منذ الصغر وأنا أعرف معجم كلماتٍ كاملٍ محرّم، تعلّمتُ أن أستعيض عنه بآخر أقل فجاجة. أذكر مثلاً أني أردت أن أعرف معنى شتيمة في صغري إلّا أنّي صُفِعتُ بقوة تتناسب مع مدى فجاجة نطق بنت في العاشرة شيئاً مرعباً كهذا، وبعد قليل، أثناء مصالحتي، قالت لي أمي: قولي "(بِس أمك) على الأقل! هيك بفهم سؤالك وبيكون وقعها أخف على الأذن".
في وقتٍ لاحق سمعت عن "الجنس" وقررتُ بدء العمليات الاستراتيجية للتأكد مما سمعت، ولكوننا لا نصدق شيئاً إن لم تؤكد عليه أمهاتنا، سألت أمي: "كيف نولد؟". فردت: "الله ينفخ من روحِه في بطن الأم فتصير حاملاً وبعدها يأتي الطفل". وفهمت، "الجنس" شيءٌ جديد يجب إضافته لمعجم المحرّمات كتجاوز التعريف الضيق للمعجم العادي، ويتمدد ليشمل معارفَ متعددة وسلوكياتٍ كاملة، لذا حاولت محاصرتها بسؤالٍ أكثر جرأة دون أن يغضبها: "ما الذي يحدث ليلة العرس بين العروسين؟". أدركتْ أنّي لن أرضى بجواب بسيط، وبعد ساعةٍ من محاولاتها لشرح العملية الجنسية بأكثر الطرق مواربةً ممكنة، قلتُ: "قصدك بيعملوا سكس؟". غير أنها احمّرت، وشعرتُ بأني صدمتُها قليلاً، ومع هذا تماسكت بطريقةٍ ما وعاد تتكلّم بلطفٍ مصطنع : "لك يا ماما هي الكلمات عيب، يعني ما بيصير تحكي هيك بيقولوا عنك قليلة أدب، هنن بس يعني بيناموا مع بعض، بعدين من وين جايبة هذا الكلام؟".
ولكوننا لا نصدق شيئاً إن لم تؤكد عليه أمهاتنا، سألت أمي: "كيف نولد؟". فردت: "الله ينفخ من روحِه في بطن الأم فتصير حاملاً وبعدها يأتي الطفل". وفهمت، "الجنس" شيءٌ جديد يجب إضافته لمعجم المحرّمات
الخوف يخاف من النور
لا تنظر إلى مرآةٍ لا تعكس خوفك لأنها حتماً لا تعكس صورتك، وللخوف نصيبٌ لا يمكن تجاهله في تكوين شخصيتي وتحديد سلوكياتي، إذ أكاد أجزم أنني أركض وراء النجاح بسبب الخوف من الفشل، أكثر بكثيرٍ مما أفعل بسبب الشغف، مع أني لو تبعت الشغف لوصلت سعيدة ومتعبة، بدلاً من الوصول متعبة من أن أشعر أصلاً.
لكن الخوف وحشٌ جبان، يكفيه أن يُعرف بوجوده ليرجف، وأعتقدُ أني لو تصرّفت بشجاعةٍ متجاهلةً وجوده لاختفى، وهذا ما يجعل قدرتي على نطق مخاوفي السبيل الأهم في مواجهتها، لكنّي لم أفعل هذا إلّا نادراً، وكوني أخاف الجنس بقدر ما أخاف السجن، هذا إن تجاهلنا إمكانية تحوله إلى سجن آخر، وأتجاهل الحديث عنه مثلما أتجاهل الحديث عن السجن، فبينما أكتب هذه المدوّنة أخشى أن أذهب إلى "بيت خالتي" مثلما تخشى بنتٌ تحظى بقبلتها الأولى أن يعرفوا بكونها "عملتها"، ولا غرابة باتفاق الاثنين على أحرفهما ما دمنا لن نتجرأ أبداً على نطقها.
تقول الأسطورة إن من يخاف الشبحَ يُؤكَل، لكني أعرف أن عدد القبل المسروقة في شوارع دمشق تزيد عن خيباتها، وأنها لم تكن لتنجو لولا عشّاقها، وها أحاول طمأنتهم بأننا لم نعد نريد محاسبتهم، لكني أخاف أن أقول لهم "استمروا" بصوتٍ عالٍ، فيكشفُ أمري وأحاسبُ عنهم، فأقول لهم: "على الأقل لا تفعلوا هذا في الشارع"، وأتمنى ألّا يصدقوني ويستمرّوا!
أدركتْ أنّي لن أرضى بجواب بسيط، وبعد ساعةٍ من محاولاتها لشرح العملية الجنسية بأكثر الطرق مواربةً ممكنة، قلتُ: "قصدك بيعملوا سكس؟"
سوريا تحاول تكسير قشر البيضة
في سوريا نتعلم أن نقول "لا ونعم" أخيراً، وندرك أخيراً أننا نملك الحق في تقرير تفضيلاتنا الجنسية والعاطفية وليس فقط مصيرنا التعليمي، وأن الحياة أكثر بكثيرٍ مما صوّرها الأجداد، وأغنى بكثير من فقر وتعب الأزمة، غير أننا لم نتعلم بعد أن نقول ما نفكر به دون مواربة، ولم نعتد تسمية الأسماء بمسمياتها، فلا زلنا نسمي الإعجاب حبّاً والتجارب الجنسية تجارب عاطفيّة، دون إدراك دور اللغة المهم في وضع الأمور في نصابها، فتحديد المسمّى الصحيح للعلاقة يحدد كل ما سيأتي بعده من مشاعر وتصرفاتٍ وخيباتٍ مبنيةٍ على أساسه، وأعرف أني ما دمت أطلق على "الجنس" ألقاباً قد تشبهه ولا تشبهه، سنبقى نواجه مشاكل معه قد نتحملها أو لا نتحملها.
وأنا أعرف مثلما يعرف الشباب حولي –لأني تعلّمت مثلما تعلموا- كيف أوارب وأداور حول أكثر أفكاري فجاجةً لتبدو مناسبة ومتوافقةً مع معايير الأدب، خاصةً كوني ولدت فتاةً في مجتمعٍ محافظ، اعتبرني زانية لأني حضنتُ صديقي بدل مصافحته، لكنّي على عكس معظمهم، قرّرت تسمية الأمور بمسمياتها، و مصارحة حبيبي برغبتي في تقبيله بدلاً من التظاهر بالشعور بالبرد.
تقول الأسطورة إن من يخاف الشبحَ يُؤكَل، لكني أعرف أن عدد القبل المسروقة في شوارع دمشق تزيد عن خيباتها، وأنها لم تكن لتنجو لولا عشّاقها
الصدقُ أنجى
أنا ابنة جيلٍ مجبولٍ بمزيجٍ مذهلٍ من الخوف والقوّة، فالأزمة التي هدّمت ذواتنا خلقَت ذواتاً أخرى، أكثر صلابةً ومرونة، والحقيقة التي لم أستطع إنكار أن نتائج مواجهة مخاوفي والحديث بحريّة عن القضايا التي أناهضها أو أدعمها تكون كبيرةً وقاسيةً في أحيانٍ كثيرةٍ، غير أن التلاعب بالكلام لم يكن أسهل، والاختباء وراء الأسماء المستعارة للأشياء تلاعب لم يغيّر حقيقتها دون شك، لذا قررت أنّه لو كان لفظ "الجنس" بمثل خطورة لفظ "اللورد فولدمورد"، أن أكون هاري بوتر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...