ترسخ مصطلح "شعبان بلا مُخ" في الخطاب السياسي الإيراني منذ سبعين عاماً، حتى اعتُبر من أقدم المصطلحات استعمالاً في الصحف المحلية وخطاب المعارضة. ويشير المصطلح إلى أي جماعة بلطجية تقوم بأعمال شغب أو عنف أو فوضى بدعم حكومي من أجل سياسات النظام، فيقال إنه أو إنهم "شعبان بلا مُخ".
تعود الحكاية الحقيقية إلى عام 1953، عندما دبّر آخر شاه إيران، محمد رضا شاه البهلوي، برعاية أمريكية وبريطانية انقلاباً عسكرياً ضد رئيس الوزراء المنتخب برلمانياً الدكتور محمد مصدق، الذي قام بتأميم شركة النفط، وأخذ بخطوات سياسية كبيرة لتحديد صلاحيات الملك، فشعر النظام وداعموه الغربيون حينذاك بخطورة سيطرة الاتحاد السوفياتي على مصير إيران.
نفذت قوى الغرب خطتها في خلق فوضى في البلاد لإسقاط الحكومة، واستعانت الشرطة الإيرانية بجماعات متعددة داعمة للملك، للنزول إلى الشارع ضد رئيس الوزراء الوطني تحت شعار "يحيا الشاه". ومن ضمن قادة الحشود في وسط الميدان، هو رجل عملاق ملتحٍ باسم شعبان جعفري، المشهور بـ"شعبان بلا مُخ".
ترسخ مصطلح "شعبان بلا مُخ" في الخطاب السياسي الإيراني منذ سبعين عاماً، حتى اعتُبر من أقدم المصطلحات استعمالاً في الصحف المحلية وخطاب المعارضة
وفي بعض الصور المتبقية من ذلك اليوم المرير في المخيلة الإيرانية، يظهر شعبان وسط الشارع يحمل علم البلاد ويصدح بدعم الملك برفقة زملائه. وقد ضخمت المعارضة دورَه في الانقلاب حتى بات أيقونتها بمرور الزمان، نتيجة لنيله مكانة كبيرة ومرموقة في البلاط الملكي في ما بعد.
لم يكن شعبان سياسياً حتى ذلك اليوم ولم يسمع المجتمع الإيراني باسمه قبل الانقلاب. وفي كتاب مذكراته وهو على هيئة حوار قامت به الصحافية هُما سَرشار، يذكر شعبان: "الحقيقة لا أعرف السياسة وما معناها. صدّقيني كنت منشغلاً بعملي ولا دخل لي لا بالحكومة ولا الملك ولا رئيس الوزراء. وحياتك! هم من وضعوني في ذلك المكان".
"من هنا جاءت تسميتي"
ولد شعبان جعفري في آذار/مارس 1921 في طهران. تربى في عائلة كبيرة ومتدينة ووافقت ولادته ولادةَ محمد رضا شاه, "لأبي أربعة عشر طفلاً وأنا كنت آخر العنقود"، حسبما يقول.
كانت دراسته عبارة عن طرد من الصفوف الدراسية، واشتهر في المدرسة بلقب "بلا مُخ"، وعن هذا يشرح: "حين كان التلامذة يريدون الذهاب إلى دورة المياه كانوا يرفعون اصبع سبابتهم لأخذ الإذن، فيسمح لهم المدرس بالذهاب٫ بينما لم أفعل ذلك٫ فأنا كنت أخرج متى ما أحببت. وحينها كان يضرب المعلم باصبعه على صدغه ويقول: (مخه تالف. هو بلا مُخ). من هنا جاءت تسميتي".
خرج شعبان بعد أربع سنوات من الدراسة دون العودة لها. في هذه السنوات دخل السجن إثر مشاجرات مع الآخرين ودار اسمه على الألسن، فيصف وضعه في تلك الفترة: "كنت أدخل في مشاجرات، وأصبحتُ أكثر شهرة. حينها لم أكن ضمن مجموعة أو فرقة خاصة".
اتجه شعبان في السن 14 وبعد موت أبيه، إلى رياضة "الزُورخانه" (المصارعة التقليدية)، وأصبح رياضياً محترفاً فيها، لكنه استمر بأعماله الفوضوية في طهران كما ذكر عنه.
وقبل أعوام من الانقلاب العسكري، قام شعبان وزملاؤه وبدعم حكومي في خلق فوضى أثناء عرض مسرحية "الناس"، وفضها٫ بما أنها كانت تتضمن معانيَ توحي بانتقاد للشاه. حينها وقع في دائرة غضب المفكرين والطبقة النخبوية اليسارية حتى أطلقوا عليه لقب "المخرب الحكومي".
النفي من العاصمة
بعد هذا الحدث أبعدته الشرطة إلى مدينة لاهيجان في شمال البلاد لفترة وجيزة، "قال ضابط الشرطة أين تحبّ أن أرسلك؟ قلت حقيقةً طبيعة إقليم رشت ومدينة لاهيجان جيدة، أرسلني هناك".
تزوج شعبان في لاهيجان وقام بإدارة صالة رياضية فيها قبل أن يعود إلى العاصمة بعد سنة. وأظهرت الوثائق في ما بعد أن شعبان كان ضمن قائمة الشرطة ممن يحصلون على راتب كموظف للحكومة في تنفيذ أعمال فوضوية، منذ تلك اللحظة التي ساهم في فض المسرحية.
ينفي شعبان صحة هذه الوثائق ولا يجد نفسه في هذا الموقع، كما أنه رفض دوره في القيادة الميدانية لمجموعة بلطجية بيوم انقلاب 1953، وينكر استلامه أموالاً من أجل أعمال الشغب ضد حكومة محمد مصدق.
هكذا رد على أسئلة الصحافية هُما سَرشار في كتاب عن سيرة حياته:
"س: هل سلموك أموالاً لتقوم بهذه الأعمال؟
ج: كنتُ يا سيدتي فقيراً وليس لديّ حتى بنطلون، لم أستلم مالاً من أي أحد.
س: أي أنك لم تعمل من أجل المال؟
ج: أبداً.
س: هل كنت تقوم بتلك الأعمال من أجل الحصول على شهرة أو أن يحترمك الناس أو لكي يحسبوك مثلاً كبير الحارة؟
ج: كلا. كنت أعرف أن الرئيس مصدق أراد طرد الشاه من البلاد في ذلك اليوم. كنت أحبّ الشاه، فجئت كي أمانع من خروجه٫ ليس إلا. ولم يكن الأمر أن يسلمني أحد مالاً حتى أقوم بعمل ما. أبداً".
لقد أخذتني الحمية ضد شعار يحيى ستالين
وشرح شعبان شجاره مع الشيوعيين واليساريين ضد الشاه في يوم الانقلاب: "لم تستطع الشرطة فض اجتماعهم، لأنّ صفهم الأول كان أمام البرلمان٫ والصف الآخر كان يصل إلى محطة القطار. ويصدحون: الموت للشاه٫ ويحيا ستالين". لقد أخذتني الحمية، وكنت أهجم عليهم من شدّة غضبي".
"حين كان التلامذة يريدون الذهاب إلى دورة المياه كانوا يرفعون اصبع الإشارة لأخذ الإذن، فيسمح لهم المدرس بالذهاب٫ بينما لا لم أفعل ذلك. كنت أخرج متى ما أحببت. وحينها يضرب المدرس باصبعه على صدغه ويقول: (مخه تالف. هو بلا مُخ). من هنا جاءت تسميتي"
وحول تضخیم دوره في أحداث الانقلاب والإطاحة برئيس الوزراء يورد شعبان في مذكراته: "إن قمت أنا بإسقاط الحكومة في بلد يمتلك ملكاً ورئيساً للوزراء وجيشاً، فلا خير بتلك الحكومة. ثانياً هناك من قال إنني التقيتُ بعملاء أمريكيين، بيد أنني كنت داخل السجن حتى ظهر يوم الانقلاب".
من شعبان بلا مخ إلى شعبان مانح التاج
قد يكون صحيحاً أنّ شعبان كان في السجن يوم الانقلاب ولكن في ظهيرة نفس اليوم تم إطلاق سراحه وعاد للشارع، كما يعتقد البعض أنه أطلق سراحه في الصباح.
مما لا شك فيه، هو مساهمة هذا الرجل الرياضي العملاق في خلق الفوضى لصالح الانقلاب العسكري، ومما ساهم في ترسيخ ذلك الدور المضخم له، هو منحه لقب "تاج بَخْش" (مانح التاج) من قبل أصدقائه الذين رأوا في أعماله البطولية مساهمةً كبيرة في "منح التاج" للشاه من جديد، بعد أن كانت مواقف رئيس الوزراء ستقضي عليه في ظنهم.
بات شعبان مكروهاً للغاية لدى قوى المعارضة بتعدد تياراتها، حتى أصبح أيقونة الأعمال البلطجية المدعومة رسمياً، ولكن الرجل أصبح عزيز النظام وأيقونة البلاد في رياضة الزورخانه الإيرانية، وشَيدت له الحكومة صالة رياضية فريدة وسط طهران باسمه.
تحولت صالته الرياضية إلى أشهر المواقع السياحية آنذاك للتعرف على البطل الرياضي ورياضة الزورخانه، وقد حضر الصالةَ قادةٌ وملوك وأمراء من دول مختلفة، لمشاهدة شعبان وفنه الرياضي المبهر، كما وثقته كاميرات تصوير الإعلام الغربي كثيراً.
وكل ما مضى الزمان بشعبان وصيته الوطني والدولي، وصوره وأفلامه في الإعلام المحلي والأجنبي، بات الانتقام منه أمراً حتمياً على يد الثوار، وبعد انتصار ثورة 1979 والإطاحة بالنظام الملكي، كان شعبان ضمن قائمة المطلوبين للشعب، ليحاكم في المحاكم الثورية فوراً، إلا أنه غادر إلى أمريكا قبل إلقاء القبض عليه ومات في ولاية كاليفورنيا قي آب/أغسطس عام 2006، تزامناً مع ذكرى الانقلاب العسكري ضد مصدق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...