تتضمن رواية "يهوذا" للأديب الإسرائيلي عاموس عوز العديد من العناصر الفنية والأدبية التي تحضر في الآداب والروايات العالمية التي تحظى بالتقدير على مستوى تاريخ الأدب، فنجد فيها الشخصية الوجودية كما في أدب دوستويفسكي، والشخصيات الانعزالية أو المهمشة كما هي الشخصيات في روايات خوسيه ساراماغو، كما تحضر فيها موضوعة معالجة حكاية تراثية دينية بطريقة روائية مستجدة كما هو الحال في أعمال كازانتزاكس أو ساراماغو أيضاً، ويتربع مفهوم الخيانة الفردية أو الجماعية على قائمة الموضوعات التي تتناولها الرواية.
منذ البداية يرسم لنا الروائي صورة شخصيته الرئيسية "شموئيل" بما يذكرنا بشخصية أنطوان روكنتان في رواية "الغثيان" لجان بول سارتر، فيعيش شموئيل فيضاً من الأفكار الداخلية، ويتخلى عن بحثه الماجستير بعنوان "وجهات نظر يهودية عن يسوع". كما يدخل الروائي في الأوصاف الجسدية لشخصيته بما يذكر بشخصية راسكولينكوف في رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي: "كان شموئيل شاباً قوياً ملتحياً في الخامسة والعشرين من العمر. كان خجولاً، اشتراكياً، مصاباً بالربو، وكان متقلب المزاج فيكون في لحظة شديدة الحماس ويتحول في اللحظة التالية إلى محبط وبالعكس. إذا حضر فيلماً تافهاً عن الوحدة واليأس في سينما أديسون، وتبين أن الرجل الشرير يملك في الواقع قلباً طيباً فإن في وسعه أن يختنق بالبكاء".
وتتعدد الإسقاطات بين الشخصية الروائية وشخصية المؤلف اللذين ينتمي كلاهما إلى اليسار الصهيوني: "ذات مرة رأى ستالين في المنام، جرى اللقاء في غرفة خلفية منخفضة في المقهى القذر الذي تجتمع فيه مجموعة التجديد الاشتراكي".
تندرج رواية "يهوذا" في إطار الأعمال الأدبية التي تعيد قراءة حكايات أو شخصيات من التراث الديني بتأويلات مفاهيمية جديدة عما درجت فيه بالتاريخ، كما يفعل الروائي خوسيه ساراماغو في روايته "قايين"، أو الروائي نيكوس كازانتزاكس في روايته "الإغواء الأخير للمسيح"
تجري أحداث الرواية في القدس نهاية العام 1959، حيث يحصل شموئيل على وظيفة مرافقة الأكاديمي الطاعن في السن "غيروشوم والد" الذي تجري الأحداث في منزله كفضاء روائي مزدحم بالكتب والذكريات وأحداث تاريخية وأوراق بحثية، وتقطن في المنزل نفسه امرأة أربعينية، تدعى أناتاليا آبرانافيل، وهي أرملة ابن غيرشوم، وابنة زعيم صهيوني مناوئ لـ بن غوريون اسمه شيلتيل، اتّهمه أبناء جلدته بالخيانة لأنه كان على علاقة طيبة مع العرب الفلسطينيين، لقد دأب شيلتيل على زيارة أصدقائه العرب حتى في ذروة القتال والقنص، فلقبه جيرانه اليهود تهكما بالمؤذّن، وبالحاج أمين، بينما كان شيلتيل يعد نفسه من القلة المتبقية من الصهاينة الحقيقيين الذين لم تفسدهم القومية، كما يقول على لسان ابنته.
يكتب الناقد إبراهيم قعدوني عن شخصية شيلتيل: "ربما كان في شخصية شيلتيل، الأب المتوفى لأناتاليا، ما يمثّل جانبًا من شخصية عوز نفسه، فقد أدان عوز احتلال بلاده للأراضي الفلسطينية سنة 1967، في حرب الأيام الستة، حيث كان مواطنوه تحت تأثير نشوة الانتصار، كما يُعَدّ عضواً مؤسساً في حركة السلام الآن، وكما يقول عوز فإنَّ "ما يرى فيه بعضهم خيانةً تستوجب التقريع، ليس سوى شجاعة المرء بأن يكون متقدّمًا على عصره". وهذا هو جوهر الرواية وموضوعها الأساس سؤال الإخلاص والخيانة، فبالنسبة لعوز، ليست تهمة كالخيانة سوى مكافأة لأشخاص يرغبون في التغيير، لذا فإنّهم يُتهمون "بخيانة القضية"، وعبر هذا الخط السرديّ يبدو أنّ عوز يُكرّر دعواته المستمرّة للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
فقرات بحثية حوارات روائية في مناقشة الذهنية اليهودية
يسعى الروائي أن يجعل من نصه الأدبي مساحة لمناقشة الموضوعات النفسية والذهنية التي تسم التجربة اليهودية من جهة والتجربة الإسرائيلية من جهة أخرى، وذلك عبر أسلوب استعادة الفقرات من الدراسات البحثية أو الحوارات بين الشخصيات المتعلقة بالموضوعة، مثلما ما يرد على لسان أحد الشخصيات عن التمايز بين حب الإنسانية وكراهيتها: "على الرغم من أن الشك والتمتع بالاضطهاد، وحتى كراهية الجنس البشري بأسره، في الأساس، كلها أقل فتكاً بكثير من حب الإنسانية، الذي تفوح منه رائحة أنهار الدم القديمة، فأنا أرى أن الكراهية غير المبررة هي أقل سوءاً من الحب المجاني: أولئك الذين يحبون البشرية، فرسان إصلاح العالم الضال، أولئك الذين ينتفضون ضدنا في كل جيل لإنقاذنا، ولا أحد ينقذنا من قوتهم".
أنا أرى أن الكراهية غير المبررة هي أقل سوءاً من الحب المجاني؛ أولئك الذين يحبون البشرية، فرسان إصلاح العالم الضال، أولئك الذين ينتفضون ضدنا في كل جيل لإنقاذنا، ولا أحد ينقذنا من قوتهم.
ويدلي الروائي عبر شخصياته بعدد من الآراء حيال العلاقات بين الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، وحيال العلاقات بين الإسرائيليين والعرب والفلسطينيين: "قال حاييم وايزمان ذات مرة في لحظة يأس إنه لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه الدولة اليهودية، لأنه يحتوي على تناقض داخلي: إذا كانت دولة فلن تكون يهودية، وإذا كانت يهودية فهي بالتأكيد لا تكون دولة".
ويعيد الروائي عوز آراءه السياسية حول ضرورة السلام عبر أفكار وكتابات شخصياته الروائية: "إذا لم يكن هناك سلام فسوف يهزمنا العرب يوماً ما. إنها فقط مسألة وقت وصبر. وللعرب زمان لا نهاية له وصبر لا حدود له. لن ينسوا عار هزيمتهم عام 48 أو المؤامرة التي دبرناها ضدهم مع بريطانيا وفرنسا". ويصل الروائي عوز إلى خلاصات تقلب بعض المفاهيم السائدة حول الصراع العربي الإسرائيلي: "لم يكن هناك ولا يوجد أي سوء تفاهم بين العرب واليهود.
بالعكس تماماً، فعلى مدى عدة عقود كان لديهم فهم كامل وشامل: يتمسك العرب المحليون بهذه الأرض لأنها أرضهم الوحيدة، وليس لديهم غيرها، ونحن نتشبث بهذه الأرض لسبب نفسه. إنهم يعلمون أنه لا يمكننا التخلي عنها أبداً، ونحن نعلم أنهم لن يتخلوا عنها أبداً. التفاهم متبادل وواضح تماماً. لا يوجد سوء تفاهم بيننا".
في إعادة تأويل الحكاية: الخيانة مفهوماً
تندرج رواية "يهوذا" في إطار الأعمال الأدبية التي تعيد قراءة حكايات أو شخصيات من التراث الديني بتأويلات مفاهيمية جديدة عما درجت فيه بالتاريخ، فكما يفعل الروائي خوسيه ساراماغو في روايته "قايين"، أو الروائي نيكوس كازانتزاكس في روايته "الإغواء الأخير للمسيح"، أو الفيلسوف صادق جلال العظم في نصه "مأساة إبليس" يحاول هنا الروائي عاموس عوز إعادة قراءة حكاية يهوذا بما يسمح بتقديم تأويلات أخلاقية وفلسفية ودينية جديدة لهذه الشخصية. إنها الشخصية التي تكرسها الحكاية الدينية على اعتبارها شخصية تمثل مفهوم الخيانة، المفهوم الذي يشغل الكاتب الروائي عوز في مخيلته الأدبية وفي سيرته الذاتية.
فطالما اتهم الروائي عاموس عوز بالخيانة في المجتمع الإسرائيلي بسبب آرائه السياسية، وربما انطلق في معالجة شخصية يهوذا من خلف هذا الدافع: "تذكر شموئيل جيداً صورة يهوذا في العديد من اللوحات الشهيرة للعشاء الأخير: مخلوق مثير للاشمئزاز، ملتو، يجلس منكمشاً مثل الزواحف في نهاية الطاولة، حيث كان جميع الضيوف الآخرين وسيمين".
ويكتب شموئيل في دفتر ملاحظاته: "هل هناك حقاً مؤمن واحد سأل نفسه كيف يمكن لرجل باع معلمه مقابل مبلغ ضئيل من ثلاثين قطعة من الفضة أن يذهب ويشنق نفسه من شدة الحزن بعد ذلك مباشرة؟". وتتضح غاية الروائي في إسقاط مفهوم الخيانة على سيرته الذاتية في الحديث التالي: "قال شموئيل: أي شخص يرغب في التغيير سيعتبر خائناً دائماً من قبل أولئك الذين لا يستطيعون التغيير ويخافون حتى الموت من التغيير ولا يفهمونه ويكرهونه".
شخصيات الحكاية الدينية وتراجيديا القدر
يقيم (خوسيه ساراماغو) روايته "قايين" على رؤية مماثلة من إعادة تأويل الشخصية التراثية الدينية برؤية روائية فلسفية، بتناول شخصية وسمت عبر التاريخ الأدبي بالجرم الإنساني الأول. الجريمة الأولى التي يقرأها ساراماغو باعتبارها مصيراً مفروضاً من الرب، السيد الأعلى في الرواية، الذي يجري بينه وبين قايين الحديث التالي: "ماذا فعلت بأخيك، سأل، فرد قايين بسؤال آخر، هل أنا حارس لأخي، لقد قتلته، أجل، ولكن المذنب الأول هو أنت، لأنني كنت مستعداً لتقديم حياتي فداء لحياته لو لم تدمر لي حياتي، إنما أردت اختبارك، ومن أنت لتختبر من خلقته بنفسك، إنني السيد الأعلى للأشياء كلها، وستقول إنك سيد على الكائنات كلها، ولكن على شخصي ولا حريتي، حرية من أجل القتل، مثلما كنت أنت حراً في تركي أقتل هابيل بينما بوسعك منع ذلك".
وفي نص "مأساة إبليس" من كتابه "نقد الفكر الديني" يقدم الفيلسوف صادق جلال العظم مقاربة لشخصية إبليس في التراث الديني انطلاقا من مقارنتها مع شخصيات تراجيديا المسرح الإغريقي مثل أدويب، وأنتجونا: "إذا رجعنا إلى مسرحية أنتيجونا نجد أن المأساة التي انتهت إليها البطلة ناتجة عن التناقض الجوهري القائم بين ما تمثله أنتيجونا من ناحية وما يمثله كريون ملك ثيبة من ناحية أخرى.
كانت أنتيجونا مصممة تصميما مطلقاً أن تدفن جثمان أخيها القتيل مهما كلفها الأمر وكان دافعها إلى ذلك حبها العظيم لأخيها وإيمانها الذي لا يتزعزع بضرورة تنفيذ مشيئة السماء القاضية بدفن الموتى. لا تختلف محنة إبليس، من حيث النوعية، عن محنة كل من أنتيجونا وإبراهيم. كان أمامه الأمر الإلهي المباشر بأن يقع ساجدا لآدم وفي الحين ذاته كانت أمامه متطلبات المشيئة الإلهية الداعية للتوحيد والتقديس والتسبيح والتي لا تسمح بالسجود لأحد سوى الذات الصمدية. فأذعن ابليس لمتطلبات المشيئة الإلهية وعصى بذلك أمر السجود فطرد ولعن وكتب عليه اليأس المطلق من العودة إلى الجنة".
"هل هناك حقاً مؤمن واحد سأل نفسه كيف يمكن لرجل باع معلمه مقابل مبلغ ضئيل من ثلاثين قطعة من الفضة أن يذهب ويشنق نفسه من شدة الحزن بعد ذلك مباشرة؟"
نستنتج في المعالجة الروائية لهذه الشخصيات التاريخية في التراث الديني ما أطلق عليه الفيلسوف العظم مأساة المصير أو القدر Tragedy of Fate: "فمحنة إبليس تمثل بكل جلاء كلا النوعين من المأساة. ينتج البلاء في مأساة الغربة بسبب الانفصال عن وضع معين كان البطل يشارك فيه قبلا، ولكنه يجد نفسه غريباً عنه الآن. وتعطينا أعمال ميلتون ودوستويفسكي وكافكا وكامو أمثلة واضحة عن مأساة الغربة".
ونقرأ التأويل ذاته في رواية ساراماغو في تناوله لشخصية قايين: "قتلت هابيل أنني لا أستطيع قتلك أنت، ولكنك في نيتي ميت، أفهم ما تريد قوله، لكن الموت محظور على الآلهة، أجل، مع أنه عليهم أن يتحملوا وزر كل الجرائم المقترفة باسمهم أو في سبيل قضيتهم، الرب بريء من ذلك، وسيكون كل شيء على هذه الحال لو لم يكن له وجود، أما أنا، فلأنني قتلت، يمكن أن أتعرض للقتل على يد أي شخص يلقاني".
ويميز العلاقة بين الروائي عوز والشخصية التاريخية يهوذا، هو أن لهذه الشخصية التاريخية من التراث الديني إسقاطاً جمعياً أيضاً يرتبط باليهودية عامةً: "مع ذلك أقول لكم، مع يهوذا أو من دون يهوذا، كراهية اليهود لن تختفي. أو حتى تنقص. مع يهوذا أو من دونه، سيستمر اليهودي في تجسيد دور الخائن في نظر المؤمنين. أجيال من المسيحين تذكرنا كيف صرخ الجموع قبل الصلب: "اصلبه، اصلبه دمه علينا وعلى أطفالنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...