في مساء يوم الجمعة 26 آب/أغسطس العام 2022، أفاق الليبيون على صوت قتال عنيف هزّ العاصمة الليبية طرابلس، كانت شوارع المدينة تعجّ بالمقاتلين، وأصوات الأسلحة الثقيلة والبنادق الرشاشة، تقضّ مضاجع السكّان، كانت "حرب شوارع" بأتمّ معنى الكلمة، بين قوات تابعة لعبد الحميد الدبيبة، رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية، وقوات تابعة لفتحي باشاغا، رئيس الحكومة المكلف من مجلس النواب في طبرق.
سرعان ما تكشفت نتائج تلك الاشتباكات، ليتضح حجم المأساة الإنسانية، مع سقوط 32 قتيلا و159 جريحا، معظمهم من المدنيين، وفقا لإحصاءات رسمية، فيما تم ّتدمير العديد من المباني، واحترقت عشرات السيارات، وأصيبت تضررت عدة مستشفيات في إطلاق النار، وأُرجئت امتحانات المرحلة النهائية للمدارس الثانوية، وأغلقت جامعة طرابلس حتى إشعار آخر، كما تم تعليق الرحلات الجوية في مطار معيتيقة الدولي.
ما زالت القيادات السياسية في ليبيا، تخطو على خطى سابقيها، من خلال تركيز سلطة مزدوجة، وتأسيس "لجان مسلّحة" بولاءات مختلفة لخدمة مصالحها
إتّفقوا على ألاّ يتّفقوا
لم تكن هذه الاشتباكات، سوى حلقة في مسلسل صراع، تدور رحاه منذ أشهر بين حكومتين، الأولى في طرابلس، انبثقت عن اتفاق سياسي في العام 2021، يرأسها عبدالحميد الدبيبة، والثانية في مدينة سرت (وسط ليبيا)، برئاسة فتحي باشاغا، كلّفها البرلمان الليبي في شباط/ فبراير 2022، بعد فشل إجراء الانتخابات التي كانت مقررة في كانون الأول/ديسمبر 2021.
لكن مشهد وجود حكومتين في ليبيا، ليس بجديد حيث تعود أطواره إلى العام 2014، حين رفضت بعض القوى في طرابلس نتائج الانتخابات البرلمانية، وسيطرت على العاصمة ما أدى إلى ترحيل البرلمان إلى مدينة طبرق في شرق البلاد، وأعقب ذلك، تشكيل حكومة "الإنقاذ" في أغسطس/آب 2014، ومقرها في طرابلس، برئاسة عمر الحاسي، ثم ترأسها خليفة الغويل، فيما انبثقت الحكومة المؤقتة عن برلمان طبرق في سبتمبر/أيلول من نفس العام، واتخذت مدينة البيضاء شرقي ليبيا مقرا لها، برئاسة عبد الله الثني.
استمرت الانقسامات والصراعات، التي تخللتها محاولات لتشكيل حكومة وحدة في ليبيا. وبعد عام من المباحثات للتوصل إلى حل لوقف النزاع الدائر، بين حكومتي طرابلس وطبرق، تشكلت حكومة الوفاق الوطني، بموجب اتفاق سلام وقعه برلمانيون ليبيون، في ديسمبر/كانون الأول 2015، برعاية الأمم المتحدة،لتتحوّل ليبيا من وضع الحكومتين إلى وضع الثلاث حكومات.
تصاعدت حينها وتيرة الصراع بين الحكومات الثلاث، وكانت التحالفات بين السياسيين وأمراء الحرب هي السائدة في مشهد انتهت فيه لغة السياسة، وتكلمت لغة الرصاص، فدخلت البلاد منعرجا أشدّ خطورة، وإزدادت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتحوّلت معيشة المواطن الليبي إلى حالة أشبه ما توصف "بالجحيم" الذي لا يطاق.
لم تفلح ترتيبات تقاسم السلطة، برعاية الأمم المتحدة والتي أنتجها ملتقى الحوار السياسي الليبي، في 5 شباط/فبراير 2021، وإنتهت بانتخاب حكومة وحدة وطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، في اكتساب الشرعية والقدرة على العمل، وفشلت في تحقيق المطلوب منها وهو التحضير للانتخابات، بل سارعت لعقد تحالفات مع المليشيات، المسيطر الفعلي على مقاليد السلطة في غرب البلاد.
كان هذا الأمر منطقيا، في بلد انتشرت فيها مئات الميليشيات، ذات الأيديولوجيا المختلفة، فمن أنصار الإخوان المسلمين وسلفيو أنصار الشريعة، علاوة على جهاديي تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة "داعش"، إلى الميليشيات القبلية والأخرى التابعة لتيارات سياسية بأجندات مختلفة، وصولا إلى العصابات الإجرامية والمافيا العابرة للقارات.
طريق "اللاّدولة"
تعتبر السياسة في الفكر اليوناني القديم، تعبيرا عن كيفية تنظيم شؤون الأفراد داخل المدينة، في حين يرتبط التصور الحديث للسياسة بمفهوم الدولة، باعتبارها كيان سياسي، تحتكر السلطة وتمارس العنف المشروع. يعرَّف المؤرخ الأمريكي، تشارلز تيلي، بناء الدولة بأنه مقدمة لظهور موظفين متخصصين، والسيطرة على أراضي الدولة، والولاء والاستمرارية، ومؤسسات دائمة مع دولة مركزية ومستقلة تحتكر استخدام العنف.
في حين عدّ فرانسيس فوكوياما، في كتابه "بناء الدولة"، عملية بناء الدولة من أهم قضايا المجتمع العالمي في الوقت الحاضر، التي عرفها بأنها "تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي. وهو بذلك نقيض تحجيمها". واعتبر فوكوياما أن غياب الإطار المؤسساتي الملائم في بعض الدول "تركها في وضع أسوأ مما كان يمكن أن تكون عليه في الواقع بغياب تلك الإصلاحات".
تحيلنا هذا التعريفات إلى وصف الحالة الليبية "باللاّدولة"،حيث تغرق البلاد في فوضى عارمة، وتتنافس الجماعات المسلحة، على بسط نفوذها في أرجاء البلاد، بينما تغيب المؤسسات الرسمية، ويتهافت القادة السياسيين، على عقد التحالفات مع قوى الأمر الواقع للاستئثار بمراكز السلطة والنفوذ وإقصاء الخصوم، فيما يعاني المواطنون، شظف العيش وامتهان الكرامة، من أجل الحصول على الحاجات الأساسية، وسط غياب الخدمات.
تحوّلت مظاهر العنف والاقتتال والجرائم المتعددة، إلى أخبار عادية تتناقلها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، في ظل ضعف حكومي تام، تجلت ملامحه بشكل كبير، حين تعرض رئيس الوزراء، علي زيدان، في 10 أكتوبر 2013، للاختطاف من قبل ميليشيا مسلحة تعرف باسم غرفة "عمليات ثوار ليبيا"، من الفندق الذي يقيم به في طرابلس.
الغريب أن كل الجماعات المسلحة تقريباً، تدّعي أنها تملك الشرعية، بسبب انتمائها إلى الأجهزة المتنافسة في الحكومات المتعددة. فأصبحت المؤسسات أداة في الصراع، يقع تسخيرها لمصالح حزبية وسياسية وقبلية وإقليمية، ومع غياب دستور ينظم العملية الانتخابية في البلاد، بات الوصول إلى الحكم رهين التحالفات مع أمراء الحرب، وأصبحت مهمّة الحكومة، توزيع مغانم السلطة على حلفائها لِضمان بقائها بالمنصب.
وبالرغم من انفتاح البلاد على التعددية الحزبية، مع ظهور عدة أحزاب -منها الليبيرالية، والإسلامية،والفيدرالية، وغيرها من التوجهات السياسية المختلفة- بعد ثورة العام 2011، إلاّ أنّ هذه الأحزاب أثبتت ضعفها في دخول معترك النشاط السياسي والشأن العام، وضاع صوتها في زحام صوت الرصاص ومنطق القوّة.
لم تنجح النخب السياسية في ليبيا، في فكّ رموز الأزمة التي عصفت بالبلاد، بل لعلّها تجاهلتها عن عمد، خدمة لمصالح ضيقة بعيدا عن مصلحة الوطن.فالبلاد دخلت منذ اليوم الأول للثورة التي أطاحت بنظام معمّر القذافي، في انقسامات عميقة بين ثائر على النظام، وآخر مؤيد، وثالث محايد، وأحدثت شرخا مجتمعيا عميقا ازداد اتساعا مع رغبات الثأر التي ولدها سقوط الضحايا جرّاء الاقتتال.
أثبتت التجارب في ليبيا، أن مسار العملية السياسية لم يفلح في بناء الدولة انطلاقا من المؤسسات بشكل سليم وعلى أسس صحيحة.
من "مملكة الرمال" إلى "جماهيرية الخيمة"
لا يمكن فصل واقع ليبيا الحالي عن ماضيها، فقد مرّت البلاد بحقب مختلفة ساهمت في رسم ملامح المشهد الحالي. إنتقلت ليبيا تاريخيا عبر عصور من الصراعات والمعاناة، وعاصرت تجربة الاحتلال بأشكال مختلفة، وهو الأمر الذي أثر بشكل كبير على تجربتها السياسية التي ظلّت قاصرة وهشة.
أثبتت التجارب في ليبيا، أن مسار العملية السياسية لم يفلح في بناء الدولة انطلاقا من المؤسسات بشكل سليم، وعلى أسس صحيحة. فمع إعلان الاستقلال في العام 1951، بدأ الحراك السياسي في البلاد مع إرساء الدستور، الذي نصّ على كون ليبيا، ملكية دستورية وبالملك إدريس الأول ملكاً عليها. من الدستور حدثاً مفصليّا في البلاد كونه الوثيقة الوطنية التشريعية الأولى والوحيدة، والتي ترسخ رسميا حقوق المواطنين الليبيين بعد الحرب وقيام الدولة القومية الليبية.
استطاعت ليبيا، تحقيق قفزة نوعية خلال تلك الفترة على المستوى الاقتصادي، وتحولت مما كان يوصف "بمملكة الرمال" لشدة الفقر والضعف الاقتصادي، إلى إحدى أغنى دول المنطقة بعد اكتشاف النفط. لكن النظام السياسي الوليد، لم ينجح في تجاوز المرجعيات التقليدية وروابط ما قبل الدولة، وسقط في فخّ الولاءات والمحسوبية، فصارت معظم المناصب الحكومية والوظائف العليا للدولة، من نصيب أقارب الملك وبطانته المقربة والقبائل والعائلات النافذة.
فشل التحديث السياسي، أمام منطق الغنائمية والنهب، تزامن ذلك مع تصاعد الرفض الشعبي لتحالف النظام الملكي مع القوى الغربية، وسماحه بإقامة قواعد عسكرية غربية على الأراضي الليبية، في وقت شهدت فيه المنطقة العربية صعودا كبيرا، لحركة القومية العربية التي قادها جمال عبدالناصر، وأسقط حينها الملكية في مصر.
سرعان ما سقطت الملكية في ليبيا أيضا، على يد ثلة من الضباط الوحدويين بقيادة معمر القذافي، في الفاتح من أيلول/سبتمبر 1969، والذي سمي لاحقا "بثورة الفاتح". دخلت ليبيا بعدها مرحلة جديدة بقيادة الشاب العشريني الذي تشبع بالأفكار القومية والاشتراكية، والعداء للرأسمالية والإقطاع،ورفع شعار توحيد الأمة العربية وتحقيق أهدافها.
استطاع القذافي، بفضل ذكائه وموهبته القيادية، وتوجهه الثوري القائم على روح العدل والتضامن،أن يكتسب جماهيرية كبيرة في الأوساط الليبية وحتى العربية والعالمية، خاصة بعد نجاحه في تحقيق الثورة التحريرية البترولية، التي ساهمت في تحقيق انتعاشة اقتصادية في ليبيا، وساهمت في تحسين مستوى المعيشة بشكل كبير.
عمل القذافي على تأميم الشركات البترولية والبنوك الأجنبية تحقيقا لمبدأ السيادة الوطنية، لكنه في المقابل قرر تجاوز المؤسسات التقليدية، واعتبر أن البيروقراطية تعرقل تواصله مع الشعب، فاستحدث عام 1977، نظاما أطلق عليه "الجماهيرية" أو "دولة الجماهير" بمعنى أن السلطة توضع بيد الآلاف من اللجان الشعبية التي حلّت محلّ المؤسسات الرسمية.
وفي مارس/آذار 1979، أعلن القذافي، استقالته من جميع مناصبه الرسمية، وتفرغ لقيادة الثورة لا السلطة التي هي في الأصل رئاسة الدولة. لكن وضع السلطة في يد اللجان الشعبية، وإلغاء الدستور والمؤسسات ساهم في ضعف بناء الدولة. هذا الأمر أكده سيف الإسلام نجل الزعيم الليبي، حين نفي جود سلطة شعبية في ليبيا، ورأى أن حالة الفوضى السائدة عائدة إلى غياب الدستور والقوانين والمرجعية الثابتة، وعدم وجود خطط مستقبلية للنظم الإدارية.
القذافي الابن الذي برز بشكل كبير، في السنوات الأخيرة من عمر نظام أبيه، كلاعب سياسي بارز على المستوى الدولي، حيث ساهم في تحسين العلاقات الليبية مع الدول الغربية، بعد نجح في حلّ ملفات شائكة، بدءا بملف لوكربي، مرورا ببرامج الأسلحة المحظورة، وصولا إلى قضية الإفراج عن الممرضات البلغاريات.
وحمل سيف الإسلام، أفكار سياسية جديدة، لإصلاح النظام الليبي، رسمه في مشروع طموح يسمى "مشروع ليبيا الغد"، هدف من خلاله لبناء دولة المؤسسات، لكنّ المشروع اصطدم بصعوبات داخلية، رسمتها مراكز النفوذ والمصالح، وأخرى خارجية تمثلت في التطورات الدولية، وخارطة التغييرات التي رسمتها القوى الغربية لدول المنطقة العربية، والتي بدأت منذ غزو العراق، وصولا إلى الربيع العربي، الذي أجهض محاولات الإصلاح وترك ليبيا نهبا للصراعات.
اليوم ما زالت القيادات السياسية في ليبيا، تخطو على خطى سابقيها، من خلال تركيز سلطة مزدوجة، وتأسيس "لجان مسلّحة" بولاءات مختلفة لخدمة مصالحها الضيقة وحماية مناصبها، بدل تأسيس المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية، التي تمكّن من تركيز القرار السياسي وبناء الدولة على أسس صحيحة. حالة من الهذيان السياسي والتجاذبات بين النخب السياسية، ترسم ملامح أزمة وجودية خطيرة في الطريق لبناء دولة حديثة موحدة، وتنذر ببقاء ليبيا في دائرة "اللاّدولة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع