شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
قراءة تشبه

قراءة تشبه "تعاطي موادّ ممنوعة"... مشاعر الكتاب "الحرام"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 25 فبراير 202304:42 م

هي كاتبة تتوق إلى الانعتاق، تغريك لتقرأ التفاصيل، تجدها في الطرق المحظورة ممسكة بمشعل الحرية بينما مدن الزيف تتساقط خلفها، وعلى معصمها آثار قيد حطمته ثورتها.

عراهم صدقها فخافوها.

تعثرت، جرحت، فقدت صوتها، اعتقدوا أنها انسحبت، لكنها لم تخسر معركتها.

أتذكر ليلى بعلبكي، وأنا أقرأ روايتها الأولى وهي تحبو نحو الخامسة والستين عاماً. لقد اختلف الزمن وتغير مقياس الجرأة والحكم الأخلاقي على العمل الإبداعي. كتبت ليلى نفسها، وعبرت عن جيلها. لا يمكن أن أتخيل أن أحدهم أخفى صوت بعلبكي في كيس أسود في مدينة كبيروت، أو حرق كلماتها وأعدمها وهي التي كانت تدعو للحياة.

كيف يمكن أن يحدث هذا في تلك المدينة التي احتضنت أدونيس، ومحمد الماغوط، وعبدالله القصيمي وسواهم من الفارين نحو الحرية.

شيء ما انكسر

ليلى بعلبكي، وصفتها الإذاعية اللبنانية، أمل المصري، التي عاصرت تلك اللحظات، في مقابلة أجريتها معها ذات يوم بـ"صرخة جريئة انقطع صداها". هزت صاحبة رواية "أنا أحيا" بحروفها الصادمة والجريئة المجتمع اللبناني في ستينات القرن الماضي. تلك الرواية أجلستها على كرسي الاستجواب في بلد الحريات لتكون السابقة الأولى من نوعها في القضاء اللبناني. فقد تمت مصادرة مجموعتها القصصية "سفينة حنان إلى القمر" واحتجزت الشرطة “الأخلاقية" الكاتبة بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة.

وقف مثقفو لبنان إلى جانب الكاتبة الشابة آنذاك، مدافعين عن حرية التعبير والإبداع. والمثير للتعجب أن إحدى الهيئات النسائية طالبت بحرق كتابها.

رُسم على غلافه صورة شابين غريبي الملامح، يتبادلان القبل، دق قلبي بسرعة، شيء ما تحرك بعنف في أعماقي الساكنة، عرفت لاحقاً أنه مارد الغريزة، أخفيت الكتيب بالكيس، وتظاهرت أمام العائلة أنني أتفحص بقية الكتب، ثم تسللت إلى مكان قصي والتهمت القصة، كانت تزخر بكل ما هو حرام وممنوع وعيب"

لاحقاً صدر حكم البراءة وعاد مؤلفها إلى المكتبات، لكن هناك شيئاً ما انكسر وانطفأ، اختفت ليلى وراحت تراقب بيروت من بعيد بعدما أسمعت العالم صرختها.

ذكرت غادة السمان في كتابها "حكايات حب عابرة": "أتمنى أن يكون صمت ليلى بعلبكي خلاقاً لا صمت الرماد". وكتب عنها أنيس منصور في جريدة الشرق الأوسط بعد عدة سنوات: "بصقت على القرن العشرين، ولم تسمع التصفيق الحار الذي حظيت به في كل مكان، وأن روايتها الأولى كانت خلاصة ما لديها، فقالت كلمتها واختفت".

ويعترف منصور أن الناس في ذلك الوقت "رأوا في كتابتها خروجاً وأن الخروج هو بداية الحرية، لأن للحرية أنياباً وأظافر، ولأن فلسفة المرأة الجديدة هي المخالب والأنياب التي تمزق بها ملابس الرجل وظلمه وخداعه، وهذا هو الجديد!".

فتح الحظر وضجيجه آنذاك أبواباً للحديث عن الكتب المحرمة والممنوعة مجتمعياً وسياسياً.

الممنوع يؤثر في الدماغ

شهدت تونس عقوداً من الرقابة والمنع قبل شرارة الربيع العربي التي انطلقت منها، وظل صدى تلك الإجراءات حتى الآن، يقول لرصيف22 الروائي التونسي الشاب، محمد الخزامي 27 عاماً، إن فكرة منع الكتب تتصل بقيمتها وبرسائلها الخفية إلى القارئ.

ويضيف: "في روايتي "قطاف الخريف" تعرضت إلى فكرة منع نشر الكتب لأسباب مختلفة تصل إلى حدّ الاعتقال لمن يمسك كتاباً ممنوعاً، ومطاردة القراء لمجرد أنهم «يخفون» كتاباً ما في حوزتهم".

ولأنّ "الممنوع مرغوب" كما يقول ابن خلدون، طالع خزامي كتباً منعت من النشر لفترة، منها كتاب "الخبز الحافي" لمحمد شكري الذي استعرض مشاهد جريئة، عايشها الكاتب في طفولته ونقلها في روايته تلك، لتثير فيه حبه الاستطلاعي، وتساؤلات حول "السبب الحقيقي" للحظر.

يقول الخزامي: "أن تقرأ رواية ممنوعة أمر شبيه بتعاطيك مادة ممنوعة، ذلك أن في كلتيهما تأثيراً على «الدماغ»! وحقاً شعرت بمتعة وأنا أطالع رواية محظورة، وكل ما جاء فيها يدعوني إلى التأمل في الأسباب المانعة: هل تكمن فعلاً في الجانب الأخلاقي أم في الجانب السياسي؟ ولماذا تسبب رواية ما حالة من الاستنفار فتمنع وتجمع نسخها من المكتبات؟

يتخيل الخزامي رد فعله المتوقع في حال منع كتابه: "إن منعت روايتي من النشر سأحزن وسأسعد في آن واحد. سأخاف على قرائي الذين قد يتورطون في مسؤولية تسريبها بشكل ما. فقد كتبت على متن صفحات الرواية: الكاتب مسؤول اليوم عن حماية قارئه لأنه من سيحمي كتاباته غداً".

"الحصار" سبب بيع المحظورات

يسترجع نجم الدراجي حال بغداد في مطلع شبابه بمنتصف التسعينيات، إذ كانت قابعة تحت حصار خارجي وآخر داخلي: "كنت أتجول بين الكتب العتيقة في شارع المتنبي ببغداد، وهو الشارع الأول في عالم الكتب، لمحت غلاف رواية " شرق المتوسط " للكاتب عبد الرحمن منيف، وكانت كتبه ممنوعة في العراق ، فقررت بلا وعي أن أشتريه بسرعة البرق، وأخبئه تحت قميصي خوفاً عليه، وعلى نفسي من سطوة العبث السياسي، وكانت هذه المغامرة نحو المحظور متصلة جذريا بالتمرد".

"هذه الكتب لم تجد طريقها إلى البيع لولا المجاعة"

أحس الدراجي بالدفء يتسرب إلى قلبه من الكتاب الممنوع، ثم عاد يفكر في البائع، وقال لنفسه: "على الأرجح هو لا يعرف شيئاً عن المسموح والممنوع في عالم السياسة".

ويتذكر الدراجي جيداً ملامح ذلك البائع النحيل: "خُيّل إلي أنه كان يحاول الإسراع في بيع ما تبقى من الكتب لكي يشتري طعاماً لعائلته، فالزمن حينها قاسٍ على أغلبية الشعب العراقي، أيام الحصار الاقتصادي، وهذه الكتب لم تجد طريقها إلى البيع لولا المجاعة التي سمحت بفوضى انهيار المكتبات، وهناك العديد من الكتب كنا نتداولها سراً، وأغلبها ليست طبعات أصلية، إذ كانت تستنسخ في مطابع بعيدة عن أنظار رقابة السلطات".

لا تزال ذاكرة الدراجي ممسكة بتفاصيل ردود مشاعره حيال الجمل التي قرأها، والرؤيا التي لمسها في رواية "شرق المتوسط"، يقول: "إنها تحاكي الواقع الممنوع والمسموح بأدق التعابير وأصدق المشاعر، وأنها تعرفنا بالفارق الكبير بين مدن شرق المتوسط ومدينة باريس".

ويعدد بضع اقتباسات من الرواية: "في باريس رأيت أموراً أعجب، الأحزاب لها مراكز مكتوبة عليها الأسماء بوضوح، يدخلها الناس دون خوف، يدخلون دون أن ينظروا وراءهم، ويتكلمون في الشارع، وبصوت عالٍ". و "آه يا أهل باريس لو جئتم بكتبكم الى شاطئ المتوسط الشرقي، لقضيتم حياتكم كلها في السجون، سيأكلكم الندم، سوف تكفرون بكل شيء، وتدفعون ثمن كلمات حياتكم كلها في السجون الصحراوية".

الذكرى الأولى لروايات "العيب"

تتحكم العائلات أيضاً بنوعية المحتوى المسموح لأبنائها وبناتها، في عمر الطفولة والمراهقة. وتأتي أحكام "العيب" و"الحرام" كصورة مصغرة للنظم السياسية المتحكمة في المباح والمحظور، سياساً ودينياً واجتماعياً.

عاشت شادية الحاج، اسم مستعار، وهي مدرّسة تنتمي إلى بيئة محافظة في إحدى قرى حوران بالجنوب السوري، لها حكاية مختلفة مع نوع آخر من الكتب تتذكرها وهي على مشارف عقدها الرابع: "في عام 1995 كنت في الحادية عشرة من عمري، أحببت مطالعة الكتب، قادتني كثرة السؤال عن المكتبات إلى صبية تكبرني بحوالى خمسة عشر عاماً، صديقة لأختي، طلبت منها أن تزودني بمجموعة كتب، أحضرتها لي في زيارتها التالية لبيتنا".

أن تقرأ رواية ممنوعة أمر شبيه بتعاطيك مادة ممنوعة، ذلك أن في كلتيهما تأثيراً على «الدماغ»! وحقاً شعرت بمتعة وأنا أطالع رواية محظورة

جلست شادية تتفحص زوادتها، شد انتباهها كتيب صغير، تقول عنه: "رُسم على غلافه صورة شابين غريبي الملامح، يتبادلان القبل، دق قلبي بسرعة، شيء ما تحرك بعنف في أعماقي الساكنة، عرفت لاحقاً أنه مارد الغريزة، أخفيت الكتيب بالكيس، وتظاهرت أمام العائلة أنني أتفحص بقية الكتب، ثم تسللت إلى مكان قصي والتهمت القصة، كانت تزخر بكل ما هو حرام وممنوع وعيب".

ثم تابعت شادية قراءة بقية الكتب، ولكن تلك القصة ظلت قريبة منها، تخفيها أحياناً بين دفتي كتاب آخر، وتعود لمطالعة صفحاتها، تحكي: "بينما أختبر مشاعر الإثارة التي تنتابني كلما قرأت الـ "عيب" كانت تجربة معرفة عالم الكبار مثيرة فعلاً، رغبت حقاَ بقراءة المزيد من هذه القصة، لم أكن أعرف حقاً ما الذي أريده، معرفة المخفي من ذلك العالم أم تكرار تلك المشاعر المثيرة والغريبة. لم أحصل على المزيد من "روايات عبير" إلا في وقت لاحق، وقد قرأتها كلها بالخفاء، ولم أجرؤ على إخبار أحد بما أقرأ أو حتى بما أشعر".

"أخبرتها أنني مثلها متورطة بقراءة نفس الرواية"

ظلت شادية على هذه الحال في البيت والمدرسة، حتى انتبهت لإحدى زميلاتها وهي تخفي شيئاً، وتطلع صديقاتها عليه في المدرسة، اكتشفت أنها إحدى روايات عبير، تقول: "أخبرتها أنني مثلها متورطة بقراءة نفس الرواية حتى أنني قرأت الكثير منها، كانت هذه الحادثة سبباً في صداقتنا لاحقاً".

عرفت شادية فيما بعد أن صديقتها حصلت على الرواية من غرفة نوم أمها، وأن والدتها تخفي العديد من الروايات الفاضحة في درج مخفي في الغرفة.

أخبرت شادية صديقتها بأنها تقرأ العديد من روايات "العيب"، فطلبت إعارتها منها، وبعد عدة أيام طالبتها بأن ترد إحدى الروايات لتجدها معارة لزميلة ثالثة، فجن جنون شادية، إذ كيف تأمن صديقتها للغريبة، خاصة أن الفتاة الثالثة تنتمي إلى عائلة متدينة.

تختم شادية: "اكتشفنا أن الفتاة كانت أشد منا عطشاً لقراءة هذا النوع من الروايات. لاحقاً كنا ننزوي بمكان في أقصى الباحة، ونتحدث ثلاثتنا عما قرأناه".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard