تنتشر في شوارع المدن المصرية سيارات تحمل مكبرات صوت ويخرج منها نداء "نشتري زيت الطعام المستعمل... الكيلو بعشرين جنيهاً". ويخرج هذا الصوت اللافت من عربات "تروسيكل" يقودها شخص، وآخر يجلس في الخلف وبجواره براميل متسخة من خارجها بالزيوت، ليصبح لونها الأزرق مائلاً إلى السواد قليلاً. أصبح هذا النداء معروفاً لدى المصريين، إلى درجة أنه بات مصدراً للتندر والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال منشورات ورسوم "كوميك".
لكن اللافت هو استمرار ارتفاع سعر شراء هذا الزيت المستعمل أسبوعاً بعد آخر، وبالتزامن مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية في عموم مصر. فبعد أن كان الكيلوغرام الواحد يباع بستة جنيهات وصل السعر الآن إلى 20 جنيهاً (قرابة 70 سنتاً)، ما يشكل إغراءً لكثيرين لبيع هذا الزيت بغض النظر عن مصيره وآلية إعادة استخدامه في ما بعد.
تعيش السيدة الخمسينية عبير إبراهيم حسن، هي وزوجها من معاشه التقاعدي البالغ قدره 1،900 جنيه مصري (ما يقارب 65 دولاراً)، لا تكفي لتلبية الطلبات التي يحتاجها المنزل كما السابق، فسعت إلى توفير كل ما يمكنها من نقود، وكان النداء الصادر من تلك السيارة الصغيرة منقذاً لها، لتدبير بضعة جنيهات تساعدها في المصاريف.
كانت تلقي الزيت المستعمل في الصرف الصحي، ولكن أصبحت اليوم تبيعه للعربات الجوالة للاستفادة من النقود.
"1،900 جنيه لا تكفي احتياجات وطلبات المنزل، لذا فإن المبلغ الذي أحصل عليه من بيع الزيت المستعمل يساهم في توفير زجاجة زيت جديدة"، تقول السيدة لرصيف22، وتضيف أنها كانت تلقي الزيت المستعمل في الصرف الصحي، ولكن أصبحت اليوم تبيعه لهذه العربات للاستفادة من النقود.
تواصل عبير: "أعبّئ زجاجات التموين الفارغة بالزيت، وتبلغ أحجامها ما بين 800 مل وأخرى ليتراً كاملاً، ثم أبيعها للسيارات المتجولة. يضع السائق الزجاجات على الميزان، ثم يحاسبني وفق وزنها وبالكيلوغرام، ويفرغ الزجاجات في برميل ويأخذ زجاجات الزيت الفارغة أيضاً". ولا تدرك عبير مثل كثيرين غيرها، مخاطر هذه العملية والتي يمكن أن تعود في نهاية المطاف عليها وعلى معظم المصريين بانعكاسات سلبية خطيرة.
أمراض خطيرة
في شهر أيار/ مايو من العام الفائت، تقدمت نائبة في مجلس النواب المصري بطلب إحاطة موجه إلى رئيس مجلس الوزراء ووزراء الصحة والسكان والتنمية المحلية والتموين والبيئة، في شأن ظاهرة شراء وإعادة تدوير زيوت الطعام المستعملة والأضرار الصحية المترتبة على إعادة استخدامها، مشيرةً إلى أنه "يتم تجميع كميات من الزيوت، وهناك مصانع مجهولة تعيد تدويرها من خلال استخدام مادة تسمى ‘تراب تبييض الزيوت’ أو الإسمنت الهندي، تؤدي إلى تبيض لون الزيت المستعمل وإعادته إلى لونه مرةً أخرى وتحسين خواصه الظاهرية".
وعن خطورة إعادة استخدام الزيت المستعمل، يحذر مؤسس المركز القومي للسموم وأستاذ الطب المهني والبيئي في مشفى القصر العيني محمود عمرو، من أن عدم المعالجة السليمة للزيوت المستعملة تسبب أضراراً جسيمةً، خاصةً إذا استُخدمت في الغذاء، فعلى المدى البعيد يسبب الزيت المستعمل المُعاد استخدامه في الغذاء سرطان الكبد، نتيجة تغيرات كيمائية تحدث في تركيب الزيت وبنيته وتؤدي إلى إنتاج مواد تسبب هذا النوع من السرطان بالذات.
ويتابع: "إلى جانب ذلك فإن الزيت المستعمل يكون معقد التركيب، ما يحدث مشكلات في عمليات إفراز إنزيمات الكبد وعدم انتظام في وظائف الكبد وفي الكلى، وبتعبير أدق عسر الهضم".
عدم المعالجة السليمة للزيوت المستعملة تسبب أضراراً جسيمةً، خاصةً إذا استُخدمت في الغذاء، فعلى المدى البعيد يسبب الزيت المستعمل المُعاد استخدامه في الغذاء سرطان الكبد، نتيجة تغيرات كيمائية تحدث في تركيب الزيت وبنيته، إلى جانب عسر الهضم
وأضاف في حديثه إلى رصيف22، أن المطاعم هي الأكثر استخداماً لهذه الزيوت المستعملة المُعادة هدرجتها لرغبتها في التوفير وعدم شراء الزيوت النظيفة ذات الأسعار المرتفعة، في حين أن المستعمل يباع بسعر أرخص بعد إعادة هدرجته، كما أن هذه الزيوت تُباع بكثرة بسعر زهيد في الأحياء الشعبية حيث تستخدم بعد إعادة هدرجتها لتحقيق الربح بأقل تكلفة، في تصنيع الحلويات على سبيل المثال.
فجوة بين الإنتاج والاستهلاك
وحول هذه الظاهرة يتحدث رئيس النقابة العامة للسلع الغذائية خالد عيش، قائلاً إن الفجوة الموجودة بين إنتاج الزيت والاستهلاك المحلي موجودة منذ سنوات، ولكن لم نشعر بها سوى خلال أزمة فيروس كورونا التي بدأت عام 2020، مع تعطل حركة الاستيراد، لذا سعى التجار إلى تحقيق هامش ربح مرتفع من شراء الزيوت المستعملة وإعادة هدرجتها لبيعها مرةً أخرى، مما جذب الكثيرين نحو الاتجاه إلى هذا المكسب السريع.
وأوضح عيش لرصيف22، أن انتشار السيارات الجوالة والتي تحمل مكبرات صوت تنادي لشراء الزيت المستعمل من المنازل هي ظاهرة جديدة في المجتمع المصري، في حين أن هذا الزيت يتم تجميعه كي يدخل في صناعة الصابون، وهو الاستخدام الأصح له عوضاً عن رميه في الصرف الصحي.
وأشار المتحدث إلى أن مصر تستورد الزيت الخام، وهو أمر مرتبط بسعر الدولار، لأن الإنتاج المحلي لا يكفي، والشركات المصرية التي تستورد الزيوت الخام تكررها في محطات خاصة وتعيد هدرجتها كي تصبح مطابقةً للمواصفات وللجودة القياسية، ثم تبيعها للمستهلك، إما من خلال بطاقات التموين أو المجمعات الاستهلاكية ومراكز التسوق الكبيرة، في حين يباع جزء آخر للقطاع الاستثماري والقطاع الخاص.
وفقاً للإحصائيات، تنتج مصر ما يقرب من 3% من احتياجاتها من زيوت الطعام سنوياً، بينما تستورد 97% لتلبية الاستهلاك المحلي، منها 73% من زيت بذرة القطن وفول الصويا، و13% زيت الذرة، و14% زيت دوار الشمس.
من الضروري تسليم الزيوت المستعملة إلى مصادر موثوقة، وعدم إعطائها لأي مصدر كان.
الرقابة ضرورية
"أسعار جديدة. الدنيا غليت وإحنا معاكم. استفاد من مخلّفاتك، خليك في المضمون، وسلّم الزيت إلى مصنع الوقود الحيوي، أوعى تسيبه لمصدر مجهول، مندوب زيتو نيابة عن بيوديزل مصر معاه كافة التراخيص الخاصة بالتجميع والتخلص الآمن من زيوت الطعام المستعملة. اطّلع عليها وأنت بتسلم الزيت"؛ بهذه الكلمات تعلن إحدى الشركات في مصر عن خدماتها، لتشجيع المواطنين على بيع الزيت المستعمل الذي سيُستخدم لأغراض غير ضارة بالصحة أو البيئة.
ويقول مدير شركة "زيتو"، محمد عابدين، إن الزيوت المستعملة التي يتم شراؤها عادةً من خلال السيارات الجوالة يُعاد بيعها للمطاعم مرةً أخرى، خاصةً مطاعم الفول والطعمية، لإعادة استخدامها في الطعام، وهو أمر غير صحي وتسعى الشركة إلى محاربته، عن طريق توعية الناس بضرورة تسليم الزيوت المستعملة إلى مصادر موثوقة، وليس عن طريق إعطائها لأي مصدر كان، "لأنها بهذه الطريقة ستعود إليهم وإلى عائلاتهم مرةً أخرى بشكل غير مباشر وستؤثر عليهم وعلى صحتهم"، وفق تعبيره.
وشرح عابدين طبيعة عمل شركته في محيط منطقة أكتوبر، وهي تعمل على إرسال مندوبين خاصين بالشركة للحصول على الزيوت المستعملة من العملاء، مرفقين بتصريحات من وزارة البيئة بمزاولة النشاط، وتصريح من جهاز مدينة أكتوبر، وتفويض من شركة "بيوديزل" بالاسم ورقم البطاقة والبطاقة التعريفية للشركة والزي الرسمي.
يمكن إعادة استعمال الزيوت المستعملة، ولكن ضمن نظام كيميائي سليم وفي مصانع مؤهلة لإنتاج زيوت قد تستعمل في أي صناعات أخرى، سواء في التشحيم أو إنتاج الصابون، بعيداً عن الاستعمالات الغذائية بكل تأكيد
ويتابع: "شركة بيوديزل مصر تصنع الوقود الحيوي. بتعاوننا معاً، نحصل على الزيت ويتم تحليله ويدخل في خط الإنتاج ويأخذ دورته ويكون الناتج النهائي وقوداً حيوياً".
وأشار إلى أنه يمكن إعادة استعمال الزيوت المستعملة، ولكن ضمن نظام كيميائي سليم وفي مصانع مؤهلة لإنتاج زيوت قد تستعمل في أي صناعات أخرى، سواء في التشحيم أو إنتاج الصابون، بعيداً عن الاستعمالات الغذائية بكل تأكيد، مؤكداً ضرورة نقل التكنولوجيا المتطورة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية للابتعاد عن الزيوت المهدرجة، وعدم إدخالها في الاستعمالات الغذائية وإنما في استخدامات أخرى تفيد البيئة والإنسان معاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع