في رحلة البحث أم رحلة الهروب ما زلتُ أختلف أحياناً على التسمية، لكن الفعل هو ذاته، هجرتُ كل ما عرفته وألفته، تاركة خلفي معارضاتي لتفاصيل الحياة في شرقنا الجميل المعقد ومعاركي للتغيير التي في أغلبها لم تجدِ شيئاً. ففي محيط يحارب الجديد ويصرُ على العودة للوراء لم أستطع الثورة وكنتُ فتاة في مقتبل العمر، فما كان علي إلا أن أنجو بنفسي وأعلن ثورتي الصغيرة لترك واقع ما أحسنتُ تغييرَهُ إلا بهجره.
فأن يكون المنفى اختيارك، مجرد إغلاقك للحقائب استعداداً للسفر فأنت قد آثرتَ الرحيل على البقاء، والرحيل يعني رحيلك عن كل ما عرفته وألفته من وجوه وأماكن وأصوات، لتجد نفسك في مكان لن يُنطق اسمك فيه مجدداً صحيحاً وكأن اسماً جديداً صار لك. تصبحُ في هذا المكان لا أحد، كشجرة دون جذور تحاول عبثاً بدء حياة أخرى.
الرحيل يعني رحيلك عن كل ما عرفته وألفته من وجوه وأماكن وأصوات، لتجد نفسك في مكان لن يُنطق اسمك فيه مجدداً صحيحاً وكأن اسماً جديداً صار لك
هجرتُ وابتعدت، فرغم مساندة عائلتي الصغيرة لأفعالي وسلوكياتي وحبها غير المشروط لي، إلا أن المحيط في الشارع والحياة اليومية كان واقعه ظالماً ومجحفاً للمرأة، فقد بدأتُ حياتي المهنية في قطاع الإعلام حيث رأيت ما لا يسرني، ووجدتُ ثقافة تصنع من المرأة سلعة تسويقية، بصورة تلك المرأة التي يجب أن تكون مبتسمة ورشيقة وجميلة ذات شعر ناعم وغالباً مصبوغ. وفي ظل الحديث عن الشعر الناعم، فأنا خلقتُ بشعر مجعد وهو في بلادنا فلسطين أمر شائع، ومنذ صغري تهامس الناس في أذن أمي: "ملسيلها شعرها بيصير أحلى حرام". وأنا كنت أحب شعري كما هو، فهو يشبهني متمرداً وثائراً على عوامل الطقس بأحواله كافة، فكبرت رافضةً للصور النمطية المحيطة.
خلقتُ بشعر مجعد وهو في بلادنا فلسطين أمر شائع، ومنذ صغري تهامس الناس في أذن أمي: "ملسيلها شعرها بيصير أحلى... حرام"
وفي طريق البيئة لتصنع مني فتاة متعلمة مقبولة اجتماعياً في رحلة انتظار العريس النموذجي على حصانه الأبيض، رفضتُ أن أعيش بانتظار رجل ليحقق لي أحلامي، أو أن أعيش لأنال إعجاب أمٍّ في حفلة لأقنعها بأني فرصة جيدة لابنها، كرهتُ هذه الطريقة لأن الزواج في مجتمعاتنا هو زواج في منتهى الحساب، هو دراسة جدوى ومشروع، للحبِ مكان قليل فيه.
فاقتنعتُ أن عليّ الرحيل لأعيش المغامرة وأتعلم المزيد عن عالمنا الأكبر بثقافاته المختلفة، بعيداً عن التقليدية والبرنامج المحدد مسبقاً لحياة أي فرد في مجتمعاتنا، وذلك الخط الزمني الذي يجب اتباعه وإلا خرجنا عن القطيع. وقديماً عندما كان يسألني الناس لماذا لم ترتبطي للآن، كنتُ بتهكم وابتسامة أجيب: "لأن عريسي لن يأتي على حصان أبيض، بل هو آتٍ على حمارة عرجاء وقد أضاع الطريق إلي". فقد أردتُ أن أرتبط كما أشاء ومتى أشاء وبمن أشاء بعيداً عن أحكامهم وشروطهم وحساباتهم.
لحُسن حظي أن والديّ غرسا فينا نحن الفتيات حُب التعلم، ولم يعارضا سفري لاستكمال دراستي، وكانت تلك البداية لرحلة طويلة وبعيدة، حصلتُ فيها على درجة الدكتوراه، وتعلمت إلى جانب الإنجليزية اللغتين الإسبانية والتركية، وزرتُ بلاداً مختلفة تعرفت فيها على أناس رائعين خلال رحلة هروبي هذه، واكتشفتُ الكثير عن نفسي وعن قدرتي على التحمل والاعتماد على ذاتي فقط في معظم الأوقات.
ولم يكن سهلاً البدء من جديد في مكان مجهول تماماً ولغة لم أسمعها من قبل في حياتي، ورغم ذلك هناك متعة ولذة ساحرة في البدايات، في البحث عن غرفة للسكن وإقناع الغرباء أصحاب البيت بلغة ركيكة بأنني القادمة من بعيد جديرة بثقتهم وأنني سأدفع بدل الإيجار نهاية كل شهر، إضافةً للتحديات الأخرى من استيعاب نظام وقوانين البلد المضيف أو حتى ركوب القطار لأول مرة، واستخدام الخرائط كان عالماً لوحده، فلم أتعلم من قبل قراءة الخارطة إلى أن سافرت، فكنتُ أحفظ الطرق وأسماءها قبل الخروج من المنزل لأي وجهة حتى لا أضيع.
هناك متعة ولذة ساحرة في البدايات، في البحث عن غرفة للسكن وإقناع الغرباء أصحاب البيت بلغة ركيكة بأنني القادمة من بعيد جديرة بثقتهم.
أما التحدي الأكبر فكان اللغة الغريبة تماماً ومحاولات التحدث بها وإجبار العقل على تذكر معاني الكلمات الأساسية تحسباً لأي طارئ، والتخلي عن الخجل في ارتكاب الأخطاء في لفظ الكلمات الجديدة. الجميل في تعلم لغة جديدة، هو الإدراك أنّنا نحن البشر متشابهون كثيراً ولا نحتاج لإتقان اللغة للتواصل، فبضع كلمات كفيلة بتحقيق ذلك الرابط الإنساني الدافئ، فالناس جميعهم على تنوع معتقداتهم وأعراقهم ولغاتهم في العواصم والمدن المختلفة ينهضون مبكراً للذهاب لأعمالهم يتقاسمون مخاوف متشابهة ويبحثون عن حل اللغز الأبدي للسعادة.
ولهذا يظل السفر فعلاً ممتعاً ومفيداً ومغنياً للإنسان. هو استثمار ناجح في الفرد، يثري البصر والعقل، وكما قال أبو تمام: "اغترب تتجدد"، وهذا حقيقي تتجدد روحياً ومعرفياً حتى خلايا المخ تنشط بتعلم لغة مختلفة أو طريق جديدة، هناك عنفوان يزهو مع كل خطوة لمكان وثقافة جديدين. لكن للغربة هذه ثمناً كبيراً، هو الحنين الذي يأتي أحياناً مع رائحة التراب في أول المطر، أو الاشتياق للعائلة والأصدقاء في لحظات ما، وذلك الاغتراب الذي يصيب كل مَن رحل عن بلاده، يصبح غريباً في كل مكان، ولا منتمياً، فلا يستطيع العودة لوطنه الأم ويراه بنفس الروح القديمة بعيداً عن تجاربه الجديدة، ولا يستطيع العيش والاندماج كلياً في الوطن الجديد، يصير غريباً أينما حل. وأنا أصبحتُ عالقةً بين عالمين وثقافتين ولغتين. لذلك قررت في هذا العام الجديد أن أصنع عالمي الخاص وثقافتي كنتاج للعالمين معاً.
في تنقلي كالبدوية الرحّالة حملتُ بيتي في حقيبتي، لأتعلمَ ألا أكتنز الأشياء، فالقليل يكفي ويسهل حمله في حقيبة
وفي تنقلي كالبدوية الرحّالة حملتُ بيتي في حقيبتي، لأتعلمَ ألا أكتنز الأشياء، فالقليل يكفي ويسهل حمله في حقيبة، لكن ما يؤلم حقاً هو أنني الأن أؤمن أننا عندما نعيش في مكان ما ونتركه نترك جزءاً من قلبنا هناك، وأنا اليوم قلبي مجزّأ في عدة قارات، لكني أعتقد أنه ما زالل بإمكاني السفر مجدداً لوجهة قادمة وأن قلبي ما زال كبيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...