شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
بورتريهات الشعراوي... رسوم كاريكاتيرية للمكايدة

بورتريهات الشعراوي... رسوم كاريكاتيرية للمكايدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 2 مارس 202305:05 م

في امتحان الإبداع، والثقافة عموماً، هناك دائماً سؤال صعب يفرض ذاته، عن موقع الطرح الإنساني الناعم٫ الذي قد يوصف بأنه رائد ورائع ومدهش، بين الإنتاج والاستهلاك، بين القيادة والتبعية، بين الفعل وردّ الفعل، بين الاستقلالية والوصاية. ويبدو أنه ليس سهلًا لدينا التخلص من موروثات صورة المثقف التابع٫ سواءً لسلطة أو لمُعارَضَة أو لفكرة٫ أو حتى لقضية، والمبدع الأجير، والأديب المرفوع إلى فضاءات الإعجاب والثناء والحظوة بأجنحة إضافية اصطناعية، من خارج حقول الأدب الصافي، وخارج المعايير الفنية المجردة.

في ذروة عبقرية المتنبي الإبداعية والفلسفية مثلاً، لم يكن ممكناً مقاربته كحالة ثقافية استثنائية مؤثرة في عصره بمعزل عن فكرة محورية هي "شعرية البلاط" أو السلطة الرسمية آنذاك. وفي أوج ازدهار تجربة محمود درويش مثلاً بكل خصوبتها ووهجها وانزياحاتها وتجلياتها التجديدية وامتدادها بمستويات تحقُّق وانتشار غير مسبوقة، هناك عنوان عريض وإشارة مفتاحية إلى "شعرية القضية"، التي قد تحيل في بعض مفاهيمها ومستوياتها إلى السلطة الشعبية، كما قد تحيل إلى السلطة الفلسطينية أيضاً في بعض وجوهها ومساحاتها الأخرى.

وعلى أية حال، فلقد كانت هذه اللحظات الزمانية السابقة أوفر حظاً وأسعد حالاً بكثير من لحظتنا الراهنة، إذ كانت الثقافة حريصة على ألا تفقد معدنها الثقافي النادر النفيس كرهان أوّل، بمعنى امتلاكها أدواتها الفطرية والاشتغالية الكاملة كغاية وضرورة، وتمكنها الاحترافي من إتمام منجزها بوعي فائق وآليات متطورة متجاوزة. وكانت المشكلة الأساسية تتعلق بالمفهوم والدور والتوظيف للثقافة وللمثقف، وهي مشكلة تحولت إلى أزمة في العهد الناصري في مصر على سبيل المثال، إذ بلغ ترويض الثقافة وتوجيهها والتحكم فيها فوقياً الحدَّ الذي سُمّيت فيه المؤسسة الثقافية الرسمية "وزارة الثقافة والإرشاد القومي"، وذاب الحد الفاصل بين صوت الإبداع وجرس التنبيه.

تصدير معرض "الملتقى العربي لرواد الكاريكاتير" الآن على هذا النحو الطنّان المبهرج، فهو في إطار التبعية ورد الفعل وركوب الترند والمكايدة وتملق فئات  من الجماهير

ومن هذا الميراث، وبعد سنوات طويلة من التجريف، مورست فيها كل أشكال الضغوط المركزية لطمس فكرة المثقف المستقل، الفرد، الحر، غير المدجّن، بقمعه أو تخوينه أو تلويثه أو إقصائه أو تهميشه، تكرّست تماماً على الساحة تلك الصورة الأحادية البائسة للمثقف التابع، البوق، وثقافة التبعية، الدعائية.

ولم يعد الأمر في هذه المرة يتعلق فقط بالمفهوم والدور والتوظيف، فتحتَ مظلة المرحلة الببغائية صار من الممكن أيضاً، بل لزاماً في بعض الأحوال، أن يتخلى الإبداع عن إبداعيته، والثقافة عن ثقافيتها، بمعنى الاكتفاء بإجادة الانحناء، وأدبيات التبعية أو أبجدياتها الانصياعية والاستغلالية المتلونة، لصالح الفوقيات المهيمنة والمتحكمة.

وهكذا، تفقد الثقافة تماماً ما بقي لها من بصيص أمل في صياغة القوة الناعمة وتحريكها، لأنها ذاتها تتحرك كآلة أو كلعبة في يد غيرها. وتتحوّل هذه الثقافة إلى بؤرة نشطة للمراوغة والنفاق، نفاق الأنظمة السلطوية، وكذلك نفاق المعارضة والصوت الجماهيري الجمعي في ظروف وأحداث معينة، وأيضاً نفاق السوشال ميديا وركوب الترند.

ولقد كانت "هوجة" إبداعات الثورة مثلاً٫ منذ سنوات قليلة٫ تجسيداً واضحاً لهذه المزايدات الخطابية الفارغة، التي تتملق أصوات الشارع الغاضبة، وتستحضر هتافات الجماهير وحماسهم، وتتمسح ظاهريًاً بالكتابة، بدون أن تفرز أدباً يُعتدّ به في الأساس. ومع ذلك، فقد هللت لها المؤسسات المرتعشة، من أجل امتصاص المحتجين واحتواء الساخطين وادّعاء التضامن معهم.

وذلك ظهر أيضاً في إصدارات سلسلة "إبداعات الثورة" التي نشرتها وزارة الثقافة المصرية في أعقاب ثورة كانون الثاني/يناير 2011، بأغلفة تحمل صوراً فوتوغرافية من ميدان التحرير، وكأن وزارة الفساد أرادت آنذاك أن تبرئ ذمتها الخربة، وتطل فجأة بوجهها الثوري النضالي منحازة إلى المنتفضين!

وإلى جانب عورات التزلف والممالقة والمزايدة، فإن ثقافة التبعية والفقاقيع الفارغة والطفو فوق سطح الأحداث المثيرة، قد ترتكز أيضاً في لعبة الترند وصراع الجبهات الفاعلة المُحرِّكة على أسلوب المكايدة. ومما يُحسب على هذه المكايدة، ذلك الإعلان الأخير منذ أيام، من جانب "الملتقى العربي لرواد الكاريكاتير"، عن تنظيم معرض فني بعنوان "الشعراوي والوحدة الوطنية"، يضم محورين، هما: بورتريهات للشيخ الشعراوي كلاسيكية أو كاريكاتيرية؛ مع المحافظة على قيمة فضيلة الإمام ومكانته، وموضوع الوحدة الوطنية، بحدّ صيغة الإعلان الرسمي للملتقى.

وقد وجه الإعلان رسالة إلى الأزهر لحثه على أن يكون تنظيم المعرض تحت رعايته "تقديراً للشيخ الشعراوي لدوره العظيم في بيان سماحة الإسلام ووسطيته والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، فالدين لله والوطن للجميع، ولا يزال الشيخ ملء السمع والبصر في الفضائيات والإذاعات العربية، وسيظل حيًّا بعلمه ومؤلفاته وأحاديثه التليفزيونية والإذاعية".

وبالنظر إلى توقيت تنظيم هذا المعرض، وملابساته، وحيثياته، فهو بالتأكيد لا يعدو أن يكون رد فعل لما جرى على الساحة المصرية أخيرًا من تصدّي جماعة المثقفين لعرض مسرحية عن سيرة الشيخ الشعراوي (1911-1998) على مسرح الدولة في مصر، رغم أنها كانت قيد الانطلاق بالفعل.

وجه الإعلان رسالة إلى الأزهر لحثه على أن يكون تنظيم المعرض تحت رعايته "تقديراً للشيخ الشعراوي لدوره العظيم في بيان سماحة الإسلام ووسطيته والتآخي بين المسلمين والمسيحيين

وعلى الرغم من أن أحداً لم يطالع مضمونها. لكن كتائب المثقفين قد لجأت بدورها إلى ممارسة العنف الفكري والصوت العالي لإقصاء الآخر بحجة رجعيته وهشاشته، وعملت على الضغط على المسؤولين في مصر لحجب عمل فني سعى إلى نيل أحقيته في أن يولد، بدلاً من السماح له بالظهور الحر، ومقارعة حجته بالحجة، والتصدي له بالتحليل والنقد الموضوعي، وفق ما كان يقتضيه منطق هؤلاء المثقفين أنفسهم وموقفهم المعلن إزاء حرية الفكر والإبداع، ورفضهم الحجب والقمع والمصادرة والنفي والإقصاء كمبدأ عام، مثلما يدّعون في معاركهم تحت مظلة التنوير والتعددية.

لو أن تنظيم معرض الكاريكاتير والرسوم عن الشعراوي وشخصيته جاء في ظروف أخرى طبيعية، وقبل أزمة المسرحية الموقوفة، لكان يُمكن اعتباره فعلاً، بشكل ما، يملك منطقاً ما لإمكانية الوجود، لاعتبارات فنية، مثلما وجد البعض منطقاً للدفاع عن حق المسرحية في الظهور، بغض النظر عما ستنطوي عليه من مضمون يحتمل الجدل والاختلاف.

أما تصدير معرض "الملتقى العربي لرواد الكاريكاتير" الآن على هذا النحو الطنّان المبهرج، فهو في إطار التبعية ورد الفعل وركوب الترند والمكايدة وتملق فئات أخرى من الجماهير أحزنها، ربما لسبب غير فني، حرمانها من مطالعة شخصية الشعراوي على المسرح، وسيسعدها بالتأكيد مطالعة بورتريهاته في المعرض. ويبقى السؤال: أين "الثقافة" بمعناها الحقيقي الجاد، الزاخم والمتنوع، في هذا الذي يحدث كله، من ألفه إلى يائه؟ لا أحد يدري!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image