهرت الطقاطيق المكشوفة. ومع بدء مرحلة التسجيلات، ارتقت كلمات الطقاطيق، ثم انحسرت الطقطوقة الخليعة في الثلاثينيات، مع اتجاه شركات الأسطوانات إلى إنتاج المونولوج الغنائي، وتحولات اجتماعية تسمح باختلاط الجنسين في صالات الغناء. أم كلثوم سجلت عام 1925 طقطوقة "الخلاعة والدلاعة مذهبي". وأنقذها مثقِّفوها. قيل إن محمد التابعي كتب أن الأغنية ليست لأم كلثوم، بل لواحدة من "أمهات كلثوم".

طقطوقة "الخلاعة" أذيعت عام 1926، الفاصل بين زمنين. سيموت سعد زغلول، وتصعد دكتاتوريات محمد محمود وإسماعيل صدقي، ويتراجع طه حسين عن صيغة كتابه "في الشعر الجاهلي"، وتغرب طموحات ثورة 1919، ويبدأ طموح تنظيم الإخوان المسلمين، ويتجسد الخطاب التوفيقي في رسم صورة ذهنية لأم كلثوم، بفضل كتيبة من مثقِّفيها، حتى بدت "وكأنها صوت القدر الذي لا جنس له... سعت أم كلثوم باختياراتها أو بأدائها الغنائي لتجاوز شروط النوع الاجتماعي"، وكان عليها مراعاة عواقب مغامرات التجديد، ورمزه الأهم محمد القصبجي الذي أنهت التعاون معه مبكرا، ومضت مع رياض السنباطي من العصر الملكي إلى الجمهوري، وكوّنت "زعامة موازية لشخصية الزعيم جمال عبد الناصر".

مع الوعي بالنهضة، رغب جيل التحديث في استيعاب الموسيقى الغربية، وتلخصت الجهود في إقامة مؤتمر الموسيقى العربية عام 1932. تقول المؤلفة إن أنصار الحداثة من المصريين والعرب استدعوا "الشيخ سيد درويش بعد وفاته بتسع سنوات، كأب للموسيقى الحديثة في مصر"، بعد سنوات من التعتيم "جرى استدعاؤه في مساجلات" المؤتمر، وهكذا "استعيد إسهام سيد درويش". لا يتأكد لي ذلك "الاستدعاء"، فأحمد شوقي كان عضوا بلجنة التنظيم، وأعانتها لجنة تنفيذية ضمت داود حسني و"محمد عبد الوهاب أفندي" الذي تم تنصيبه على عرش الفن، وصار "مطرب الملوك والأمراء". وبهذا التعميد وهذا اللقب، بدأ الاحتكار الفردي للميكروفون، وتعزز الاستبداد ببدء الإذاعة المصرية عام 1934.

بتعميد عبد الوهاب أسدل الستار على مسرح سيد درويش.

تجربة المسرح الغنائي

المسرح الغنائي ديمقراطي، والميكروفون يخضع لدكتاتورية نجم، نجمين يتنافسان: أم كلثوم وعبد الوهاب. القمة تحتمل جوادين فقط: شوقي وحافظ إبراهيم، نجيب محفوظ ويوسف إدريس، صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي. وفي عام 1941 أحيت زينب محمد الجندي (ملك) المسرح الغنائي. كانت تعزف على العود، ولا تغني في مسرحياتها إلا من ألحانها. غنّت قصائد لشوقي وبيرم التونسي وكامل الشناوي، ولقبها التابعي بمطربة العواطف، وقامت ببطولة فيلم "العودة إلى الريف" (1939) لأحمد كامل مرسي.

وقدمت أكثر من 25 مسرحية. والْتهم حريق القاهرة عام 1952 مسرحها، فغادرت إلى العراق، ولحنت وغنت أغاني منها "صباح الخير يا لولة" التي كانت تذاع كل صباح.

تصدرت الأغنية، وتراجع الألبوم، وغابت السيطرة، ويستطيع ناشط موسيقي، باحتيالات إلكترونية، "افتعال معارك" وشائعات، فينفرد بالقمة، قمة الإحصاءات الرقمية

انتهت تجربة المسرح الغنائي. ونجحت ثورة يوليو 1952 في إعادة الاعتبار إلى موسيقى سيد درويش، لا إلى مسرحه الذي كان يعاد في أغانيه "اختراع صوت للجماعة الشعبية بالعامية المصرية خيارا يخاطب جمهور بورجوازية مدينية صاعدة". لكن عبد الوهاب وأم كلثوم استبدا بالميكروفون، ممثلين لنهج توفيقي، وصوتين لسلطة تستهويها شهوة الميكروفون. تصدر عبد الوهاب وأم كلثوم التي غنت مبكراً "يا جمال يا مثال الوطنية"، كلمات بيرم التونسي وألحان السنباطي، فرحاً بنجاة الزعيم من رصاص الإخوان عام 1954. وسينال عبد الحليم حافظ حظاً باعتباره الابن الأذكى للتجربة الناصرية. صوت ضيق المساحة استقوى بالميكروفون الذي مثّل "انقلاباً كبيراً في ثقافة التلقي وصناعة النجوم".

فيروز كراوية وكتابها

تقول المؤلفة إن عبد الحليم وعبد الناصر تبادلا "عبر الميكروفون استلهام ملامح خطابهما، الرومانسية والوطنية"، حتى إن المطرب استعار تعبير "إخواني" في أغنية عن السد العالي في مماهاة بين الأغنية وخطاب الزعيم الذي يبدأ: "إخواني". وبانفجار هزيمة 1967 تشظى المشهد، ومن الأطراف جاءت تجربة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، ومحمد حمام، وكانت أشرطة الكاسيت ثورة حقق بها المطرب الشعبي أحمد عدوية الصدارة. لم يكن مثقفٌ ليشعر بأنه كذلك إلا بالسخرية مما يرمز إليه عدوية الذي ضمت فرقته الموسيقية كلا من عبده داغر، وحسن أبو السعود، وسامي البابلي. وقرأت وأنا في الجامعة سخرية وديع الصافي من أغاني الراي: "لا رأي فيها".

في تلك الفترة كان صعود الشاب خالد مربكا لبعض رموز الحرس القديم. نجاح عدوية والشاب خالد ومحمد منير أمدّ آخرين بالثقة، فصنعوا بصماتهم بجهودهم الخاصة، بعيدا عن المؤسسات. حميد الشاعري وعمرو دياب مثلا، باعتمادهما الإيقاع اللحني الصاخب، والسعي "وراء التأثير الصوتي للكلمة بدلا من السعي وراء الصورة الشعرية". أغنية شبابية تنتمي إلى عصرها، وجذبت مطربات مثل سميرة سعيد ولطيفة وأصالة، بعد استقرارهن بمصر. أما كاظم الساهر فكان ظاهرة في التسعينيات. وتمنيت لو أن المؤلفة أشارت إلى تجربة "ذكرى" التونسية، كصوت فارق لم تسعفه الظروف. لو نجحت الثورة لأعيد التحقيق في موتها التراجيدي الذي قد لا يخلو من جريمة سياسية كاملة.

أعود إلى بداية المقال، إلى ما كان تفاؤلا بانتهاء استحواذ مركزية السلطة والمال على صناعة الأغنية. أسهمت الثورة الكونية للإنترنت في إطلاق فرق مستقلة منها: وسط البلد، كايروكي، بلاك تيما، مسار إجباري، مشروع ليلى، كلنا سوا، كاميليا جبران وفرقة صابرين، دلال أبو آمنة وفرقة يا ستي. في الفضاء الإلكتروني تتوارى الرقابة، وتتسع الذائقة لأنماط تشمل إعادة تقديم التراث، والأغاني المناطقية، واليومي الحسي الخشن، وصنفت "المهرجانات عالمياً كصوت مصري ضمن الأنواع الموسيقية الشعبية الرائجة مثل الراي والهيب هوب... تظل فجة وشجاعة واستفزازية". تصدرت الأغنية، وتراجع الألبوم، وغابت السيطرة، ويستطيع ناشط موسيقي، باحتيالات إلكترونية، "افتعال معارك" وشائعات، فينفرد بالقمة... قمة الإحصاءات الرقمية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image