هأنذا على حافة العقد السادس، وما هي إلا أسابيع قليلة، وأضع قدمي في بركة السنوات الستين، فأحدث بعض الدوائر التي تغاضيت عنها في السنوات السابقة، والآن يمكنني أن أجيء على ذكرها دون تحفظات.
لا أريد أن أعدد أي إخفاقات أو إنجازات، فكلنا أو معظمنا قد حصل على أشياء من هذه أو من تلك، بغض النظر إن كانت كثيرة أو قليلة، ولكننا حصلنا عليها، وأكاد أجزم أن من حصل على القليل ربما لن يكتشف قيمة وأهمية ذلك إلا مع التقدم في العمر.
ليست موعظة، ولكنها محاولة لاستكشاف هذا اللغز الذي سار بصاحبه على أرضية هذا الكوكب، وتنقل معه في أكثر من بلد وأكثر من مكان، ومع كل رحلة تخلخل شيء فيه وطار، فقد يزيد الجسد الإنساني من وحشة صاحبه حين يلتفت إليه ليحصي خسائره.
بالطبع ما من أرباح هنا، فقد ينقص منه شيء، ولكنه لن يحصل على قطع غيار أفضل مما ملك من قبل، مهما كانت نوعية القطعة التي منحت له، بغض النظر عن المكان الذي عاش فيه، وتمترس فيه ليحمي أعضاءه من الخدش والتلف والنكران. وهذه الأخيرة مهمة للغاية، فقد يحدث أن ينكر شخص ما عضواً مهماً في تكوينه الجسدي، وتقوم الدنيا بسببه ولا تقعد، وتشتعل حروب ونيران لا تنطفئ من حوله بسهولة.
ليست موعظة، ولكنها محاولة لاستكشاف هذا اللغز الذي سار بصاحبه على أرضية هذا الكوكب، وتنقل معه في أكثر من بلد وأكثر من مكان، ومع كل رحلة تخلخل شيء فيه وطار
كان جدي عباس (لأمي)، الشاهد الأول على أول حادثة تحطم في حياتي: لقد كسرت ذراعي اليسرى في مباراة للفتيان على أطراف مخيم اليرموك، فقد كانت مزنرة ببساتين الإقطاعيين "المهانين" شكلياً من نظام البعث الاشتراكي، وكذا الأقنية الرومانية التي تلتف عليها من جهاتها الأربع، قبل أن يفلت الجراد الريعي العقاري القيحي، فيأتي عليها بالكامل، ويصيب الشجر والماء في مقتل لم نكن نفهم له سبباً ونحن صغار، وعندما كبرنا عرفنا –للتو- أو فهمنا أن العين العقارية الحمراء كانت مفتوحة على هذه البساتين -وبالطبع مخيم اليرموك كان ينتمي إليها جغرافياً- وأنها تقدح شرراً مخفياً لأنه (المخيم) يمثل عقدة الربط بين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دول الطوق، وأن تفكيكه وتفريغه من محتواه وربطه إدارياً بأمانة العاصمة دمشق آتٍ لا محالة.
فمع كل مناوشة بين منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السوري في لبنان على وجه الخصوص حول القرار الفلسطيني المستقل كان مخيم اليرموك ينتفض، و"يأكل قتلة" في المحصلة، وتطاله "التهديدات" سراً أو علناً بأنه ليس أغلى من مدينة حماة على قلب النظام.
لم أكن قد استوعبت لعب الكبار من حولي، فبدلاً من نقلي إلى مستشفى المجتهد الحكومي الواقع على تخوم المخيم لتجبيرها، اقتادني جدي عباس، وهو يتكئ على عكازه إلى المجبّر الحاج ذيب العمشا. كانا صديقين من أيام طيرة حيفا قبل اللجوء، وكان واضحاً أن الاثنين يقضيان آخر أيامهما معاً، فلا جدي عاش طويلاً بعد الحادثة، ولا طال العمر كثيراً بالحاج العمشا للبقاء ضمن أسوار الدنيا الفانية، وكان أن حزم أغراضه ولحق به دون إبطاء.
لم يتسن لي أن أنسى عكاز جدي أبداً ، وهو يخرسني به وأنا أشاهد الحاج العمشا يبحث بأصابع يده اليمنى المرتجفة عن الكسر في ذراعي.
لقد شعرت بالألم والمحو التدريجي من الوجود، ولا أعتقد أنني نسيت تلك اللحظات الرهيبة التي تلت ترتيب عظمتي ذراعي اليسرى، وحشرها بين أعواد خشبية، ثم تربيطها بشاشة كبيرة منقوعة بصفار البيض. هذا كل ما فعله الحاج العمشا لي، لكنه خلَّف في أعماقي ألماً ما زال يزورني منذ أن كنت في الثالثة عشرة من عمري. ألم قد لا ينقضي أبداً.
سيجيء اليوم الذي نكشف فيه كل نواقصنا، وعوراتنا.
لم يمض وقت طويل على هذه الحادثة حتى أصبت برصاصة من بندقية كلاشينكوف في ركبتي اليسرى على باب معسكر كشفي فلسطيني في ريف دمشق كنت قصدته ظهراً كـ"ترقية عاطفية"، وأنا أعلل نفسي برؤية إحدى فتيات الكشافة التي كانت تروق لي في ثانوية اليرموك للبنات، وكنت في سن السابعة عشرة من عمري. فالتقيت بحارس البوابة الرئيسية الذي كان صديقاً لي، وما إن تبادلنا التحية وأخبار الصبية التي جئت من أجلها حتى بدأنا اللعب بالبندقية الروسية، وفجأة دوَّى صوت عيار ناري كان في "بيت النار"، فأصاب قريباً لي جاء لتحيتي، وما إن بدأنا نصرخ طلباً للنجدة، حتى جاءت سيارة تويوتا لاند كروزر مسرعة من جوف المعسكر لتنقل ابن خالتي الذي انشق فخذه إلى نصفين وبدأ ينزف بكثافة.
كان منظره مريعاً وهم يضعونه في السيارة التي اندفعت مبتعدة، وفي أقل من ثانيتين شعرتُ بألم رهيب في ساقي ونظرت إلى مكانه، فوجدت أن بنطالي كان ممزقاً أيضاً، وثمة دماء تنزف، فصرخت عليهم بأعلى صوتي لينقلوني معهم إلى مستشفى حرستا العسكري، وركضت بخطوات عرجاء ورميت بنفسي إلى جانب قريبي، وقد ربطوا له ساقه بقميص ممزق حتى يمنعوا النزيف الهائل في فخذه.
بقيت سنة على عكاز واحدة، وظل يرافقني شعور قوي بأن الرصاصة ما زالت في ركبتي وسط نفي طبيب العظمية ممتاز كوركلي الذي كان يتولى علاجي، ولم أصدق أن رصاصة واحدة نالت مني ومن قريبي في نفس اللحظة، وأنها لم تستقر في جسد أيّ منَّا، ونالت من شغفي، وقضت على مشاعري نحو تلك الفتاة تماماً.
عرفت الصبيةُ لاحقاً من الحارس أنني جئت من أجلها وأكلتُ "رصاصة " عند الباب، ومضيت مخذولاً من غير رجعة، وقد توقفت عن ممارسة هواية لعب كرة القدم نهائياً، وتغيرت مشيتي نفسها، ولم تعد قدمي اليسرى إلى سابق عهدها أبداً.
هدأت أحوال الجسد أو خمدت ثلاثة عقود تقريباً إلى أن أهدتني كليتي اليسرى ورماً سرطانياً مفزعاً وأنا في مهرجان روتردام للفيلم العربي في هولندا، فعدت ومعي جائزة الصقر الذهبي و"ذاك المرض" الذي نخاف ذكر اسمه، وقام الأطباء في مشفى الشام الجراحي باستئصاله مع لوازمه الوجودية الأخرى: غدة الكظر اليسرى، والحالب الأيسر؛ الأمر الذي ما زلت أتأمله إلى الآن من جميع جوانبه، وبدأت أرى أن العالم قبل "الكانسر" لن يكون كما هو قبله إطلاقاً.
وما إن انفجرت سوريا برمتها في وجه الأسد، وخرجنا من مخيم اليرموك في رحلة لجوء أخرى حتى غادرت إلى بيروت للعيش فيها، واستيقظت في صباح اليوم السابع على شاشة سوداء تغطي عيني اليسرى، ولكن ثمة نقطة ما زال يدخل منها الضوء يجيء من أعلى العين.
في مستشفى أوتيل ديو في العاصمة اللبنانية قال لي الأطباء إن ثمة انفصالاً في الشبكية، وهو بحاجة لتدخل جراحي عاجل حتى لا تضمر العين نفسها وتموت، لكن المبلغ الذي طلبوه (8 آلاف دولار غير تكاليف الإقامة في المستشفى) من أجل إجراء هذا العمل الجراحي كان خيالياً بالنسبة لي، فاضطررت للعودة إلى دمشق لإجراء العملية الجراحية وزرع الفاكوم بأقل من 700 دولار دفعت وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين نصفها.
في دمشق خطر على بالي عصراً أن أجرب الزاوية التي يدخل منها الضوء في عيني اليسرى بهاتفي النقال بعد زيارة الطبيب الجرَّاح في مستشفى العين التخصصي في شارع بغداد، وكنت قد تجاوزت المنعطف الأول عند "أوتيل فور سيزنز"، لأفاجأ بالحاجز "الشرس" أول جسر الرئيس من ناحية قصر الضيافة، وثمة عنصر من الأمن السوري يفتش هويات السيارات العابرة، والآخر يقعي فوق ناقلة جند، ويده على الزناد. كنت أحرك الهاتف النقال لأرى الضوء من زاوية عيني اليسرى "العليا" كما لو أنني أصور شيئاً لقناة الجزيرة القطرية في هذه اللحظات.
ربما عبور العقد السادس يسمح بهذه الاعترافات، فلم يعد هناك من نخفي هذه المصائب عنه، كما أنه لم يعد هناك متسع من الوقت لإخفاء شيء
تجمدت من الرعب. أنزلت يدي ووضعت هاتفي في جيبي وأنا أبحث بعيني عن أي إشارة قد تدل على أنهما قد رأياني، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. سرتُ الهوينى، وقد سرت قشعريرة في جسدي ما زالت تطاردني حتى اليوم: ماذا لو أنهما شاهداني، وأنا أحرك الهاتف النقال كما لو أنني أًصورهما بغية إرسال الفيلم إلى "جهات معادية"، وهل كانا سيصدقانني لو عرفا أنني مخرج سينمائي وعندي أفلام وثائقية وروائية قصيرة؟!
مازلت أرتعد من الخوف حتى هذه اللحظة وأنا أحاول معرفةَ سبب إفصاحي عن كلّ هذه الأعطال في الجانب الأيسر من جسدي. ربما عبور العقد السادس يسمح بهذه الاعترافات، فلم يعد هناك من نخفي هذه المصائب عنه، كما أنه لم يعد هناك متسع من الوقت لإخفاء شيء، فقد تعلمت من الصبية التي أكلت رصاصة عند الباب من أجلها أن لا أخفي مشاعري أبداً، لأنه سيجيء اليوم الذي نكشف فيه كل نواقصنا، وعوراتنا، وأن ثمة حاجة لذلك. هذا ما أفعله الآن في الكتابة المتجددة وثمة شعور غث ومقيت ومقرف يلازمني بأنني يجب أن أنتمي –سياسياً- إلى حزب يميني في السويد شريطة أن يكون معتدلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون