شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الخوف من الملوخية!

الخوف من الملوخية!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الاثنين 20 فبراير 202310:48 ص
Read in English:

The unexplained fears of making Mulukhiyah in exile

كنت أعتقد لسنوات طويلة أنني فاشل تماماً في الطّبخ، ولكن عندما أجبرتني أيّام إسطنبول الطويلة على الدخول إلى المطبخ، وجدت أنني لست فاشلاً أبداً، فقد صنعت صينية كفتة بالطحينة، تشبه إلى حدّ كبير تلك الصينية التي تصنعها أمي، وبعدها كان عليّ أن أرصّ البطاطا والباذنجان بشكل جيّد في الصينية بعد قليها، ثمّ أضع فوقهما اللحمة المفرومة لأعاود الرّص في الأعلى كما في الأسفل، مع وضع الخلطة السائلة، وأصل في النهاية إلى صينية بطاطا وباذنجان لم أذق مثلها في حياتي.

لم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، بل امتدّ حتى وصل إلى الحلويات، فقد تجرأت/أُجبرت للمرة الأولى في حياتي على صناعة البسبوسة، فبعدما اعتدت على طعم معيّن لها، استطاعت أمّي دائما أن تصل إليه دون عناء؛ كان عليّ أن أجربَ طعم بسبوستي، وعلى الرّغم من فشل تجاربي الأولى، إلا أنّ التجارب اللاحقة كانت جيّدة بشهادة الأصدقاء. فعلت ذلك كلّه، وجرّبت أكلات أخرى عديدة، ولكنني بعد سنة من اعتيادي المطبخ، ما زلت لا أمتلك الجراءة الكافية لأقوم بطهي الملوخية ولو لمرة واحدة!

سفرة أمّي السّاحرة

في البلاد، هناك في فلسطين الصغيرة/قطاع غزة، لم أفكّر لمرة واحدة في أصل الملوخية، وما كنت لأقبل أصلاً أيّ ادعاء أو معلومة تفيد بأنها ليست أكلة فلسطينية أصيلة. فقد ربطتها في ذاكرتي بكلّ سفر الطعام الفلسطينية، بدءاً من الحصيرة التي كان أجدادي يمدّونها في عراء خانيونس، ويضعون الملوخية فوقها، متحدّين كونها أكلة "ملوكية"، أي مرتبطة بالملوك وأصحاب المقام العالي، وصولاً إلى سفرة أمّي في مطبخ البيت، التي تلغي، بالنسبة لي على الأقل، المعلومات التاريخية التي تربط الملوخية بالمصريين القدماء (الفراعنة)، فمن يشاهد سفرة أمّي عندما تصنع الملوخية، سيقتنع تماماً أنها لم ترتبط يوماً بأهل النيل، بل ارتبطت بالفلسطيني الذي قضى نصف حياته متأمّلاً أمواج المتوسّط.

في البلاد، هناك في فلسطين الصغيرة/قطاع غزة، لم أفكّر لمرة واحدة في أصل الملوخية، وما كنت لأقبل أصلاً أيّ ادعاء أو معلومة تفيد بأنها ليست أكلة فلسطينية أصيلة

وعلى الرغم من قدرة أمّي العبقرية على صناعة الملوخية، إلا أنّها لم تجرّب قط طهيها بالأرانب مثلاً، كما هو معتاد في مصر، واقتصرت في أغلب الأحيان على تحضيرها باستخدام اللحم الأبيض، أي الدجاج والحبش، وربما كان هذا سبباً رئيسياً في تفضيلي للملوخية باللحم الأبيض على اللحم الأحمر، أي لحم العجل والخاروف. لهذا، من يرى سفرة أمّي ويرى كيف تنزلق ملوخيتها ببطء من حواف معلقتي، سيدرك تماماً أنها ليست أكلة فلسطينية فقط، بل أكلة خاصّة بأمّي.

الخوف من الذكريات

على مستوى الذّاكرة وما تخزّنه، لم أتخيّل أن يخطرَ لي يوما ذكريات مرتبطة بالملوخية! لذلك، عندما انقطعت طويلاً عن لذّة ملامستها للساني، أدركت أنها ترتبط في ذهني بذكريات جيّدة جداً، ويمكن التشييد عليها لبناء بيت كامل من الملوخية/الحب. ومثل أيّ فلسطيني آخر، تذكّرت أوّل أيام شهر رمضان من كلّ عام، والطّبق الأخضر يزيّن السّفرة في حضور العائلة، فلقمة الفلسطيني الأولى أوّل يوم صوم لا تكون إلا من صحن الملوخية، حتى إذا جاء شخص وتمشّى في معسكر/مخيم خانيونس قبل ساعة من رفع أذان المغرب، لاشتمّ رائحة الملوخية تخرج من كلّ شباك وزقاق وعتبة.

"ملوخية أمّي" هي بداية كلّ الحكايات اللذيذة ونهايتها السعيدة.

ومع اشتياقي المتزايد للملوخية في الأيام الأخيرة، بعد سنة وشهر من عدم تذوقها، لم تغب عنّي ضحكة أمّي وأنا أمثّل "شهقة" كاذبة عند وضعها للثوم المحمر بالزّيت فوقها، تقليداً للمسلسلات المصرية التي جعلتني أجزم أنّ هذه الشهقة هي أصل طَعَامة هذه الأكلة.

لم تقتنع أمّي بهذه الشّهقة أبداً، وكنت أسمعها جيداً وهي تقول: "بسم الله" بدلاً منها، ثمّ تتبعها بحمد وتسبيح كأنّها بذلكَ تَخشع. مَن يدري، ربما حتّى صناعة الطعام تحتاج إلى خشوع، وهذا سبب مذاق أكلها الخرافي، الذي جعلني غير قادر على تجربة طَهي الملوخية ولو لمرة واحدة طوال أكثر من سنة... أو ربما هي الذكريات، لهذا يمكنني القول إنّ الذكريات هي التي جعلتني لا أتجرأ على التجربة.

اتجاهان لطريق واحد

لم أتخيّل لمرة واحدة، أن تكون الملوخية في المطبخ السوري مختلفة ويتم إعدادها بطريقة مختلفة عن المطبخ الفلسطيني، فلطالما تخيّلت صَحن الملوخية نفسه حتى ولو تم إعداده في أقصى الدنيا. لهذا، عندما قدّمت لي زميلتي السورية في العمل الملوخية السورية بسعادة وابتسام، تملكتني رغبة شديدة في الابتعاد وعدم تجريب طعمها، فكيف يمكن التّعدي على هذه الأكلة وطبخها بشكل مختلف؟ كانت مكوّمة أمامي في الطّبق مثل أصابع الاسباكيتي المكسّرة، وكانت رائحة شيء عتيق تخرج منها. تذوّقتها بعد دقائق من التفكير بعدم القيام بذلك، وحينها اكتشفت اكتشافاً عظيماً، وهو أنّ مذاق الملوخية السورية يشبه صعود الجبل، بينما الملوخية الفلسطينية فمذاقها يشبه النزول عنه.

فالمطبخ السّوري يعتمد في صناعتها على الورق النّاشف، أما الفلسطيني - مطبخ أمي على وجه الخصوص – يعتمد على الورق الأخضر الذي تجتمع العائلة كلّها من أجل تلقيطه، ما يجعل الملوخية السورية ناشفة ولها رائحة جدّ قديم. ويعتمد السوريون عند تناولها على الليمون بشكل رئيسي، فعَصر الليمون فوقها جزء أساسي، وقد قمت بذلك بنفس طيّبة عندما جرّبتها للمرة الأولى، على الرغم من أنني لم أضع الليمون على هذه الأكلة في حياتي، ولم أتصالح أبداً مع الفلسطينيين الذين يقومون بوضعه عند تناولها. تجربتي للملوخية السورية جعلتني في حالة اشتياق غريبة للمذاق الذي اعتدت عليه، ولكنني لم أمتلكَ الجرأة الكافية لصنع الملوخية بنفسي طوال سنة كاملة.

يظلّ للملوخية خصوصية فائقة في حياة الفلسطيني، وفي حياتي أنا بالذات، ويمكنني إرجاع ذلك للثقافة الشعبية التي ربطتها بقدوم شهر رمضان، وبجمعات العائلة بعد افتراق طويل، وبلحظات القصف والتصعيد التي تكاد لا تتوقّف

رهان فلسطيني خاسر/رابح

بعدما تقطّعت فيّ السّبل، لم يكن أمامي إلا الاستعانة بصديقي لكي أتذوّق الملوخية كما اعتدت عليها، وكما ارتسمت في ذهني بمذاقها الذي يشبه الانزلاق بسلاسة من قمّة جبل. وبالفعل، كان صديقي كريماً، واستضافني لأتذوّق الملوكية للمرة الأولى بعد سنة وشهر من الانقطاع عنها. ويمكنني القول إنّ كلّ ملعقة كنت أضعها في فمي، كانت تغذّي مجموعة كبيرة من الذكريات التي كدت أنساها تماماً، كأنني أرضٌ بور حصلت على الماء أخيراً. وهذا ما جعلني أشعر بأنها أطيب أكلة ملوخية أتناولها في حياتي، على الرغم من اختلاف مذاقها بشكل كبير عن تلك التي تصنعها أمّي.

وهذا باعتقادي لا يرتبط بـ "الشطارة" أو "النَّفس" الطّيب في إعداد الطعام فقط، بل يرتبط بأسباب أخرى أيضاً، مثل المكان الذي يتم تناول الطعام فيه، والأشخاص الذين يتناولون الطعام معك، وحالة الطّقس وقت تبدأ اللقيمات بالسير في طريقها المعتاد إلى البطن، علاوةً على ضحكات الأخوات ومزاحهنّ الثّقيل في النّطق والخفيف على القلب كجناح طائر.

دائماً... تنتهي الحكايات اللذيذة

يظلّ للملوخية خصوصية فائقة في حياة الفلسطيني وفي حياتي أنا بالذات، ويمكنني إرجاع ذلك للثقافة الشعبية التي ربطتها بقدوم شهر رمضان، وبجمعات العائلة بعد افتراق طويل، وبلحظات القصف والتصعيد التي تكاد لا تتوقّف. ومع قدرة أمي العبقرية في صنع أكلات تليق بأشهر المطاعم العربية، علقَ في رأسي مذاق الملوخية التي تصنعها بيديها الناعمتين - دون شهقة - ولم أستطع رغم محاولاتي المستمرة أن أستلذّ بأيّ طبق ملوخية آخر غير طبق أمّي، سواء كانت مطبوخة على الطريقة الفلسطينية أو السورية، لهذا... يمكنني القول إنّ "ملوخية أمّي" هي بداية كلّ الحكايات اللذيذة ونهايتها السعيدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard