"مجد لبنان أُعطي له"؛ شعار اعتمدته البطريركية المارونية في لبنان، واعتمده كثيرون للقول إن مجد لبنان أُعطي للبطريرك، برغم أن أصل العبارة يعود إلى نبوءة من سفر إشعياء الذي تنبّأ بولادة السيد المسيح من عذراء، قبل 700 عام على تلك الولادة، إذ جاء في النبوءة حرفياً: "يزهر إزهاراً، ويبتهج ويرنم طرباً. مجد لبنان أُعطي له، وبهاء الكرمل والشارون، فيرى كل بشر مجد الله وبهاء الرب إلهنا".
دلالات شعار "مجد لبنان أُعطي له"، دينية إيمانية، لا علاقة لها بالسياسة، خاصةً عندما لا يكون البطريرك جامعاً للقوى السياسية المسيحية في كثير من الأحيان، ويكون طرفاً، يدعم هذا الفريق أو ذاك.
في 15 آذار/ مارس من العام 2011، انتُخب بشارة الراعي بطريركاً للطائفة المارونية، خلفاً للبطريرك الراحل نصر الله صفير، الذي كانت له صولات وجولات سياسية في مواجهة الوجود السوري في لبنان ومخاصمة القوى السياسية الحليفة لسوريا.
11 عاماً للراعي في مقر البطريركية في بكركي، كانت له خلالها مواقف عديدة، قرأ فيها البعض تناقضات كثيرةً، خاصةً في السنوات الأربع الأخيرة التي بدأت مع انطلاق ثورة الشعب اللبناني على القوى السياسية في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إذ وصل البطريرك إلى مرحلة المطالبة بالتدخل الدولي لحل الأزمة اللبنانية، بعد أن كانت البطريركية رأس الحربة في المطالبة باستقلال لبنان وحريته، ثم دافع عن حاكم المصرف المركزي اللبناني رياض سلامة، الذي أنهك المودعين، الذين يذكرهم البطريرك خلال عظاته، ويطالب بحقوقهم.
وصل البطريرك إلى المطالبة بالتدخل الدولي لحل الأزمة اللبنانية، بعد أن كانت البطريركية رأس الحربة في استقلال لبنان
التسهيل والتعقيد
عند كل استحقاق سياسي أو اقتصادي يبرز دور البطريرك الماروني، فتراه يهاجم الفراغ الرئاسي مثلاً، ويرفض الدعوة إلى حوار مسيحي-مسيحي لإنهاء الفراغ، وينتقد معطّلي انتخاب رئيس للجمهورية من القوى السياسية عبر تعطيل النصاب، ثم يجلس معهم في بكركي، ويُدافع عن أموال المودعين، ويرسم خطوطاً حمراء حول مصرف لبنان وحاكمه سلامة.
يقول الراعي في نيسان/ أبريل عام 2020: "انتقاد رياض سلامة لن يسفر عن شيء سوى إلحاق الضرر بالبلاد، فمن المستفيد من زعزعة حاكمية مصرف لبنان؟ المستفيد نفسه يعلم. أما نحن فنعرف النتيجة الوخيمة وهي القضاء على ثقة اللبنانيين والدول بمقومات دولتنا الدستورية".
بعدها بعام واحد، يقول البطريرك الماروني دفاعاً عن اللبنانيين الذين خسروا ودائعهم بسبب سياسات رياض سلامة وفساد المسؤولين اللبنانيين: "أَوْقِفوا إذلالَ الناس، أَوْقفوا المسَّ بأموالِ المودِعين من خلالِ السحبِ من الاحتياط. أَوْقِفوا الهدرَ تحت ستارِ الدعم".
لا يرى أستاذ الفلسفة السياسية والمطّلع على الشؤون الوطنية والسياسية لبكركي الأب باسم الراعي، أن "البطريرك يغيّر مواقفه، خاصةً في ما يتعلق بالثوابت الوطنية، فالخطاب الرسمي للبطريرك يُقرأ من بابين، باب الرسائل العامة سنوياً وفيها الموقف الوطني، وباب رسائل المناسبات والعظات الأسبوعية، وفي حال جمعنا كل المواقف سنجد أن الراعي كأي بطريرك سابق، لا يحيد عن الثوابت الوطنية، وهي الحرية واستقلال لبنان والعيش معاً".
ويضيف الراعي في حديث إلى رصيف22: "أما في الشؤون السياسية، فأحياناً تُفهم مواقف البطريرك في غير موضعها، كالموقف الأخير من اجتماع حكومة تصريف الأعمال، فبسبب الأزمة القائمة القاهرة، وبحسب شخصية البطريرك، فإنه يحاول تسهيل بعض الأمور من خلال مواقف مخفّفة، وهذا ما حصل، لكن عندما فهم البعض موقف البطريرك على غير حقيقته أعطى موقفاً حازماً من انعقاد الحكومة".
وكانت حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نجيب ميقاتي قد اجتمعت في 5 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، في ظل مقاطعة مسيحية من التيار الوطني الحر، سبقتها بيوم واحد عظة للبطريرك الراعي قال فيها إن "حكومة تصريف الأعمال هي حكومة تصريف أعمال الناس، لا حكومة جداول أعمال الأحزاب والكتل السياسية".
التركيز على اسم حاكم المصرف، يُغفل حقيقة الصراع الاقتصادي القائم، فالبطريرك لم يدعم الحاكم بصفته مارونياً، بل يشدد على ضرورة محاسبة كل المرتكبين... فكيف يُقرأ موقفه اليوم؟
وفي 12 كانون الأول/ ديسمبر، حين زار ميقاتي بكركي، نقل عن البطريرك قوله إن "الأخير لفت نظره إلى أنه كان من الأفضل أن يحصل تشاور قبل انعقاد جلسة الحكومة الأخيرة".
ثوابت ومتغيرات
يجزم الراعي بأن في أداء البطريرك ثوابت لا يحيد عنها، وهناك متغيرات تتعلق بكيفية إدارة شؤون العباد، فهل الدفاع عن رياض سلامة هو أحد هذه المتغيرات؟
يشدد الأب الراعي على أنه في "حال التركيز على اسم حاكم المصرف، نُغفل حقيقة الصراع الاقتصادي القائم"، مشيراً إلى أن "البطريرك لم يدعم الحاكم بصفته مارونياً، بل يشدد على ضرورة محاسبة كل المرتكبين، لا حصرها في شخص واحد هو موظف لدى سلطة مسؤولة".
ويرى أن "المعركة في وجه رياض سلامة تهدف إلى إخفاء حقيقة أن الصراع هو على المستقبل الاقتصادي للبنان. فظاهر الصراع في هذا الموضوع هو على شخص الحاكم، لكن ضمناً الصراع على مبدأ الاقتصاد، في ظل وجود توجهين، توجه الحفاظ على النظام الليبرالي الحر وتوجه الانتقال إلى صورة جديدة للاقتصاد لم تبرز ملامحها بعد".
ويتمسك المسيحيون بالاقتصاد الليبرالي الحر، لأنهم يعدّونه ضمانةً لوجودهم ومستقبلهم في لبنان، فهم يشكلون ركناً أساسياً من هذا الاقتصاد عبر إدارتهم لمفاصل مالية أساسية، برغم أن الأب الراعي يرفض هذه المقاربة، مطالباً بعدم حصر مواقف الراعي في شخص الحاكم، "لأن البطريرك لا ينطلق من مواقفه من عاطفة بنوية(أبوية) تجاه شخص بل انطلاقاً من معلومات وتحاليل خبراء يستشيرهم، وهو لا يغطّي فاسداً في حال ثبُت فساده".
يتمسك المسيحيون بالاقتصاد الليبرالي الحر، لأنهم يعدّونه ضمانةً لوجودهم ومستقبلهم في لبنان
الاستقلال والتدخل الدولي
عندما وافق البطريرك إلياس الحويك، على انتداب لبنان من قبل فرنسا عام 1919 في مؤتمر الصلح في باريس، كان يُدرك أن أي وجود دولي في لبنان سينتقص من سيادة البلد، وهكذا كان عندما عانى البطريرك الحويك في علاقاته مع الفرنسيين الذين حاولوا فرض بعض الأفكار الغريبة عن الدين المسيحي، أو خرجوا عن الإطار المفترض للانتداب.
ولطالما كانت البطريركية المارونية إلى جانب سيادة لبنان واستقلاله، ومؤخراً كان للبطريرك الراحل نصر الله صفير دور رائد في هذا المجال عندما وقفت البطريركية في وجه الوجود السوري في لبنان، لكن البطريرك الراعي يُصرّ اليوم على طلب التدخل الدولي لحل الأزمات السياسية في لبنان.
في شباط/ فبراير الماضي، دعا البطريرك بشارة بطرس الراعي بعد انتقاده المسؤولين اللبنانيين، إلى عقد مؤتمر دولي خاص بلبنان، وقال: "تطيير الحلول الداخلية يدفعنا إلى التطلع نحو منظمة الأمم المتحدة للمساعدة على إنقاذ لبنان، ومن واجب هذه المنظمة أن تعكف على دراسة أفضل السبل لتأمين انعقاد مؤتمر دولي خاص بلبنان يعيد تثبيت وجوده ويمنع سقوطه".
كرر البطريرك الراعي أكثر من مرة المطالبة بالتدخل الدولي، وهو ما يعدّه الأب الراعي، "أمراً طبيعياً في ظل تخلّي القوى السياسية عن دورها في حل الأزمات، وكون لبنان عضواً في منظمة الأمم المتحدة".
ويضيف: "ولا مرة استعمل البطريرك كلمة ‘وصاية’، وإلا يكون مناقضاً لكل صراع البطريركية التاريخي على استقلال لبنان"، مشيراً إلى أن البطريرك الماروني طالب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بلعب دورهم في حماية دولة صديقة متعثرة، ولا يطالب بتدخل عسكري مثلاً في وجه حزب الله، فلو أراد ذلك لكان طالب بتطبيق القرار الدولي الذي أنهى حرب تموز/ يوليو عام 2006، وحمل الرقم 1701، والذي ورد تحت الفصل السابع ولو من دون ذكر ذلك في متنه بشكل واضح".
يهاجم الأب الراعي كل المزايدين على البطريركية، مؤكداً حرصها على الوحدة الوطنية، وفتح أبواب الحوار مع الجميع بمن فيهم حزب الله الذي كان في بكركي قبل أيام، ويبدو أنه يقوم بمراجعة داخلية كبيرة لكل المواقف والقضايا التي لها علاقة بلبنان، مطالباً الحزب باختيار أي حزب يريد أن يكون: حزب لأجل لبنان، أم حزب أكبر من لبنان؟
دور بكركي لا يتغير
خلال الأزمات يبرز دور بكركي، لكنه لم يعد بالفعالية نفسها التي كان عليها سابقاً، ففي العام 2014 مثلاً خلال الأزمة الرئاسية، أعدّ البطريرك الراعي لائحةً بأسماء المرشحين لرئاسة الجمهورية، انقلبت عليها القوى المسيحية ووصل ميشال عون إلى الرئاسة، اليوم يكاد يكرر التاريخ نفسه من خلال محاولة بكركي تسويق أسماء رئاسية ولو بشكل غير علني مثل الوزير السابق روجيه ديب، أو زياد بارود أو العسكري السابق جورج خوري، الذي كان بالمناسبة مرشح بكركي قبل وصول ميشال عون.
"لا داعٍ لحشر بكركي في ملفات فرعية كالرئاسة، وربما هذا درس تعلمه الراعي خلال الأعوام الماضية، فالدور يُقاس بالمفاصل الوطنية الكبرى"... فكيف تقرأ ما يجري حالياً؟
لكن بحسب الأب الراعي، فإن بكركي لم تكن يوماً فريقاً سياسياً بل هي صرح وطني، وقوتها تظهر في الأزمات الكبيرة، لأن كل الأطراف يعودون إليها لعلمهم بأن دورها لا يمكن نزعه، مستذكراً ما قام به النواب المسيحيون قبل التوقيع على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، عندما زاروا البطريرك صفير وقالوا له: "إنت يا بتوافق على اتفاق الطائف يا لا"، مشيراً إلى أنه في اللحظات المصيرية، بكركي مؤتمنة على لبنان وهي بيضة القبان الوطنية الوازنة، وهذا لا يتغير بتغيّر اسم البطريرك.
إذاً، لا داعٍ لحشر بكركي في ملفات فرعية كالرئاسة، وربما هذا درس تعلمه الراعي خلال الأعوام الماضية، فالدور بحسب الأب الراعي يُقاس بالمفاصل الوطنية الكبرى، كالتي نمرّ بها اليوم، حيث بدأت ترتسم معالم مستقبل لبنان تدريجياً.
في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تصاعد خطاب البطريرك الموجه ضد حزب الله، ووصل إلى تحميله مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من انهيار نتيجة "هيمنة الحزب".
في 3 كانون الثاني/ يناير الحالي، زار وفد من حزب الله بكركي، بعد قطيعة دامت سنتين، قيل إنها بسبب جائحة كورونا، ونقلت صحيفة الأخبار اللبنانية عن مصادر مطّلعة على ما حصل خلال اللقاء، أن الوفد قال للراعي إن "الحزب حريص على أن لا يأتي رئيس يطعن المقاومة، فكان رد البطريرك بأنه مخطئ من يعتقد بإمكان الإتيان برئيس كهذا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...