شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
المعتذرات دائماً

المعتذرات دائماً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الجمعة 6 يناير 202303:52 م

أغنية "أسفة جداً" للمغنية البريطانية لولا يونج، والتي أُطلقت في العام الماضي، تتنغم بجرأة وسخرية وشيء من الأداء الأنثوي المعهود والتقليدي الذي تصارعه جموع من الفتيات المعاصرات (كما في حالة لولا)، بتوقعات المجتمعات للنساء وربطهن بثقافة الاعتذار بشكل شبه متواصل. علقت الممثلة البريطانية ميني درايفر، عند سماع الأغنية في برنامج غراهام نورتن، بأن الأغنية تأتي بشعور تعرفه أغلب النساء وهو السأم من الاعتذار للجميع بشكل دائم عن كل شيء وعن أي شيء.

هل نعتقد أن الاعتذار الدائم للرجال يحمينا من القتل؟ هل نعلن انضمامنا إلى صفوفهم ومنطقهم والحفاظ على مشاعرهم خوفاً من غضبهم تجاهنا؟

في السنوات الأخيرة، عبّرت رسامات الكوميكس، من أماكن مختلفة في العالم، عن ثقافة اعتذار النساء في العمل والعلاقات المتنوعة، غالباً عن طريق الاعتذار المُقَنَّع غير المباشر الذي يجتاح حياة كثيرات من النساء وينضم إلى فيض التوقعات منهن بالاعتذار. بالتصفح على غوغل، نجد تمثيل كيفية طرح التعليمات والمقترحات التي تناشد بها النساء في العمل زملاء لهن، وأحياناً مرؤسيهن من الرجال "بصنعة لطافة" إلى درجة تصل إلى بناء معلقات ومقدمات مطولة في شكل شبه أشعار لتوصيل الرسالة بدلاً من البوح بها صراحةً وباختصار. قد ينتهي المطاف بالإيحاء للموظف بأن الفكرة المطروحة فكرته وأنها نتاج طبيعي لعبقريته كما تفعل بعض الزوجات مع أزواجهن، فكما ورد في فيلم "زفافي اليوناني المتضخم" My Big Fat Greek Wedding، حين تنصح الأم بطلة الفيلم بأن تعي بأن الرجل هو الرأس والمرأة هي الرقبة، وتستطيع أن توجه الرقبة الرأس في أي اتجاه تريد، بالتحايل والإيحاء طبعاً. أفصحت لي صديقة مقربة، وهي مديرة سوق تجاري كبير، بأنها اعتادت المزاح والنكات السخيفة من مرؤسيها الرجال حين تتحدث إليهم بصرامة أو تؤاخذهم على غلطات في العمل فتنهال عليها تعليقات عن دورتها الشهرية مثلاً. يقابَل كل هذا المد السام من التعليقات الذكورية "بالتطنيش" (أي بالإهمال وعدم المواجهة).

تعتذر الكثيرات لأنهن ازددن وزناً، أو تأخرن مع الأصدقاء في عشاء ما، أو قررن أن يعرن أحد الأصدقاء مبلغاً نقدياً وهلمّ جرّاً. وتعتذر بعض النساء عن رغبتهن في المساواة في الدفاع عن الرجال في حياتهن. هؤلاء الرجال الذين لا يبخلون عليهن بشيء، و"يدللونهن" كل يوم ويعاملوهن "بحنية وبكل احترام"، في ظل المحيط التقليدي الهادئ الذي لم تختبر فيه هؤلاء النساء مساحات جديدةً قد يكتشفن فيها جانباً آخر لهؤلاء الرجال. تلك الحياة السلسة تمهد لها النساء بشكل مستمر، ولكن عبر الحوار والمشاهدة لاحظت أنهن لا بنتبهن أو لا يصرّحن بدورهن في الحفاظ على تلك البيئة الهادئة. كتبت سارة الشيخ علي، في مقالها في رصيف22، بعنوان "أنا امرأة نسوية لبنانية خائفة": "... ككل قصص النساء مع الخوف وانعدام الأمان، تخبرنا بأمر مهم، وهو أن للأمان أبعاداً وطبقات، وأن أماننا تقاطعي، بمعنى أن في ثناياه تتقاطع التهديدات وأشكال التمييز والتحديات التي نواجهها كنساء ومدافعات". جزء من غياب الشعور بالأمان والتوتر تجاه السعي إلى المساواة يعني أن نعتذر بإسراف، وأن نحاول أن نبرّئ الرجال الذين نحبهم حتى وهم يمارسون الظلم والتعالي تجاهنا في الوقت نفسها. جموع من النساء تعتقد بأن النسوية وسيلة عقاب للرجال الذين يعاملوننا "بحنية و احترام". أليس من الأدعى أن ينضم هؤلاء الرجال إلى صفوف النضال النسوي؟

تعتذر الكثيرات لأنهن ازددن وزناً، أو تأخرن مع الأصدقاء في عشاء ما، أو قررن أن يعرن أحد الأصدقاء مبلغاً نقدياً وهلمّ جرّاً. وتعتذر بعض النساء عن رغبتهن في المساواة في الدفاع عن الرجال في حياتهن

قرأت العام الماضي في "ميم" باللغة الإنكليزية، تساؤلاً لبعض النسويات عن سبب صمت الرجال الذين يدعمون القضايا النسوية وعن السكوت الذي يجعل هؤلاء الرجال تقدميين فقط في حيواتهم الشخصية، في حين أنهم يخجلون من الانضمام إلى النشاط النسوي السياسي الذي يعتقدون بأنه حمل يقع على أكتاف النساء بشكل حصري، وكأننا لا نتشارك تاريخاً واحداً وواقعاً واحداً ونخضع للمنظومة القانونية نفسها. ولكن تميّز الرجال المتراكم بفعل تميّزهم التاريخي الطويل الذي منحوه لبعضهم البعض عبر أجيال، يتجلى في مواقف عدة. تقول أنيا مولينيك، الكاتبة والسياسية الهولندية في مقالها "ماذا تعرف النسويات عن الحب؟" (والمنشورة ترجمته لرحاب منى شاكر في موقع الجمهورية بتاريخ 13 شباط/ فبراير 2018)، إنه "وفقاً لدراسة حديثة شارك فيها عدد من الرجال الهولنديين، فإن الرجل يشعر بالإهانة عندما تتميز زوجته على صعيدٍ ما. يبدو أن شعورهم بالقيمة يتعلق بشكل مباشر بتفوقهم على المرأة الواقفة بجانبهم". أي متغير في هذه المعادلة يأتي بعدوانية وأشكال مختلفة من العنف فيصبح الاعتذار آليةً للدفاع عن النفس.

تحمل المعتذرات إرث إدارة المشاعر في سبيل المحافظة على العلاقات أجمع: "هكذا ينبغي أن تسير الأمور، وهكذا تسير دائماً: النساء يعشن من أجل الحب، والرجال تشغلهم أمورٌ أهمّ". وكما قالت أنيا مولينيك، ففي الاعتذار و"التطنيش" ترميم لفكرة "ثابتة عن الحب: المبادرة في العلاقة بيد الرجل، ولكن بعد الاتفاق يصبح الحفاظ على العلاقة من مهام المرأة". وتصبغ هذه الفكرة تفاعلات المجتمع عموماً.

تحمل المعتذرات إرث إدارة المشاعر في سبيل المحافظة على العلاقات أجمع: "هكذا ينبغي أن تسير الأمور، وهكذا تسير دائماً: النساء يعشن من أجل الحب، والرجال تشغلهم أمورٌ أهمّ"

مارغريت أتوود، الكاتبة الكندية، كاتبة "حكاية الجارية" (The Handmaid’s Tale)، التي نالت شهرةً عالميةً في السنين الأخيرة، عندما تحولت تلك الرواية إلى مسلسل من إنتاج شركة هولو، أدلت في أحد الحوارات التي أجرتها أنها حين سألت أصدقاءها من الرجال ما يخيفهم من النساء، كان ملخص ردودهم أنهم يخافون من أن يسخرن منهم. وحين سألت طالباتها عما يخيفهم في الرجال، كان ردهن هو الخوف من أن يقتلوهن. يتداول الكثيرون على منصات التواصل الاجتماعي نسخةً ملخصةً من هذه القصة لعرض التباين بين مخاوف الرجال والنساء من بعضهم البعض، والنقاط التي يتحرك منها وإليها العنف في مجتمعاتنا. هل نعتقد أن الاعتذار الدائم للرجال يحمينا من القتل؟ هل نعلن انضمامنا إلى صفوفهم ومنطقهم والحفاظ على مشاعرهم خوفاً من غضبهم تجاهنا؟

تلمس المخرجة المصرية هالة جلال، في أحدث أفلامها الوثائقية "من القاهرة"، هذا الخيط العتيد من خوف النساء اليومي في أثناء الحياة في مدينة القاهرة من خلال تعليقاتها الشخصية وبطلتي الفيلم: هبة، رسامة ومصورة مطلقة وأم لطفلة، وآية وهي شابة تعمل في الإخراج والمونتاج. تحكي لنا هؤلاء النساء عن مخاوفهن من كل ما يحيط بهن من أحكام في الحياة اليومية؛ عن ملبسهن وأشغالهن وكونهن يسكنّ بلا رجال من أفراد العائلة، وكيف يشعرهن السفر بفرص متجددة لاختبار الحياة بعيداً عن القاهرة. تأتينا رغبة النساء والبنات في اختبار الحياة بإمكانية تجربة البراح في المعيشة والاختيارات الحياتية والشعور العام بالأمان. يفخر كثيرون من الرجال الذين قابلتهم في حياتي بإتقانهم حماية النساء المسؤولات منهم (عائلياً، مادياً أو بالتبرع)، وكيف يشعرون بالزهو حين تتصرف هؤلاء النساء في صحبتهم، على راحتهن، بالابتسام والضحك في أثناء المشي في الشارع مثلاً، ويحتفظ نموذج الرجل حامي الحمى بالحق في إرهاب هؤلاء النساء أيضاً. الحماية مندرجة تحت مظلة الوصاية، بحرمانهن من المساواة وإخضاعهن و تأديبهن حتى ينصلح حالهن، ففي المخيلة المهيمنة النساء أقرب إلى الانفلات الأخلاقي والغواية. سلبُ قطاعات كبيرة من النساء الخبرة الحياتية التي تتيح الاستقلال في العيش والاختيار ومراجعة القرارات يسلبنا زمنياً -أجيالاً بأكملها- حق التمتع بنتاج النضال النسوي. ويأتي الركض إلى الوراء في محاولات محو المكاسب كما يحدث في الولايات المتحدة بسلب النساء الحق في الإجهاض الذي أمّنه القانون لهن في عقود سابقة. تحاصر الحيرة الكثيرات فيعتذرن دفاعاً عن "أولاد الحلال". تتصرف النساء اعتذارياً وكأنهن مواطنات من الدرجة الثانية، حتى حين يُعِلْنَ أسرهن بشكل كامل أو شبه كامل. ولكن يظل الرجال أرباب الأسر، فتخاف النساء على مشاعرهن ويقدمن الاعتذار الضمني في كل مناحي الحياة، أو لعله خوف من القتل؟

تتصرف النساء اعتذارياً وكأنهن مواطنات من الدرجة الثانية، حتى حين يُعِلْنَ أسرهن بشكل كامل أو شبه كامل. ولكن يظل الرجال أرباب الأسر، فتخاف النساء على مشاعرهن ويقدمن الاعتذار الضمني في كل مناحي الحياة، أو لعله خوف من القتل؟

نجد أنفسنا كنساء في معركة شبه يومية؛ نتوتر ونراجع صراحةً ما نريد أن نعبّر عنه من آراء في العمل أو حين نتأفف ونناقش معاملتنا كمواطنات من الدرجة الثانية أمام القضاء وبين أعضاء الأسرة. نراجع ملابسنا، وننتبه إلى ما نأكل حتى لا تزداد أوزاننا أو تقلّ. نصمت حينما ينعتنا "الأصدقاء" المتدينون وغيرهم بطرق مختلفة، بأننا ناقصات عقل ودين حين نبدي رأياً في مسألة ما. يستدلّ من حولنا من الرجال بما تبدي بعض النساء من أساليب استعراض الإغراء في صورهن وتسجيلاتهن على منصات التواصل الاجتماعي لإدانتنا بأننا لا نصلح ولا نجيد إلا الجنس، في حين أنه لا يفضح جزء من الحوار حقيقة تلك الممارسات كوسيلة "مقاولة جادة تحت غطاء الرومانسية، القادرة على أن تكون جذابةً فرصها في الحصول على حياة معقولة أكبر من التي تُعدّ قبيحةً، وبالأخص عندما يكون تعليمها متدنياً"، كما تقول أنيا ميولينيك. طوال الوقت نجد أنفسنا مطالبات بالاعتذار لما يخصنا وما يسقط علينا ويقع على أكتافنا، ونستكمل درأنا للأذى بأن ندافع عن الرجال اللطيفين والكريمين والمدللين حين نفتح حواراً عن همومنا النسوية، كما شاركنا في تهدئة نفوس الرجال في قمة حملة Me Too# بالمشاركة في دعم حملتهم الموازية Not All Men#.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard