"سمراء النيل"، هكذا تعوّد الجمهور أن يناديها، متجاهلاً اسمها الأصلي، أو أياً من أسماء الأدوار التى أسهمت في شهرتها، والتي يلجأ إليها الجمهور حين يقع فى غرام أحد الأبطال على الشاشة، فطالما جذبته الشخصية فلا مانع من أن تصبح الممثلة والدور كياناً واحداً، لا يقبل القسمة.
بدأت شهرة مديحة يسري منذ الأيام الأولى لولادتها فى 3 كانون الأول/ ديسمبر عام 1921، فكما تقول فى مقال سابق لها في مجلة "الكواكب" بعنوان "أنا وش الخير" فقد اكتسبت عقب ولادتها مباشرة شهرة كبيرة فى أوساط العائلة بأنها "مبروكة" و"صاحبة كرامات".
شهرة من اليوم الأول
في ذلك المقال، تقول إن والدها كان يعاني من مرض السكري، وفشل أكثر من طبيب في أن يجد العلاج المناسب له، واضطر إلى إنفاق الكثير من أمواله التي كان يدخرها على العلاج دون فائدة.لكن فى يوم ميلاد مديحة تغير الحال، وهاتفه الطبيب ليخبره بأنه وجد علاجاً لحالته، وحين جرب الدواء بدأ في التعافي، ما جعل الأب يختار لها اسماً رسمياً "غنيمة".
اكتسبت مديحة يسري سمعة بأنها "مبروكة" و"صاحبة كرامات" عقب ولادتها مباشرة فى أوساط العائلة، بسبب شفاء والدها من المرض في اليوم الذي ولدت به، وظلت هذه سمعتها حتى نهاية حياتها
وسريعاً انتشر الخبر فى أوساط العائلة، وسط دعاية كبيرة من الأب، ما جعل الزيارات تتوالى للتبرك بالمولودة الجديدة، والحصول على نفحة منها.
تقول مديحة عن تلك الفترة: "كان أقاربنا يأتون لزيارتنا ويصرون على حملي وتقبيلي كنوع من التبرك بي، لعلّي أكون السبب في حل المشاكل التى يمرون بها، وأذكر أن أحد أقاربي الذي كان تاجراً ترتبط تجارته بالبورصة، تعوّد زيارتنا للحصول على البركة مني قبل أي مضاربة جديدة". مؤكدةً أن اليوم الذى كانت تضحك له فيه كان يكسب الكثير من الأموال، وكان يخصص جزءاً من تلك الأموال لمديحة على شكل هدايا وألعاب.
رهانات الخيول
أما في الوسط الفني فكانت لها زميلة من هواة المقامرة في سباقات الخيول، وكانت تُصر على أن تصطحبها في كل سباق وتسألها على أي جواد تراهن، تقول مديحة: "كانت كل مرة بتكسب لأن كل توقعاتي كانت صحيحة".كما روت كيف كان أحد المخرجين يُصر على أن تحضر العرض الأول لفيلمه الجديد، لأنه كان يتفاءل بها، فكانت الأفلام التي تحضر عرضها تحقق النجاح على المستويين النقدي والجماهيري على حد تعبيرها.
لعبت مديحة يسري أيضاً دور "حمامة السلام"، فكانت تحل المشاكل والخلافات التي تحدث بين أي زميلة وزوجها، ومن القصص التي روتها أن إحدى زميلاتها طلبت الطلاق من زوجها، وحين ذهب إليها لتتوسط في حل المشاكل بينهما اكتشف أنها خارج مصر وستعود بعد أسبوعين.
كانت تتنبأ بنتائج سباقات الخيول لأصحابها، وتصلح ما بين الأزواج، وتحضر العروض الأولى للأفلام لأنها "وش خير" كما كانت تقولوقتها رفض الزوج أن يُلبي طلب زوجته، وطلب منها أن تمنحه مهلة أسبوعين لتسوية بعض مشاكله المادية، وحين عادت مديحة من السفر تدخلت لحل المشكلة وعادت المياه إلى مجاريها بين الزوجين.
فى مناسبة أخرى سنجد أن مديحة أو غنيمة أو حتى "هنومة" كما كان يحلو لصديقاتها أن ينادينها، تؤكد أنها كانت تتمتع بما أسمته "روحانيات عالية" وأن ما كانت تراه في نومها كان يتحقق في اليوم التالي، لدرجة أن زوجها الأخير الشيخ إبراهيم سلامة، شيخ الطريقة الشاذلية، كان يقول: "خافوا منها لأنها مبروكة".
وفى حديث آخر نجدها تؤكد أنها رأت في منامها تفاصيل موت شقيقتها الكبرى "منيرة"، وعندما حكت لأمها تفاصيل العزاء كما جاء في المنام دُهشت الأم وأكدت لها أن ما شاهدته حدث فعلاً في الواقع.
وإذا كانت مديحة قد استسلمت لوجهة النظر التى كونها عنها الجميع بأنها "مبروكة" والتي أكدتها المصادفات، فإنها رفضت أن تستلم لقيود العادات والتقاليد في زمانها والتي كانت تقف حائلاً دون احتراف أية فتاة لمهنة التمثيل، على اعتبار أنها مهنة "عيب" وستجلب العار للعائلة.
رفض العائلة وصفعة من الأب
اختارت مديحة أن تكون مقاومتها لتلك القيود، ناعمة، بجمالها وموهبتها، خصوصاً بعد أن اختارها المخرج محمد كريم لتجسيد أول دور لها بناء على جمال عينيها فقط لا غير، واختارت أن يكون أول من تتمرد عليه هو والدها.في حوار لها مع جريدة "الجريدة" الكويتية تقول إن والدها ثار وغضب حين قرأ خبراً مفاده أن ابنته غيرت اسمها من "غنيمة" إلى اسم فني جديد اختاره لها يوسف وهبي وهو "مديحة يسري"، وأنها ستشارك في فيلم "أحلام الشباب".
لم ينتظر الأب كثيراً وواجه ابنته، لترد عليه مؤكدة أنها اختارت طريقها، ولن تحيد عنه، ليأتي الرد سريعاً بصفعة قوية كانت الأولى والأخيرة التي تتلقاها من الأب، الذي هددها بالقتل إذا أصرت على التمثيل، غير أنه أمام إصرارها وتوسط المقربين، وأمام الشرط الجزائي الكبير المُوقع في عقد الفيلم، وافق على أن تُكمل الفيلم، بشرط أن يكون أول وآخر تجربة لها في التمثيل.
توقع الأب أن تفشل ابنته فى تجربتها الأولى، أو تمل اللعبة وتعود إلى قواعدها وحياتها السابقة، غير أن "مديحة" فاجأت الكل بنجاحها، ما جعل الوالد يختار الهدنة ويكتفي بموقف المتفرج في صعود ابنته سلم النجومية.
غضب والدها حين قرأ خبراً مفاده أن ابنته غيرت اسمها من "غنيمة" إلى اسم فني جديد اختاره لها يوسف وهبي وهو "مديحة يسري"، وأنها ستشارك في فيلم "أحلام الشباب". فواجه ابنته، لترد عليه بأنها اختارت طريقها، وليأتي الرد بصفعة قوية كانت الأولى والأخيرة
حجزت مديحة يسرى لنفسها مكانة خاصة بين النجوم، وقد كشفت مجلة "الكواكب" في عدد سابق لها، أنه حين شاهد الأب "يسري" خلال عرض أحد الأفلام سألها "هل هذا اللون الأسمر الجميل لوجهك هو لون طبيعي؟"، لتجيب بدلاً منها زميلتها ماري كويني: "عندنا في مصر مثل بيقول السمار نص الجمال"، ليضيف العمدة: "إنه مثل خاطئ بلا شك، لأن السمار هو الجمال كله".
من أجمل عشر نساء الأرض
في الأربعينيات من القرن الماضي اختيرت مديحة يسري واحدة من بين أجمل عشر نساء في العالم من قبل مجلة التايم الأمريكية، خلال تلك الفترة ازدهرت نجوميتها، وقد كان الوسط الفني يبحث عن جميلات يجددن شباب السينما، ووجدت الغالبية ضالتها في مديحة.تعودت أن تُنفق الكثير على مظهرها، فكانت تشتري من أموالها الخاصة 20 فستاناً لكل فيلم تشارك به، أغلبها تحول إلى "موضة" تقلدها الفتيات. وقد حاول الكثير من الصحافيين في ذلك الوقت سؤال مديحة يسري عن أسرار أزيائها ومن أين تشتريها ومن يتولى تفصيلها، إلا أنها كانت ترفض الرد على هذا السؤال، لتحتفظ لنفسها بأسرار الجمال، فلا مانع أن يُقلدها أحد، أما أن يتساوى معها في نفس الإطلالة أو أن يسبقها فلا.
في الأربعينيات اختيرت من أجمل 10 نساء في الأرض، وقد وقع في غرامها كل من رآها، ومع تقدمها في العمر قالت إنها ترفع الراية البيضاء للزمن ورفضت عمليات التجميلبعد فيلمها الأول صارت أدوارها تتمحور حول الفتاة الجميلة التى يقع الجميع في غرامها، فيغنى لها البطل، ويتغنى بها منافسه، لكن في لحظة حاسمة قررت أن تتوقف وتعيد حساباتها، لتؤكد للكل أن موهبتها يجب أن تسبق جمالها، وأن اختيارها لدور ما يجب أن يتم بناء على موهبتها لا على عينيها وملامحها التي لا يخاصمها الجمال. وكانت المفاجأة التي ألقت بها في وجه المخرجين والمنتجين، موافقتها على تقديم دور الأم لعبد الحليم حافظ في فيلم "الخطايا"، رغم أنها لم تكن قد تجاوزت الأربعين من عمرها، ورغم أن فارق العمر بينها وبين العندليب لم يتعدَّ 11 عاماً فقط.
مع الزمن ومع ظهور عمليات التجميل، اختارت ألا تخضع لها، وأن تعترف بعمرها، كانت تقول في مقابلاتها إن لكل عمر جماله الخاص، وإنها توافق عن طيب خاطر بأن ترفع الراية البيضاء في وجه الزمن، لتعيش جمالها الداخلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...