تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.
غالباً ما أنفر من طفولتي؛ أشعر دوماً أن جسراً مهشماً يحول دون وصولي إليها وتفقد تفاصيلها، مشاهدها وذكرياتها. كانت تلك الطفولة في مطلع التسعينات في الجزائر، ومضة سريعة جداً في بلاد غارقة في تحولات استثنائية، وهي تحاول أن تقطع مع عقود من سلطة الحزب الواحد، وأن تؤسس لعهد تعددي ديمقراطي خالِ من الأبويات الثورية المهترئة، والمصابة بداء التحلل والشيخوخة الإيديولوجية الذي أصاب مثيلاتها في العالم.
طفولة مضطربة وغير مدركة لطبيعة الصخب الوطني آنذاك، بين تيار أصولي عدمي اكتسح الانتخابات والمجالس البلدية، وبين نظامٍ عجِزَ، تحت الصدمة، عن التعامل مع مستجدٍّ أفرزته ديمقراطية عرجاء استغلها الإسلاميون للقفز إلى السلطة والاستيلاء عليها.
كرتون القرية والمدرسة
كنتُ طفلاً في منطقة ريفية معزولة، تعتاش على النشاط الزراعي والرعوي، تلقى معظم ساكنيها تعليماً مسجدياً محدوداً، مع قلة تُعد على الأصابع وصَلت إلى المرحلة الثانوية. لم يكن هناك غير المدرسة والمسجد والوادي، وأحياناً السوق الأسبوعي، لرؤية العالم واكتشاف الحياة خارج المنزل، فضلاً عن التلفاز والراديو وجرائد الوالد.
غالباً ما أنفر من طفولتي؛ أشعر دوماً أن جسراً مهشماً يحول دون وصولي إليها وتفقد تفاصيلها، مشاهدها وذكرياتها. كانت تلك الطفولة في مطلع التسعينات في الجزائر، ومضةً سريعة جداً في بلاد غارقة في تحولات استثنائية
لم تخلق إلزامية التعليم ومجانيته رغبةً وتعلقاً بالدراسة لديّ، وكانت المدرسة نفياً قسرياً من المنزل ودفئه، وحرماناً من الحرية المطلقة في اللعب، أو هكذا تخيلتُ في بداية الأمر. أن تجلس بجوار أطفال لا تعرف معظمهم، ويُقابلك معلّم جافّ وحاد الطباع، يجعل التأقلم مع الدراسة بطيئاً جداً، ويبعث على التمرد والعودة إلى حرية الطفولة اللامحدودة.
كنا نخرج مساءً من مدرسة عجوز ملاصقة لفناء منزلنا، تعود إلى الحقبة الإستعمارية، في نفس الفترة التي كان التلفزيون العمومي يبث رسوماً متحركة. أتذكر حتى الآن أسماء بعض الشخصيات وأصواتهم: الكابتن ماجد، سنان، دكتور باغو، ماوكلي، وغيرها. وكنا نعود من المدرسة برأسٍ ثقيل ومشاعر سلبية، وتحت وطأة المزاج العام المكهرب بالسياسة وبنذر حرب أهلية تقف على الأبواب، لكن كل هذا كان يتبدد لحظة الجلوس قبالة تلفاز عتيق بالأبيض والأسود، وانتظار موعد بث أفلام كرتون نعيش مع أبطالها حلماً يتجاوز واقعنا الكئيب.
لم تكن الرسوم المتحركة فسحة هروب نفسي فقط، وإنما محاولة للتماهي مع قصصها البريئة بـ"مكر" الطفولة اللذيذة وعوالمها الإنسانية، وهي تنشد الخير والفضيلة وتثري الكون بأحلام الصغار في تلوين الحياة بالسعادة.
ما تزال شارة كابتن ماجد أو سنان في مخيلتي، أسمعها بصوت مرتفع من بيت الجيران، وليأتي ذلك الشعور الجميل بأن الحياة أكبر من أخبار الموت والحواجز الأمنية، وقوافل الهاربين وهم يتدفقون من الجبال برفقة مواشيهم، مذعورين من واقع قاتم نسف صفاء حياتهم .
في ذروة الصراع الدموي بين السلطة والجماعات الإسلامية، كادت طفولتنا أن تتبدد. كان العمر يمضي ببطء، والهلع يحفر القلب، وصور القتلى وأخبار المجازر المروعة واختطاف الفتيات. كبرنا فجأة على واقع جديد ملوث بالدماء والجثث والدموع، والمساءات المكتظة بالخوف من قدوم مجانين الرب، مدججين بالأسفار والسواطير والبنادق التقليدية وبأشكالهم الكريهة، لإقامة حفلة موت أخرى تُحز فيها الرقاب وتهشم فيها الجماجم بالفؤوس وتنهب البيوت. تكرر هذا الواقع الفظيع لسنوات، وحلّت معه لعنة التحريم وبرقعة المرأة وفرض أسلمة قروسطية رهيبة، قبل مجيء داعش والقاعدة بعقود.
الحرب الأهلية والرسوم المتحركة
همجية مريعة جعلت الطفولة محل شك. أُغلقت مُعظم المدارس وتعرض عدد هائل من المعلمين لعمليات تصفية ممنهجة، جعلت من نجا منهم يتراجع عن مهنة التدريس ويلوذ بنفسه بعيداً. أما أجهزة التلفاز والراديو وأشرطة الكاسيت والكتب المشكوك في تعرضها للدين، فقد طالتها يد التحريم والمصادرة، وخُصصت لها "حفلات حرقٍ" ضخمة في بعض المناطق.
مدينون نحن، أجيال عشرية الدماء والدموع الجزائرية، لأفلام الكرتون، لأنها أنقذت إنسانيتنا المستباحة وأعادت لنا بعضاً من طفولتنا المختطفة، وعوضت أحاديثنا عن الإرهاب وعمليات التهجير وأسماء من رحلوا وذبحوا واختطفوا.
تحولت الحياة إلى حفرة عميقة مظلمة، واختفى الفضول وأُلجم اللسان الطفولي بالوعيد من الإرهاب المتربص خلف الجبل. عُوِّض كل هذا بصمت طويل يحرث النفس على مهل ويعمق الهواجس وُيوزع عتابه على أطراف الحرب، سلطة وإسلاميين وتجار حروب وعالمٍ غير مبالٍ بعذابات طفولة زُج بها في محرقة مجنونة.
لم يبال والدي كثيراً بدعاوى مليشيات الموت ونيّتها تحطيم أجهزة التلفاز وكل ما له علاقة بـ "الكفرة"، كما يسميهم سدنة العقيدة، واكتفى بردم بعض أشرطة الكاسيت وبإخفاء كتب دينية. أبقى على جهاز الراديو، نافذته الوحيدة لرصد الأخبار من إذاعتي لندن ومونت كارلو، كما بقي التلفاز أيضاً، لكنه حُجب بستار أبيض سميك تفادياً للزيارات الليلية لعسس الأخلاق واستهدافهم منزلنا، كما حصل مع جيراننا.
وحده ذلك التلفاز الهرم، بشاشته الملبدة، سحبنا إلى عوالم أخرى خالية من برك الدم ودخان البنادق. نصطف أمامه منصتين مثل حفظة القرٱن في حضرة الإمام، وبانتباه سرقته الأيام الكالحة، نتابع أفلام الكارتون ونكتشف لغة أخرى خالية من مفردات جز الأعناق وتطبيق الحدود. يأتي أبناء عمومتي وبعض أطفال الجيران إلى بيتنا بعد أن غادروا بيوتهم هرباً، وسكنوا غير بعيد عنا.
في غرفة الصالون التي أصبحت فسحتنا الوحيدة الهادئة، بعد أن حُرمنا من زيارة الوادي ولعب كرة القدم في الحقول.. أطفال دون العاشرة، لغتهم الفتية تلوثت باكراً بحشد هائل من أدوات القتل وثنائية الحلال والحرام، ومجابهة عالمٍ سرق ألعابهم واستبدلها ببنادق صنعت من قضبان نحاسية، تُعلق على أكتافهم النحيلة لتُوجه صوب مخلوقات مغمسة برماد التاريخ، يتدلون مساءً من الجبال مثل كرات اللهب، لجعل ليالينا حفلة رعب أخرى ينقطع فيها التيار الكهربائي ويحل الصمت الثقيل، وهو يحيل المكان إلى كتلة صماء توقظ حاسة السمع وتصبح أبسط حركة في الجوار مقترنة بقدوم الوحش.
وحده ذلك التلفاز الهرم، بشاشته الملبدة، سحبنا إلى عوالم أخرى خالية من برك الدم ودخان البنادق. نصطف أمامه منصتين مثل حفظة القرٱن في حضرة الإمام. نتابع أفلام الكارتون ونكتشف لغة أخرى خالية من مفردات جز الأعناق وتطبيق الحدود
مدينون نحن، أجيال عشرية الدماء والدموع الجزائرية، لأفلام الكرتون، لأنها أنقذت إنسانيتنا المستباحة وأعادت لنا بعضاً من طفولتنا المختطفة، وعوضت أحاديثنا عن الإرهاب وعمليات التهجير وأسماء من رحلوا وذبحوا واختطفوا، بالحديث عن حلقة الأمس من سنان، وبالتطلع إلى الحلقة القادمة من الكابتن ماجد، ومغامرات فتى الفايكنيغ فيكي. نسارع الخطى لنلحق بكرتون اليوم ونحظى بومضة بهجة، حيث شارة البداية ولحنها الذي يمنح الأمل، فنستعيد البراءة ونتماهى مع أطفال الشاشة. ننتمي لأحلامهم التي تشبه أحلاماً مماثلة دُفنت في المهد بضربة سيف.
ألتفت اليوم بحذر إلى تلك الحقبة المظلمة، بعد مرور عقود عليها، بكل بشاعتها ومأساويتها، لكنني أجد نفسي ممتناً كثيراً لأشياء قليلة، بفضلها نجوت من التوحش وتجاوزت فترة عصيبة جداً. ممتنّ لرسوم متحركة دفنت هلعي واستبدلت رُهاب الليل بحكايات من ورق، يتحرك أبطالها داخل شاشة تلفاز مهدد بالتهشيم والدفن. تلفاز قُدّر له أن يكون شرفتنا الوحيدة على عالم لا مكان فيه لصراخ الأطفال ليلاً وهم يبحثون بين الأحراش عن ذويهم الهاربين..
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 11 دقيقةtester.whitebeard@gmail.com
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...