شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تأملات في النسوية (2)... هل هناك شيء اسمه

تأملات في النسوية (2)... هل هناك شيء اسمه "جنس نسوي"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تعرّفتُ إلى الجنس من أحد أبوابه الأكثر صدماً وخطورةً. هذا واقع لا يمكنني شيءٌ حياله، ولستُ أصلاً واثقةً، لو كانت في وسعي العودة إلى الوراء وتغيير الأمر، من أني كنتُ لأغيّره، لأسباب متنوّعة لا مجال -ولا حاجة أيضاً- إلى الخوض فيها الآن، وهنا. 

بين مارتين وجوستين

كنتُ يومذاك قارئةً نهمةً في الحادية عشرة من العمر أو أكثر بقليل، تلتهم كل ما يقع بين يديها من كتبٍ التهاماً، حين عثرتُ بالمصادفة على كتاب بعنوان "جوستين"، لأديب فرنسي جهنميّ اسمه الماركي دو ساد. كتابٌ أقلّ ما يمكن أن يقال فيه وعنه إنه مروّع لفتاة في تلك السنّ، بل مروّع لأي إنسان مهما كان عمره، إذا لم يكن مهيّأً ومتوفّزاً و"ملقّحاً" لتلقّيه. تلك الفتاة كانت، إلى ذلك، تتلقّى تربيةً محافظةً للغاية -لنسمِّ تلك التربية "معمل عقد" من الطراز العربي الرفيع- تنأى بها حتى عن التفكير في مثل هذه الأمور، والإتيان على ذكرها، فكم بالأحرى الاستفسار عنها والتجرّؤ على مناقشتها بصوتٍ عالٍ مع أي كان. 

كنتُ، في طفولتي، قد أدمنتُ قراءة سلسلةٍ من المجلدات بالفرنسية بعنوان "مارتين"، عن فتاة مهضومة وشقيّة تكتشف الدنيا وتعيش مغامرات متنوّعةً: "مارتين تذهب إلى البحر"، "مارتين تخيّم"، "مارتين في حديقة الحيوانات"، "مارتين تسافر مع والديها"، وهكذا. قصصٌ مسلية، طريفة، ومزيّنة بالكثير من الرسوم الجميلة. لأجل ذلك، عندما قرأتُ اسم "جوستين" على غلاف الكتاب المذكور، في تلك اللحظة-المنعطف، لاح فوراً في ذاكرتي اسم "مارتين"، وخُيّل إليّ أن العمل الذي بين يديّ سيكون من الطراز نفسه، ولكن موجّهاً إلى عمرٍ أكبر، كونه لا يحتوي على رسوم (لحسن الحظ، لم تكن تلك الطبعة تحتوي على رسوم، إذ اكتشفتُ في ما بعد طبعات كثيرةً من "جوستين" تحتوي على رسوم، سأكتفي بالقول إنها "خلاقة"، وأملك اليوم مجموعةً كبيرةً منها). ولكن شتّان، كما اتضح لي منذ الصفحات الأولى، ما بين مارتين وجوستين، بين مغامرات هذه ومغامرات تلك!

حدثت لي الحياة إذاً، ولكن ليس فقط. حدث لي شيء آخر، في غاية الأهمية، في الوقت نفسه: حدثت لي النسوية. وبشدّة، وبعمق، وبشراسة.

كان ذلك الكتاب الصادم، الفاحش، أول احتكاك لي مع مسألة المضاجعة والعلاقات الجنسية. تخيّلوا فداحة الوضع: القفز مرّةً واحدةً وبلا مقدمات أو حتى تلميحات تمهيدية، من حالة اللا معرفة شبه المطلقة -لن أسمّيها براءةً، لا أؤمن بهذه الكلمة- إلى عالم الأورجيات الجماعية بين رجال بالغين (غالبيتهم كهنة)، وطفلات لا حول لهنّ ولا قوّة، مع ما يرافق تلك الحفلات الماجنة، في خيال ساد، الساديّ الخصيب، من إذلال وقهر وتعذيب واغتصاب وأوجاع جسدية ونفسية على أنواعها. كنتُ أرى وأشمّ وألمس وأسمع وأذوق كوكتيلاً من الدموع والدماء والصراخ، والمنيّ يزداد تكثّفاً وحِدّةً من صفحة إلى أخرى، من دون أن يمنحني النصّ الأبوكاليبتي الذي بين يديّ هنيهةً لأتنفّس أو لحظةً لأرتاح أو فاصلاً لأستوعب ما كان موصوفاً أمامي بالكلمات. كلمات فجّة، جلفة، وصاعقة، تكاد تضاهي ما كانت تصوّره خشونةً ووحشيةً وإرهاباً. طبعاً، لا حديث، في خضمّ كل تلك الفظاعات، لا عن حبّ ولا عن إحساس ولا حتى عن رغبة وانجذاب ولا من يحزنون، بل كان كلّه كرنفالاً من الغرائز البهيمية والإجبار المستبد والتخضيع الباطش والأنانية الصرفة والحيوانية الشرسة: عنفٌ خالصٌ أصمّ لا تنفع معه أي محاولات استرحام أو تضرّع أو توسّل من جانب الطفلات-"الذبائح". 

في عالمٍ موازٍ تماماً لهذا العالم -موازٍ إلى حد أن هذين العالمين كانا يستحيل أن يلتقيا آنذاك في عقلي ووجداني- كانت تصلني ذبذبات، لا واعية تارةً، ومباشرةً وحسيةً طوراً، عن معنى الحبّ وطريقة عيشه، من روايات رومنطيقية وأفلام رومنطيقية وأغنيات رومنطيقية حفلت بها طفولتي ومراهقتي. يا عيني على الحبّ! مشاعر جيّاشة وكلمات شاعرية وحنان جارف واهتمام سخي وأشواق صافية. وأيضاً: قبلات ناعمة وعناقات أفلاطونية ويد تلامس الشَّعر برقّة لترفع خصلةً طائشةً عن الخدّ المتورّد خجلاً. يعني سكّر زيادة حتى الغثيان. لا شهوات، لا عري، لا لحم، لا أعضاء تناسلية "في الدقّ". لا معاناة خصوصاً. لا خبيط ولا خنق ولا إهانة ولا إكراه. الجنس، إذاً، كوكبٌ، والحبّ كوكبٌ آخر، في مجرّة أخرى. تطرّفان تفصلهما هاوية. بلاك أند وايت. هكذا تَكوّنا في مخيلتي، وهكذا تلقّيتُهما وتلقّنتُهما. للعلم، لم يؤدِّ هذا إلى أن أفضّل واحداً على آخر -ويهمنّي هنا أن أعترف بذلك لكي أنصف ذاتي الفتيّة تلك، وشجاعتها وفضولها ووقاحتها، في حين كان يمكن لها بسهولة أن تصاب برهاب الجنس- بل كنتُ أريد الحب وأريد الجنس بالقوّة نفسها، وأتلهف إلى اختبارهما بعطشٍ متساوٍ، برغم هول الثاني مثلما تناهى إليّ، وارتعابي الشديد منه (أو ربما بسبب ذلك). فعلاً، كنتُ تواقةً إلى هذا وذاك، لكنهما كانتا تجربتين مختلفتين ومنفصلتين تماماً في اعتقادي. كنتُ أفكّر: هناك أولئك الذين نحبّ من جهة، وأولئك الذين نضاجع، أو بالأحرى، "على قدّ فهماتي" في تلك الأيام، أولئك الذين يضاجعوننا، من جهة ثانية.

خلصنا بقى!

ثم حدثت الحياة. حدثت الحياة نعم، وشرع الكوكبان، كوكب الجنس وكوكب الحبّ، يتقاربان ويندمجان تدريجاً، ليس كلياً، وليس في كل المرّات، ولكن في عدد لا بأس به منها في الأقل. قصّة وراء قصة وعلاقة وراء أخرى، تدانى الاثنان في مفهومي وتوازنا مع مرور الوقت، ولم يعد الفصل الراديكالي بينهما، أو بين طبيعتيهما، حاسماً مثلما كان في البدايات. في موازاة ذلك، شرعتُ أيضاً أفهم جسدي وخيالي أكثر، وأستوعب متطلباتهما وحاجاتهما ورغباتهما أفضل. هكذا أدركتُ تدريجاً أني لن أتخلّص من تأثيرات الماركي دو ساد المبكّرة، التكوينية، على أهوائي واستيهاماتي الجنسية، وتقبّلتُ ذلك، لا بل تعلّمتُ أن أحبّ هذا الواقع وأقدّره وأستثمره، بعدما قرأتُ أكثر عن الموضوع وثقّفت نفسي فيه. لكل منّا ميوله وتحفيزاته وفانتاسماته، وليس هناك بالضرورة شيء غير طبيعي في هذه الميول والتحفيزات والفانتاسمات، طالما أنها تتفاعل وتتحقق بين شخصين راشدين يدركان تماماً ماذا يريدان ويفعلان، ويعبّران عنه بلا خوف أو ضغوط، ويقومان به بنضج وعن رغبة حقيقية.

من أنا؟ سادو-مازوشيست أو فيمنيست؟ كيف يمكن أن يطلب جسدي ما يرفضه عقلي وكرامتي؟ كيف يُعقل أن تتنافر رغباتي إلى هذا الحد مع عزّة نفسي ونرجسيتي؟ كيف يصحّ أن أقبل وأتمتع في غرفة النوم، بما قد أرتكب جريمةً بسببه في الصالون؟

حدثت لي الحياة إذاً، ولكن ليس فقط. حدث لي شيء آخر، في غاية الأهمية، في الوقت نفسه: حدثت لي النسوية. وبشدّة، وبعمق، وبشراسة. لا بل أدركتُ أني، على غرار نسوياتٍ كثيراتٍ سواي، كنتُ نسويةً حتى قبل أن أكتشف الكلمة والمفهوم والنضال. الغضب والتمرّد عندي، والرغبة في إرساء العدالة، سبقت تسميتها. عرفتُ منذ بدايات الوعي أني أنثى تؤمن بقوتها وقدراتها وطموحاتها ولن تسمح لأحد بالوقوف في وجه أحلامها؛ أنثى سوف تصبو طوال حياتها الى تحقيق استقلاليتها، المادية والمعنوية على حد سواء، كي لا تتيح لأيٍّ كان ابتزازها؛ أنثى ترفض التمييز والتحيّز واللا مساواة؛ ترفض العنف الجسدي والمعنوي والثقافي والاقتصادي الممارس على المرأة؛ ترفض جرائم اللا شرف وتزويج القاصرات ومنظومة الولاية وممارسة الختان وفرض النقاب وأدوات التسليع والحرمان من التعليم وسواها من الارتكابات المهولة في حق الفتيات؛ ترفض كليشيه أن المرأة كائن ثانوي وأكسسوار وضلع؛ ترفض أن يُنظَر إليها كـ"فراشة" هشّة وضعيفة (خلصنا بقى!)؛ ترفض منطق "كوني جميلةً واسكتي"، بل ترفض منطق "اسكتي" كلّه كيفما كان وفي كل الظروف؛ ترفض أن يُتَوقَّع منها أن تخضع وتطيع وتلبي وتضحي وتقول نعم رغماً عنها؛ ترفض أنها كأنْ موجودة لا لشيء سوى لترضي الذكر؛ ترفض أن يكون دورها محصوراً بالزواج والإنجاب والطبخ والنفخ وسواها؛ ترفض واقع أن القوانين تظلمها، والعادات والتقاليد تظلمها، والأديان تظلمها، والسياسات تظلمها، والحروب تظلمها، وحتى البيولوجيا تظلمها، وهلمّ جرّاً.

ترفض كليشيه أن المرأة كائن ثانوي وأكسسوار وضلع؛ ترفض أن يُنظَر إليها كـ"فراشة" هشّة وضعيفة (خلصنا بقى!)

عرفتُ، في اختصار، أني امرأة نسوية يُغضبها انعدام المساواة الفادح في الحقوق والفرص بين الجنسين، والإجحاف الذي مأسسه، ولا يزال، نظامٌ أبويٌّ عالمي عابر للقارات والحضارات والأزمنة، قائمٌ نتيجة حلف تاريخي متين بين عوالم الدين والسياسة والمال. وعرفتُ أيضاً أني، وبالقدر نفسه، امرأة نسوية ترفض أن يُختصَر غضبها هذا، ودفاعها عن كرامتها، بعبارة "أنتِ تكرهين الرجال". خسئ أيّاً كان أن يُنقِص هكذا من قيمة نضالي ونضال كثيرات، بهذه الدرجة من الاستسهال والتعميم والتبسيط والتتفيه المهينة والخطأ والخبيثة، التي لا تهدف سوى إلى تشويه كفاح محقّ ونبيل وإنساني وراقٍ، بالزعم بأنه، في حقيقة الأمر، ليس سوى "ظلم مضاد"، ومحض رد فعل طفولي وانتقام ساذج. لا وألف لا. هي كراهية الظلم لا كراهية الرجال. كراهية التمييز لا كراهية الرجال. كراهية المعيارين والمكيالين لا كراهية الرجال. كراهية النظام البطريركي (الذي يؤذي الرجال بقدر ما يؤذي النساء)، لا كراهية الرجال. كراهية الاستقواء والاستعلاء والتحقير والتشييء والاستملاك والتحامل لا كراهية الرجال. كراهية "السلبطة" والاستغلال والتذاكي والتعسف والتعنيف والابتزاز لا كراهية الرجال. فمَن لديه، من الأساتذة، مسلّة ممّا سبق تحت إبطه، فلتنعره. وبقسوة. أما الآخرون فأحبّهم، وأحترمهم، وأقدّرهم، وأراعيهم، وأحتضنهم، وأرافقهم على الدرب. هل ثمة ما هو أوضح من ذلك؟

جنس ستاندرد

ما علينا: قلتُ حدثت الحياة وحدثت النسوية. حدث الجنس وحدث الحبّ. حدث الماركي وحدثت سيمون دو بوفوار ومثيلاتها وأمثالها. النتيجة؟ صراع وتمزّق وتخبّط، واصطدام جبّار بيني وبيني، خصوصاً على مستوى هويتي في العلاقات. طويلاً رحتُ أتساءل: من أنا؟ سادو-مازوشيست أو فيمنيست؟ كيف يمكن أن يطلب جسدي ما يرفضه عقلي وكرامتي؟ كيف يُعقل أن تتنافر رغباتي إلى هذا الحد مع عزّة نفسي ونرجسيتي؟ كيف يصحّ أن أقبل وأتمتع في غرفة النوم، بما قد أرتكب جريمةً بسببه في الصالون؟ (أو العكس، إذ إن أقلّ مطرح مؤاتٍ للجنس هو في الحقيقة غرفة النوم). كيف تثيرني كلمات وأفعال، يستحيل أن أسكت عليها في الحياة "العادية"؟ تحليلي آنذاك أدّى إلى اعتقادي بأني حتماً نسوية سيئة وكاذبة و"باطلة". هكذا نحن النساء: ليس أشطر منا، ولا أسرع، في لوم أنفسنا وجَلدها وتعذيبها لأقلّ الأسباب. تَربَّينا لكي نشعر بالذنب حيال كلّ شاردة وواردة، حتى بات الذنب طبيعتنا الثانية. وما أن نستشعر خللاً ما في حياتنا أو علاقاتنا، نسارع إلى تحميل أنفسنا المسؤولية (هي هي، استعارة التفاحة وخرافة سقوط الإنسان من الجنة. من جعلكِ أصل البلاء يا حواء، وأقنعكِ بذلك؟!).  

صراع وتمزّق وتخبّط واصطدام إذاً. الحلّ؟ حاولتُ جاهدةً، في البداية، أن أتماثل جنسياً مع معايير وأذواق لا تتنافر مع نسويتي، وأن أفرض على نفسي ممارسات وسلوكيات تُعدّ "نموذجيةً" و"صحيحةً"، ولكن بلا جدوى. لم يؤدِّ ذلك في الواقع سوى إلى تجارب مخيّبة للغاية، كي لا أقول مؤلمة نفسياً، مثلما في كل مرة كنتُ أتخلى فيها عن حقيقتي في سبيل شيء أعدّه "أسمى" ويستأهل وضع قناع. في المناسبة، لا شيء، على الإطلاق، يستأهل وضع قناع. شخصياً لم ينفع معي، ولا مرّة في حياتي، منطق Fake it till you make it، لا في الجنس، ولا في أي مجال آخر. شيءٌ ما فيّ، كأنه عضويّ وفطري وقدريّ، يأبى التمثيل والتزوير حتى عندما، بل أكاد أقول خصوصاً عندما، قد يصبّ هذان التمثيل والتزوير في مصلحتي. هكذا تعلّمتُ، بعد تسديد أثمان باهظة، درسَ أن أكون نفسي دائماً، "على علّاتي" وشوائبي ونتوءاتي، وما أكثرها، بدل أن أكون نسخةً معدّلةً عني، ملمّعةً ومصقولةً ولكن زائفة ومفبركة ومصطنعة. "ما بتحرز".

صراع وتمزّق وتخبّط واصطدام إذاً. الحلّ؟ حاولتُ جاهدةً، في البداية، أن أتماثل جنسياً مع معايير وأذواق لا تتنافر مع نسويتي، وأن أفرض على نفسي ممارسات وسلوكيات تُعدّ "نموذجيةً" و"صحيحةً"، ولكن بلا جدوى

بعدما مُنيتْ بفشلٍ ذريع، مقاربةُ الجنس العادي، "الستاندرد"، بديلاً من الجنس كما كانت تهواه طبيعتي، لم أجد متاحاً أمامي، لكي أواجه هذا التضاد بين الداخل والخارج، بين الحميم والعام، إلا أن أتقبل التعايش مع انفصامي، أو ما عددته يومذاك انفصاماً، قبل أن أكتشف التعددية التي نحويها جميعاً، والشخوص المختلفة التي تكوّننا، والتي تتمظهر كلٌّ في ظرفها وبيئتها المؤاتية والحاضنة. هكذا أقمتُ عوازل في عوالمي التحتية، في الرأس، في الخيال: متاريس مرتفعة بين مَن أنا في الحياة العامة، بما فيها العلاقة العاطفية، ومَن أنا وماذا أحبّ في الجنس. وكانت هذه المتاريس تزداد ارتفاعاً، والفواصل تشتد صرامةً، عندما يكون الشريك العاطفي هو نفسه الشريك الجنسي. بمعنى: يحقّ له هنا ما لا يحقّ له هناك، وأقبل هناك، لا بل أستسيغ، ما يستحيل أن يعجبني أو أقبل به هنا. كانت هذه المتاريس التي أقمتها داخلي آنذاك، الطريقة الوحيدة لكي تتصالح نسويتي مع أهوائي في الجنس، أو لكي تتقبل الأولى الثانية، وكنتُ دائماً أقول لنفسي وأطمئنها: "هذا شيء، وذاك شيء آخر، وممنوع الخلط بينهما". ولكن لم يكن الأمر بهذه السهولة. فمن إشكالات هذه "الازدواجية"، إذا صحّت تسميتها كذلك، أو هذا التناقض غير المصطنَع، أنه كان عصياً على الفهم بالنسبة إلى غالبية شركائي العاطفيين/ الجنسيين، وكانوا يضيعون بين المرأتين أيما ضياع. أما مَن لا يضيع منهم، فكان غالباً عاجزاً عن تلبية متطلبات هذه الثنائية. على سبيل المثل، إذ كان الشريك في قمة التهذيب والرقي، سيكون غير نافع في الجنس. وإذا كان في قمة الوقاحة والتطاول، سيكون غير نافع في العلاقة؛ إما جنتلمان، وإما وحش. نادراً ما التقيت برجال كانت لديهم، مثلي، بلا أي مجهود أو تكلّف، شخصيتان، واحدة في الجنس وأخرى في ما عداه، والقدرة على الفصل بينهما وبين العالمين والسلوكين بشكل حاسم، من دون أي تداخل وتلوّث متبادل بينهما.

 لا أزعم أن القضية بسيطة، بل كنتُ مدركةً تماماً أنها في غاية التعقيد، ولأجل ذلك كنتُ أحاول أحياناً أن أشرح وأوضح. لكنّ المشكلة هي أن التفسير كان يُفسد نصف المتعة، إن لم يكن كلّها. من الصعب، بل من المستحيل في بعض الحالات، التلمّظ بالجنس بناءً على كتيّب تعليمات، وغالبيتنا، إن لم يكن جميعنا، نريد للكيمياء البدائية، اللا ملفوظة، أن تدير الدفّة؛ نريد للمتعة أن تقع وتجرف بلا كثير توجيهات. المشكلة الأخرى هي أن تمرّدي العالي اللهجة، ونسويتي الصارخة، ولساني اللاذع الذي لطالما اشتهرتُ به، ولا مبالاتي التامة حيال أحكام الآخرين على أفكاري وأقوالي وطريقة عيشي لحياتي، كانت ألغاماً تخيف الوحش الذي أتوق إليه داخل الجنتلمان، ولا تشجّعه على الخروج من الكهف، والتعبير، ولو مؤقتاً وظرفياً، عن نفسه، خوفاً من "البخعة" أو "العيطة" المحتملة. ولا ألومه. فعلاً، "احترنا يا قرعة"، كما نقول في لبنان.

هكذا أقمتُ عوازل في عوالمي التحتية، في الرأس، في الخيال: متاريس مرتفعة بين مَن أنا في الحياة العامة، بما فيها العلاقة العاطفية، ومَن أنا وماذا أحبّ في الجنس. وكانت هذه المتاريس تزداد ارتفاعاً، والفواصل تشتد صرامةً، عندما يكون الشريك العاطفي هو نفسه الشريك الجنسي

نتيجة ذلك، كان إبحاري في هذه العوالم عسيراً في الإجمال، لكنه، من حيث إيجابيات صعوبته، أتاح لي أن أتجرأ على فعل وقول واختبار أمورٍ، بعضها خارج على المألوف وبعضها الآخر جنون صرف، وهي أمور ما كنتُ لأفعلها وأقولها وأختبرها لو كنتُ أقع ضمن فئة المنسجمة ذواتهم الحميمة مع ذواتهم العامة، وخيالهم مع عقلهم، ورغباتهم مع قناعاتهم. هو النقصان يحفّز الاستكشاف، بينما الرضا يجعلنا، وإن من دون تعميم، نراوح أمكنتنا. يعني من الآخر: لا أتذمّر.

بطبيعة الحال، مع التجارب والنضج جاء أيضاً إدراكُ أني لستُ، في أي شكلٍ من الأشكال، "نسويةً سيئةً". ليس طالما أنا متصالحة مع جسدي ومتطلباته وحاجاته؛ ليس طالما أنا التي أختار المكان والزمان والطريقة، وأنا التي أقرّر مَن أريد في فراشي وماذا وكيف، ولا أسمح لأحد بأن يَفرض عليّ ممارسات لا أستسيغها، أو تزعجني، بقوّة الترهيب، أو بقوة شقيقه، الابتزاز العاطفي والمعنوي؛ ليس طالما أقول نعم وأقول لا عندما أرغب، وليس بناءً على توقعات أحد أو خوفاً من أحد أو إرضاءً لأحد؛ ليس طالما لا أرضخ لتنمّر، أو تحرّش، أو "تخجيل"، والأخير في رأيي هو الأخطر، لأنه الأكثر خبثاً ومكراً، وهو سلاحٍ يستخدمه البعض للضغط علينا وحثّنا على فعل ما لا نريد فعله حقاً، فقط لكي نثبت لهذا الآخر أو الآخرين أننا لسنا "معقّدات" ولا فزِعات ولا متحجّرات. تعرّضتُ كثيراً لمثل هذه المواقف في حياتي، وقمتُ أحياناً بأمور لن أقول إني ندمتُ عليها لاحقاً -أيضاً لا أؤمن بالندم، وأعدّه من أقلّ المشاعر نفعاً على الإطلاق- لكني، في الحد الأدنى، لم أكن راغبةً فيها، وفعلتها برغم ذلك لا لسبب سوى لكي أبرهن لِمَن كان "يخجّلني" أو يتحدّاني أو يستفزّني، أني "متحرّرة"، أو، أحياناً، كي لا أخيّب ظنّ مَن أحبّه وكانت لديه توقعات محدّدة منّي. تعلّمتُ مع الوقت أن التحرّر لا يمكن أن يكون وليد التحريض، ولا وليد التقليد، ولا وليد الموضة، ولا وليد الانتقام، ولا وليد الرغبة في إرضاء مَن نحبّ. التحرّر ابن القرار الأصيل، نقطة على السطر. مهما كان هذا القرار. حتى لو كان، في موضوع الجنس مثلاً، الامتناع عن ممارسته نهائياً، أو على العكس ممارسته بكثرة ومع شركاء عديدين ومتنوّعين. المهم أن يكون القرار المذكور حقيقياً، صادقاً، شخصياً، ذاتياً مئة في المئة، وليس نتيجة قولبة أو غسيل دماغ أو خوف أو سواها من وسائل التأثير. طبعاً، يتطلب الوصول إلى اتخاذ قرارات مماثلة قدراً هائلاً من الوعي النفسي والقوة الروحية والنزاهة الفكرية ومساءلة الذات المستمرة واللجوجة، بغية تنقيتها، أي القرارات، من أي مفاعيل خارجية، مباشرة أو لا واعية، محتملة، قد تجعلها محض ردود فعل. ويتطلّب أيضاً، في ما يتطلّب، احترام إيقاعنا الخاص في مشوارنا إلى التحرّر، وقد يكون أبطأ من إيقاع الآخرين: من المهم جداً أن نحترم هذا الإيقاع وألا نسرّع ونفتعل ما ليس جاهزاً فينا بعد، كي لا "تحترق الطبخة"، طبخة الانعتاق.

...وأخيراً وخصوصاً: لستُ نسويةً سيئةً، طالما لا أستحي بِمَن أنا.

على سبيل المثل، إذ كان الشريك في قمة التهذيب والرقي، سيكون غير نافع في الجنس. وإذا كان في قمة الوقاحة والتطاول، سيكون غير نافع في العلاقة؛ إما جنتلمان، وإما وحش

عيب وغلط وأوعى

كلّ ما سبق، حتى أصل إلى سؤال هذا المقال: هل هناك حقاً شيء اسمه "جنس نسوي"؟ سأجيب على الفور وبلا تردّد: نعم، وبالتأكيد. ولكن هذا لا يعني، في رأيي، أن تكون رغباتنا الجنسية خاضعةً بالضرورة للمعيار القِيَمي النسوي، وأن نحكم عليها بناءً على درجة تطابقها مع المبادئ النسوية. فمن الأفضل أن تكون الرغبات تحديداً متفلّتةً من أي تقييمات أيديولوجية-سوسيولوجية-بسيكولوجية. ما يثيرنا في الجنس لا علاقة له، أو يُستحسن ألا تكون له علاقة، بمواقفنا السياسية ومبادئنا الاجتماعية ومعاييرنا الثقافية. لنرَ إلى هذا العالم كإلكترون فالت وطليق؛ كمساحة من الحرية والتجريب نجنّ فيها مدّةً زمنيةً معيّنةً جنوناً يتيح لنا أن نعود إلى عالم العقلانية بطاقةٍ متجدّدة. لا أقول ذلك فقط لأنه يناسبني ويناسب طبيعتي، بل لأني اكتشفتُ، من خلال تجاربي الخاصة وتجارب أخريات وآخرين كثر شاركوها معي على مرّ عقود، أن لا شيء يقتل الرغبة أكثر من النظريات والقوانين والـpolitically correct. أكثر من عبارات "هيك لازم" و"هيك عيب" و"هيدا صحّ" و"هيداك غلط". ليس هناك شيء "لازم" في الجنس. ليس هناك عيب وصحّ وغلط (ما عدا ما تنطبق عليه صفة الجريمة بطبيعة الحال، من مثل البيدوفيليا أو الاغتصاب أو التحرّش أو سفاح القربى أو سواها من الاعتداءات التي يفرض خلالها طرفٌ بالقوة، قوة الجسد أو قوة الابتزاز أو قوة النفوذ والهيبة، ممارسةً ما على طرف آخر هو الأضعف على هذه المستويات).

 ما يثيرنا في الجنس لا علاقة له، أو يُستحسن ألا تكون له علاقة، بمواقفنا السياسية ومبادئنا الاجتماعية ومعاييرنا الثقافية.

طيّب، والحال هذه، ما هو الجنس النسوي إذاً، وما هي شروطه؟

الجنس النسوي أوّلاً، في اعتقادي على الأقل، هو الجنس الذي نشتهي ونريد، مهما كانت طبيعته ومهما كان أسلوب ممارستنا المفضَّل والمُشتهى له، طالما أنه ليس مفروضاً فرضاً على أيّ من طرفيه أو أطرافه، وطالما أنه -وأكرّر هذه النقطة لأنها مهمة، أخلاقياً وقانونياً- يحصل بين راشدين واعيين. المهم أن يكون جنساً مثلما نريده نحن وشركاؤنا، وأن نمارسه مثلما نشتهي ممارسته نحن وشركاؤنا، ومع الأشخاص الذين نختارهم نحن ويختاروننا، مهما بدا غريباً أو منحرفاً أو صادماً أو "منحطاً" أو شائناً أو حتى مقزّزاً في عرف الآخرين. هؤلاء الآخرون، من الآخر، "ما خصّهم". لا علاقة لأحد، لا من قريب ولا من بعيد، بمتعتنا وكيف نحصل عليها ومع مَن ولماذا ومتى وأين، ولا علاقة لأحد بعدد شركائنا وجنسهم وهويتهم الجندرية وطولهم وعرضهم ووزنهم وشكلهم ولونهم إلى آخره. هيا، لنردّدها بصوتٍ عال، من أجل الآخرين، ولكن من أجل أنفسنا خصوصاً: "ما حدا خصّو".

الجنس النسوي، ثانياً، يتطلّب أن نحبّ أنفسنا وأجسادنا قبل أن نشاركها مع آخرين، وحتى وخصوصاً من دون آخرين. وهذا رهان صعب، بل صعب للغاية. أنا مثلاً، إذ أتفلسف عليكم الآن وهنا حول هذا الموضوع، بكل ما أوتيت من خبرة ومعرفة وثقة ومعلومات، امرأة تقيس وزنها كل صباح، وتصاب بميني-اكتئاب إذا اكتشفت أنها زادت نصف كيلو، ثم تصاب بميني اكتئاب آخر لأنها تمنح موضوعاً تافهاً وسطحياً كهذا كل هذه الأهمية، ثم تنهر نفسها بعنف لأجل ذلك: "يا عيب الشوم عليكِ"، ثم تعيد الكرّة في اليوم التالي. حلقة مفرغة مميتة من الخضوع ثم التمرّد على الخضوع ثم الخضوع من جديد. أنا، أيضاً، أفضّل ممارسة الجنس في العتمة، وأجبر نفسي على ممارسته في الضوء أحياناً، لكي أتحداها وأتحدى عقدي حيال جسدي وما أرى فيه من عيوب ونواقص. وأعرف أننا جميعاً، أو غالبيتنا على الأصح، ما عدا قلّة قليلة أحسدها أيّما حسد، لدينا انهواسات مماثلة بما لا يعجبنا فينا، ونراه مضخّماً ومبالغاً فيه، ولا نكاد نرى سواه. ولكن يجب، "يجب" أقول، برغم كل ما سبق، أن نغصب أنفسنا على حب أنفسنا، وهذا مراس طويلٌ، طويل. يعني صحيح أني لا أزال حتى اليوم أنتقد جسمي في المرآة، وأعقد حاجبيّ، وأقارن، وأبهدِله وأحطّ من قيمته، لكني أعرف أني بتُّ أفعل ذلك أقل مما مضى، وبحدّة أخفّ. ليس ذلك فقط، بل أنا أرغم نفسي على شكر هذا الجسد، أحياناً بصوتٍ عالٍ، وعلى الشعور بعرفان الجميل حياله وحيال النعم الكثيرة التي منحني إياها طوال حياتي. نعم، لنحبّ أجسادنا "بالقوّة". ممتلئةً أكانت أم نحيفةً. بأثدائها الكبيرة أو الصغيرة. بمؤخراتها المستديرة أم المسطحة. لنحبّها حتى بشعرها الزائد وأردافها العريضة وبطونها المرتخية والسيلوليت على أفخاذها. لنتحدَّ ما ورثناه من عقد نقص وشكوك واختلالات، وما لا نزال نتلقاه من هذه، ضربةً وراء ضربة، عبر وسائل الإعلام والسوشال ميديا، بسبب معايير جمال وكمال مستحيلة مفلوشة فيها فلشاً، تجعلنا نكره أشكالنا.

الجنس النسوي أوّلاً، في اعتقادي على الأقل، هو الجنس الذي نشتهي ونريد، مهما كانت طبيعته ومهما كان أسلوب ممارستنا المفضَّل والمُشتهى له، طالما أنه ليس مفروضاً فرضاً على أيّ من طرفيه أو أطرافه

الجنس النسوي، ثالثاً، يتطلّب بطبيعة الحال ألا نرضخ للنظرة الذكورية التي تريدنا عذراوات، "نقيّات"، فاضلات، لم تقبّل شفاهنا سوى أمهاتنا؛ نظرة تربط شرفنا وأخلاقنا بنشاطنا الجنسي، وطول تنانيرنا، وأين نسهر، وكيف ومتى ومع مَن. يعيدني هذا إلى النقطة الأولى، أي إلى أن الجنس النسوي هو أي جنس نشتهي ونريد، مع إضافة فارق دقيق إلى الفكرة، لكنه فارق في غاية الأهمية: الجنس النسوي قد يكون أيضاً، وطبعاً، وبكل بساطة، ألّا نريد الجنس. ولكنْ: ألّا نريده، ليس لأننا نودّ الحفاظ على غشاء بكارتنا الأسطوري، ولا لأننا لن نجد عريساً إذا ما "فرّطنا" بوهم هذا الغشاء، ولا لأننا نخشى كلام الناس وغضب الوالدين ووَلْوَلات العمّة ونكد الخالة (انظري سابقاً: "ما حدا خصّو")، بل لأننا فعلاً وحقاً لا نريده ولا يعنينا في الوقت الراهن، أو لأننا نتوق فعلاً وحقاً إلى اختباره في إطار مميّز ومع شخص معيّن، فقط لا غير. أما نوع الرجال الذي يبحث عن عذراوات، ويعدّهنّ كنزاً ثميناً، فينبغي أن نهرب منه ركضاً كأنه الطاعون، حتى إذا كنّا فعلياً عذراوات. فهذا النوع من الرجال، ليست ولن تكون مشكلته الوحيدة أنه يربط قيمة المرأة بكيفية استخدامها لجسدها، بل هو: ضعيف، جبان، فاقد الثقة في نفسه، خائف من المقارنات، ويعدّ المرأة ملكيته الخاصة، ويسمح لنفسه بما لا يسمح لها به، مفصوم، غير عادل، وذكوري. هذا وقد تضاف إلى هذه الصفات "الحسنة" صفات أخرى، بحسب النموذج المعني، لكنها، أي السمات التي ذكرتها آنفاً، ستكون حكماً موجودةً فيه -وهنا أعمّم بثقة- أكانت سمات ظاهرةً أو خفيةً، إذ يخبّئها بعضهم جيداً تحت قشورٍ من نوع: "ولو؟! طبعاً أنا متحرّر ومنفتح وأؤمن بالمساواة وبحرية المرأة في اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتها وجسدها. المهمّ ألا تضعي كلامي هذا قيد التجربة".

الجنس النسوي، رابعاً، يتطلّب أن نتجاسر على اكتشاف أعضائنا ونقاط متعتنا بلا خجل أو خوف. أن نفعل ذلك بمفردنا أولاً، بواسطة تلك الممارسة الرائعة التي تُسمّى في ثقافتنا "العادة السرية". لا، لن نصاب بالعمى، ولا بالعقم، ولا بالإدمان الجنسي، ولا بأي شيء من ذلك. جلّ ما سوف نصاب به هو الحرية، والفهم، والمعرفة، واللذة. وسيجعل ذلك من تجربة الجنس مع آخرين، عندما نقرّر اختبارها، أكثر إرضاءً وسلاسةً وسلامةً. هذا السبر الانفرادي شرط من شروط صحّتنا النفسية والجسدية والجنسية على السواء.

الجنس النسوي، أخيراً، يتطلّب أن ندرك أننا جميعاً مختلفون في ما بيننا، وأن ما قد يثيرني أو يعجبني قد لا يثير أو يعجب أخرى أو آخر، وتالياً لا تصحّ المقارنات والتشبيهات، بل هي غالباً مضرّة للغاية. وفي موضوع المقارنات، من المهمّ أيضاً أن نعي كذلك أن اللذة ليست بالأمر السهل، بل لعلّها من أكثر المآرب صعوبةً وتعقيداً وتملّصاً ومراوغةً. تالياً، ينبغي ألا نقاصص أنفسنا بأن نماهي تجاربنا بتجارب الآخرين، ونستنتج مثلاً بأننا أقلّ، أو بأن هناك خطباً ما فينا وفي أجسادنا، فنشعر بالقهر والحسرة لأننا لا نتمتّع مثلما تتمتّع هذه أو يتمتّع ذاك. لنكن رؤوفات ورؤوفين مع ذواتنا، خصوصاً نحن العرب، كون غالبيتنا لم تتربَّ لكي تتمتّع أصلاً، لا بالجنس، ولا بالحياة عموماً. ولأن الوصول إلى مثل هذه الثقافة، ثقافة المتعة وحقنا الطبيعي فيها، يتطلب عناصر ومعايير وأساليب تنشئة لا نزال نفتقر إليها بشدّة.

لنكن رؤوفات ورؤوفين مع ذواتنا، خصوصاً نحن العرب، كون غالبيتنا لم تتربَّ لكي تتمتّع أصلاً، لا بالجنس، ولا بالحياة عموماً

حظّك نصيبك

اسمحوا لي هنا، بأن أفتح هامشاً مرتبطاً بسؤال هذا المقال، وإن بطريقة غير مباشرة، لكي أعبّر عن مأساة نعانيها في عالمنا العربي، بكل ما لكلمة مأساة من معنى ومفاعيل تمتدّ طوال حياتنا وعلى جوانبها كافة: غالبيتنا "نتفركش" بالجنس. نكتشف عوالمه إما بالمصادفة، أو نتيجة سعي حرّضنا عليه فضولٌ أشعلته كلمة وشوشها أمامنا أحدهم من هنا، أو مشهد غريب لمحناه من هناك، فكهرب فينا شيئاً غامضاً ومثيراً "تحت". في مجتمعات تفتقر إلى أدنى مقومات التربية الواعية والمنفتحة، من مثل ثقافة التصالح مع الجسد وحاجاته -ما عدا بعض الاستثناءات يشكّلها أهلٌ متنوّرون- أكثريتنا نكتشف هذا العالم بطرق ملتوية، وصادمة، وممسوخة (من خلال المجلات مثلاً في ما مضى، وعبر أفلام البورنو اليوم). ثم نُمضي الجزء الأكبر من مرحلة الرشد والنضج ونحن نحاول فهم ما يمكن فهمه، وإصلاح ما يمكن إصلاحه، في ما وُلد مشوّهاً ومعطوباً، ومعظمنا لا ينجح في ذلك تماماً. ذلك لأن سخرية القدر تشاء أن تكون فترة الطفولة والمراهقة، التي لا سيطرة لنا عليها لا من قريب ولا من بعيد، والتي نكون خلالها محض فرائس للظروف التي انوجدنا فيها بلا قرار منّا، وللبالغين المنوطة بهم عملية إرشادنا وحمايتنا، هي المرحلة التأسيسية في شخصيتنا، وتأثيراتها هي الأكثر رسوخاً في حياتنا. يعني "حظّك نصيبك". والحظّ كما نعلم، تحديداً في هذه البقعة من الدنيا، عملة نادرة وعسيرة لا يعوّل عليها. 

في المدرسة مثلاً، أقلّه في أيامي، وأيضاً في أيام جيل ولدَيَّ، يحدثوننا عن التلقيح والنطفة والبويضة وتكوّن الجنين في الرحم، ويسمّون ذلك "تربيةً جنسيةً". أما في البيت فلا يحدثوننا في الموضوع على الإطلاق، وكأنه ليس موجوداً. لأجل ذلك غالباً أفكّر: كم من الاعتداءات الجنسية على أطفال كان يمكن اجتنابها، لو تحلّى الراشدون المسؤولون عن تنشئة هؤلاء بشجاعة قول الأمور بوضوح ومباشرة؟ كم من المغتصبين والمتحرّشين والمفترسين الجنسيين كان يمكن ألا ينوجدوا، لو تربّوا تربيةً جنسيةً صحيّةً في صغرهم؟ كم من النساء المقموعات، المستغَلات، الباردات جنسياً، المغتصَبات، الساكتات عن حقهنّ في المتعة أو في قول "لا"، المقتنعات بأنهنّ أدوات فحسب أو قطع لحم في السوق، كان يمكن ألا ينوجدن، لو أدركن منذ نعومة أظفارهنّ أن أجسادهنّ ملكهنّ حصراً ومطلقاً؟ كم من المثليين والمثليات، والعابرين والعابرات، وسواهم من أعضاء مجتمع الميم عين، كان يمكن أن يكتشفوا أهواءهم وميولهم بطريقة سليمة ومسالمة وطبيعية، بدلاً من كل العنف والقهر والتنمّر الذي يتعرضون له، لو كنّا مجتمعات تستوعب وتحتضن وتفهم، بدلاً من أن تحكم وترفض وتدين؟

سأجرؤ هنا أن أجزم بأن لا شيء سيتغيّر حقاً إلى الأفضل في العالم العربي، مهما بلغ حجم التطوّر التكنولوجي وارتفاع ناطحات السحاب فيه، ما لم يعِش هذا العالم ثورته الجنسية بقيادة نسائه وأقلياته الجنسية.

سأجرؤ هنا أن أجزم بأن لا شيء سيتغيّر حقاً إلى الأفضل في العالم العربي، مهما بلغ حجم التطوّر التكنولوجي وارتفاع ناطحات السحاب فيه، ما لم يعِش هذا العالم ثورته الجنسية بقيادة نسائه وأقلياته الجنسية

"أعطيتكَ زهرتي"

ختاماً، لا بدّ أن أقول إني تعلّمتُ في حياتي بعض الدروس المفيدة واستنتجتُ بعض الخلاصات الثمينة، وما زلتُ أتعلّم وأستنتج، ولم ينتهِ المشوار بعد، للعلم والخبر. وهي، هذه الدروس والخلاصات، قد لا تنطبق على الجميع طبعاً، كونها شخصيةً للغاية ونسبيةً للغاية، لكنها، والحق يقال، نفعتني كثيراً ولمّا تزل، ولأجل ذلك سوف أشاركها في ما يلي، لعلّ وعسى: 

أولاً: سوف نرغبُ حكماً، أو غالباً في الأقل، في مضاجعة مَن نقع في حبّهم، وإن لم يكن العكس صحيحاً دائماً، أي أنه يمكن لنا أيضاً أن نرغب في مضاجعة أحدهم، حتى لو لم نكن مغرمين/ مغرمات به بالضرورة (ملاحظة: أنا لا ألغي بكلامي هذا، بطبيعة الحال، وجود أشخاص لا جنسيين –asexual- لكني، أكرّر، أتحدّث هنا حصراً عن رؤيتي الشخصية، فاقتضى التوضيح).

ثانياً: نحن -أي النساء- وإن بلا تعميم، نُضاجِع لا نُضاجَع، أو، في الحدّ الأدنى، نقوم بالاثنين معاً وفي آن واحد. قد يحلو للصيّادة أن تظهر بمظهر الطريدة -وهي غالباً تميل إلى ذلك بسبب تربيتها المنمَّطة القامعة اللعينة- لكنها، في الحقيقة، لا تخدع أحداً بذلك. والأهمّ ألا تخدع نفسها.

ثالثاً: نحن -أي النساء- وإن بلا تعميم، نأخذ اللذة بقدر ما نعطيها، لا بل الهدف هو، أو هكذا ينبغي له أن يكون، أن نأخذها في الدرجة الأولى. أي أننا لا نمنحها للرجل إلا عرضياً وكفائدة جانبية. يعني "مصاقبة" أن الرجل هو الآخر يتلذّذ إذ نحن نفعل. هنيئاً لك بذلك سيدي، لكننا لسنا موجودات حصراً من أجل متعتكَ. لسنا قالب حلوى ولا جائزة ترضية. تذكّر ذلك.

لنقلها بصوتٍ عالٍ وبلا خجل ملغوم: نحن النساء نمارس الحب لنتمتّع، لا لنمتِّع.

رابعاً (تشبه ثالثاً): لنقلها بصوتٍ عالٍ وبلا خجل ملغوم: نحن النساء نمارس الحب لنتمتّع، لا لنمتِّع. هكذا يجب أن نرى إلى تجربة المضاجعة. فكفانا تربيح الرجل جميلةً إذا ما مارسنا الجنس معه. كفانا "منحتكَ نفسي" و"أعطيتكَ زهرتي" وما شابه هذه من تعابير "تلعّي" النفس والروح. قليلٌ من النزاهة ينفع هنا. وهي تنفع، نزاهة كهذه، خصوصاً، لكي نتخلّص من عقلية "أنا أضحّي من أجلكَ" المسمومة التي تجعل أي احتمال مساواة في دينامية العلاقة مستحيلاً، وأي إدراك من جانب المرأة لاستقلالية كيانها ولقوّتها الأكيدة متعذّراً. وهي تنفع أيضاً لكي نطالب بحقنّا في المتعة إذا كان الشريك أكثر ذكوريةً، أو أنانيةً، أو غباءً (وهذه مترادفات)، من أن يمنح حقّنا هذا الاهتمام الذي يستحقّه.

خامساً: الجنس جميل، وطبيعي، وحاجة، ولذة، وحقّ. نحن في حاجة إلى سماع ذلك بإلحاح، وإلى تصديقه، والإيمان به، والتصرّف بناءً عليه. فقط آنئذ يمكننا أن نحرّر عقولنا من قيودها، وأجسادنا من مخاوفها، وحياتنا من الحدود المفروضة عليها.

سادساً: لا يمكن ولا يصحّ ولا ينفع أن تؤخذ كتابات الماركي بحرفيتها، بل هي ذات أبعاد رمزية-فلسفية تهدف إلى انتقاد نفاق المجتمعات والسلطات والأديان (لكنّ هذا، بطبيعة الحال، أكثر تعقيداً من أن تفهمه طفلة في الحادية عشرة من العمر).

سابعاً وأخيراً وليس آخراً: ليس الحبّ مسالماً ولطيفاً البتة. بل هو موجع وهمجي وضروس، وقد تكون أضراره النفسية أشدّ إيلاماً من أي عذابات جسدية ممكنة. "يا محلا" صفعات ساد على المؤخرة، ولسعات سوطه، مقارنةً بشرور الغرام وجرائمه المتتالية فينا.

 ليس الحبّ مسالماً ولطيفاً البتة. بل هو موجع وهمجي وضروس، وقد تكون أضراره النفسية أشدّ إيلاماً من أي عذابات جسدية ممكنة. "يا محلا" صفعات ساد على المؤخرة، ولسعات سوطه، مقارنةً بشرور الغرام وجرائمه المتتالية فينا

حصراً ونهائياً

عودٌ على بدء: تعرّفتُ إلى الجنس من أحد أبوابه الأكثر صدماً وخطورةً. لعلّه، أيضاً، بابه الأفضل. لا يهمّ. المقارنات والمفاضلات في هذا المجال لا تنفع. لكلّ منّا دربه/ ها ومغامراته/ ها واكتشافاته/ ها. شيء واحد يفيد: لنتذكّر دائماً، أينما كنّا ومهما فعلنا، أن أجسادنا، بما فيها من هيدروجين وأوكيسجين وكربون ولحم ودم وأعضاء وأعصاب وأحلام ورغبات... إلخ، أن هذه المعجزات البيولوجية التي تحملنا وتحتملنا وتطلعنا وتنزلنا وتأخذنا وتجيبنا، والتي نختبر بها الدنيا بطولها وعرضها، والتي غالباً ما نسيء معاملتها لأننا ننسى، في خضم جشعنا للعيش والاختبار، أنها بحاجة إلى عناية واهتمام وحبّ... لنتذكّر، أقول، أن أجسادنا هذه ليست ملك العائلة، ولا ملك المجتمع، ولا ملك الدين، ولا ملك التقاليد، ولا ملك الوطن، ولا ملك الثقافة، ولا ملك الزوج/ ة، ولا ملك الحبيب/ ة، وهلمّ جرّاً.

أجسادنا، حصراً وتحديداً ويقيناً ونهائياً، ملكنا وحدنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن بأن للإنسان الحق في التفكير وفي الاختيار، وهو حق منعدم في أحيانٍ كثيرة في بلادنا، حيث يُمارَس القمع سياسياً واجتماعياً، بما في ذلك الإطار العائلي، حيث أكثر الدوائر أماناً، أو هكذا نفترض. هذا الحق هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمعات ديمقراطية، فيها يُحترم الإنسان والآخر، وفيها يتطوّر وينمو بشكل مستمر. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا!/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard