بزيّ جندي إسباني من حقبة الديكتاتور الإسباني الجنرال فرانكو، وتحت لهيب شمس نهار مدينة ورززات (جنوب شرق المغرب)، يقف عبد اللطيف (44 سنةً)، متهالك القوى وسط صف طويل من الكومبارس ليقبض أجرته اليومية التي تعادل 300 درهم (نحو 30 دولاراً)، بعد يوم شاق من التصوير.
اعتاد جسده جلسة البيت والمقهى طوال سنتي الجائحة الماضيتين، لكنه يجد نفسه اليوم عائداً إلى مهنته كممثل ثانوي في أدوار لفائدة أفلام أجنبية تُصوَّر في المدينة الشهيرة بـ"هوليود إفريقيا".
أجور لا تكفي
"هذه الأوراق الحمراء الثلاثة لا تكفي في شيء"، يقول ويشير إلى الأوراق المالية من فئة مئة درهم، ويكمل حديثه: "لكنها تبقى أفضل من الاستدانة من الأقارب، فمنذ الجائحة لم أجد عملاً أعوض به مهنتي ككومبارس، فهي تبقى خياري الوحيد لمواجهة شبح البطالة الذي يطارد المدينة"، هكذا تحدث عبد اللطيف، إلى رصيف22، وقسمات وجهه الأسمر تعبّر عن الحسرة، بعد تسلمه أجرته غير المنتظمة، التي سرعان ما سيفتقدها عقب انتهاء التصوير.
فئة الكومبارس تحتاج إلى رعاية من قبل السلطات وإلى ضرورة تحديد سقف معقول للأجور يناسب كل الأطراف بمن فيهم المنتجين
ورززات، المدينة شبه الصحراوية التي تعيش تحت وطأة الفقر والبطالة منذ سنين طويلة، عانت أكثر خلال فترة الجائحة التي حرمت شباب المنطقة، كما هو الحال بالنسبة إلى عبد اللطيف، من موردهم الوحيد وهو العمل في إنتاجات سينمائية أجنبية، ولم يجدوا بعدها سبيلاً للحصول على الرزق. لكن مع بداية سنة 2023، عاد إليهم بعض الأمل مع الإعلان عن تصوير أحد الأفلام الأجنبية التي تتحدث عن حقبة الاستعمار الإسباني للصحراء، وهو ما مكّنه من الحصول على دور ممثل ثانوي.
يشعر عبد اللطيف، بزهو مؤقت يولّده الزي الذي يرتديه، فلطالما كان حلمه الانضمام إلى الجيش بعد خيبة الالتحاق بالجامعة والإخفاق ثلاث مرات في الحصول على البكالوريا. يقول: "الكومبارس هي مهنة من لا مهنة له، فلا أنت ممثل حقيقي ولا أنت تساهم في أحداث الفيلم، أنت مجرد ديكور يتم العبث بك كما يريد المخرج، وأحياناً تتلقى الشتائم والإهانات لأسباب واهية، وإذا أحسّ أحدنا بالتعب، أو طلب آخر رشفة ماء ليداوي بها عطشه، عليه أن يستعدّ لخسارة وظيفته".
بجانب عبد اللطيف، تقف مجموعة من الشبان بأزياء موحدة، يتوسّطهم ميلود جغو (30 سنةً)، وهو أيضاً ممثل ثانوي، بزيّ يختلف قليلاً عن باقي الممثلين، يلعب من خلاله دور أحد سكان الصحراء.
"الكومبارس هي مهنة من لا مهنة له، فلا أنت ممثل حقيقي ولا أنت تساهم في أحداث الفيلم، أنت مجرد ديكور يتم العبث بك كما يريد المخرج، وأحياناً تتلقى الشتائم والإهانات لأسباب واهية"
يجد جغو، على عكس عبد اللطيف، أن "أجرة 300 درهم كافية في مدينة يقلّ فيها الاستهلاك والحركة"، ويضيف: "تبشّر السنة الحالية بالخير. حصولي على عمل في هذا الفيلم هبة من الله، فالمال الذي أتحصل عليه يكفيني لسد حاجياتي الأساسية، عكس فترات جائحة كورونا، فحينها كنت لا أجد مورداً كافياً، فالدعم الذي قدّمته الدولة لم يكن يكفيني لمدة طويلة، مما جعلني أبحث عن عمل آخر لكن من دون جدوى، فالكل في المدينة، الميسورون منهم حتى، عانوا خلال تلك الفترة".
طريق النجومية الشاقة
تعتمد مدينة ورززات من الناحية الاقتصادية، بحسب أرقام حكومية، على السياحة والصناعة التقليدية إلى جانب السينما، والتي توفر مناصب شغل مهمةً. لكن وفي ظل غياب أنشطة صناعية منتجة لفرص عمل، يفضّل كثيرون من شباب المدينة الهجرة إلى المدن الشمالية، ومن يبقى منهم يقتات من أدوار الكومبارس وأجورها غير المنتظمة. لكن قلةً منهم من يجعلونها طريقاً نحو النجومية، كما الحال بالنسبة إلى أنس (26 سنةً)، الذي يطمح إلى أن يصبح ممثلاً مشهوراً، إذ يقول لرصيف22: "مع كل فرصة أطمح للحصول على إعجاب المخرجين الأجانب، فلطالما راودني حلم التمثيل. شاركت في أفلام عالمية حققت نسب مشاهدة قياسيةً"، ويضيف أنس، وهو يستعرض أمامنا صور مشاركاته في أفلام أجنبية بفخر كبير: "لقد واجهت احتقاراً كبيراً من جانب العديد من المخرجين، وبعضهم تجاهل الحديث معي، لكن في مسلسل ‘لعبة العروش’ الشهير، والذي شاركت فيه كممثل ثانوي، تلقيت دعماً معنوياً من قبل المنتج الشهير ديفيد بينيوف، الذي دعاني إلى أن أواصل القتال من أجل حلمي كما يواصل جنود الملكة دانريس الدفاع عنها".
تعتمد مدينة ورززات من الناحية الاقتصادية، بحسب أرقام حكومية، على السياحة والصناعة التقليدية إلى جانب السينما، والتي توفر مناصب شغل مهمةً
برغم طابعها الثانوي، إلا أن أدوار الكومبارس لا تسلم من شبهات التلاعب والمحسوبية، إذ يشكو العديد من شباب المدينة الراغبين في الحصول على أدوار ممثلين ثانويين مما يقولون إنها "رشاوى" يتلقاها الوسطاء الذين يعملون على تنظيم عملية انتقاء الممثلين "الكاستينغ". لكن إبراهيم شكري (50 سنةً)، وهو أحد منظمي هذه المباريات، ينفي الأمر في حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "اختيار الممثلين يتم انطلاقاً من طبيعة الفيلم المصوّر، فمسلسل ‘لعبة العروش’ كان يتطلب بنيةً جسمانيةً قويةً، وطول قامة مناسباً، وهو ما يجعلنا نختار فئةً محددةً، كما أن اختيار الممثلين ليس اختصاصنا نحن فقط، بل يشارك فيه أيضاً المخرج الرئيسي وهو صاحب الكلمة الأخيرة".
ميزانية الفيلم تحدد الأجور
في جوابه عن مسألة الأجور التي يتلقاها هؤلاء الممثلون، والتي يراها كثيرون منهم "غير كافية"، يضيف شكري أن "كل فيلم له ميزانيته الخاصة، وإذا كانت الاعتمادات المالية المرصودة له كبيرةً، بدورها أجور الكومبارس تكون مرتفعةً"، لكن مع استمرار تداعيات الجائحة، أصبح من الصعب رفع الأجور، "فالفيلم الإسباني الذي يتم تصويره حالياً في المدينة، ميزانيته متواضعة جداً، وهو ما استدعى تخصيص 300 درهم يومياً أجراً للممثلين الكومبارس".
أشار شكري الذي يمتهن إدارة الكاستينغ في الأفلام الأجنبية المصورة في مدينة ورززات لسنين طويلة، إلى أنه "في الفترة السابقة لجائحة كورونا كانت الأجور مرتفعةً، لكن حالياً ومع استمرار الأداء السينمائي 'المحتشم' في المدينة، أصبحت مسألة اختيار توظيف ممثلين ‘كومبارس’ تتم بأجور ضعيفة، وهي مهمة شاقة، فمن الصعب إقناع شباب اليوم بهذه الأجور، لكنك تضطر إلى وضعهم أمام الأمر الواقع، فجلّهم يعانون من البطالة ولا يجدون عملاً آخر، لذا تحاول اللعب على هذا الوتر 'الحسّاس'".
أدوار الكومبارس لا تسلم من شبهات التلاعب والمحسوبية، إذ يشكو العديد من شباب المدينة الراغبين في الحصول على أدوار ممثلين ثانويين مما يقولون إنها "رشاوى" يتلقاها الوسطاء
يحظى شكري بثقة المخرجين الأجانب، فالسنوات الطويلة التي خبر فيها المجال، جعلته يعرف حاجياتهم، ونوع الممثلين الثانويين الذين يحتاجونهم في لقطاتهم المتنوعة، كما يشكل إتقانه للّغات الإسبانية والإنكليزية والفرنسية، وسيلةً للتواصل الفعال مع المنتجين الأجانب. يقول عن هذا: "كان ضرورياً أن أتعلم هذه اللغات، فالتفاوض على أجور ونوعيات الممثلين، لن يتم بشكل جيد من دون لغة واضحة".
غياب تأطير قانوني
من جانبه يرى الخبير السياحي الزوبير بوحوت، أن فئة الكومبارس هي الحلقة "الأضعف" في سلسلة إنتاج الأفلام في المغرب، خاصةً في مدينة ورززات، فعلى عكس التقنيين تكون أجورهم عشوائيةً وزهيدةً للغاية، ذلك بالنظر إلى الجهد الذي يبذلونه طوال أيام التصوير، وهو ما يفتح النقاش حول غياب إطار قانوني يحدد أجور هذه الفئة، إذ برغم كل ما يقال عن دورهم في الأفلام، إلا أنه مهم للغاية من أجل إنجاح العمل المصوّر.
يضيف الخبير السياحي لرصيف، أن "فئة الكومبارس تحتاج إلى رعاية من قبل السلطات وإلى ضرورة تحديد سقف معقول للأجور يناسب كل الأطراف بمن فيهم المنتجين، والابتعاد عن النظرة الدنيوية التي يلقونها خلال عمليات التصوير".
يشير بوحوت، إلى أن "فئة الكومبارس كانت تعاني من قلة الأجور وفرص العمل، حتى قبل الجائحة، ذلك لأن الإنتاجات السينمائية في المدينة شهدت منذ سنة 2018، تراجعاً ملحوظاً، وهو ما جعل هذا السوق يشهد عرضاً ضعيفاً في مواجهة طلب كبير، وجعل شباب المنطقة يقبلون بأجور ضئيلة، وسط غياب فرص أخرى".
يستيقظ عبد اللطيف، في ساعات مبكرة من أجل الالتحاق بستوديو التصوير قصد مباشرة العمل، ويرتدي فور وصوله عبر حافلة نقل عمومي متهالكة، زيّ الجندي الإسباني من أجل تصوير لقطات تتحدث عن هجوم الجيش الإسباني على إحدى القبائل الثائرة، فهي اللقطة ما قبل الأخيرة حتى ينتهي الفيلم ويعود بعدها للجلوس في المنزل ومتابعة مباريات الأندية الأوروبية في المقهى، وهو ما يثير الخوف لديه، إذ يقول ممازحاً: "لو كانت تفاصيل الحرب الإسبانية مع القبائل الثائرة في الصحراء أطول، لحصلت حينها على أوراق مالية حمراء كثيرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...