شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
التصوف بالنسبة لي كان نوعاً من المخدرات

التصوف بالنسبة لي كان نوعاً من المخدرات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 30 يناير 202210:21 ص

كانت قريتي مقراً للكثير من الفرق الصوفية، منذ سنوات طفولتي الأولى، لذا شعرت بشيء من الحنين الداخلي إلى هذا النوع من التدين، حتى قررت أن أنغمس فيه في الكلية مع بداية دراستي الجامعية.

كنت حينها، كأقراني، مشغولاً بالبحث عن ذاتي، بعد أن غادرت قريتى للمرة الأولى إلى الجامعة في القاهرة، في خروج مباشر ومن دون مقدمات، من ضيق الريف إلى سعة المدينة، ووجدت في التصوف خلال تلك الفترة عاصماً من الزلل.

لشهور عدة، رفضت الإقامة في المدينة الجامعية، وشيدت في داخلي جداراً نفسياً ضخماً يفصلني عن أقراني، فأنا متصوّف لا تشغلني الدنيا.

لشهور عدة، رفضت الإقامة في المدينة الجامعية، وشيدت في داخلي جداراً نفسياً ضخماً يفصلني عن أقراني، فأنا متصوّف لا تشغلني الدنيا، فهي سقط متاع، أما هم فغارقون في الحياة بكل ملذاتها؛ يرافقون الفتيات، ويغنّون، ويرقصون خلال حفلات الجامعة، ولا يكلّون من الرحلات ودورات كرة القدم.

تنويم مغناطيسي

عندما كنت أعود إلى القرية مساءً، وجدت االإيمان اللذيذ في جلسات الذكر الصوفي والحضرات التي كنت أداوم عليها، والتي كانت تمدني بقدر من الخدر الجميل الذي يسري في دمي، ويجعلني في حالة سكينة مع النفس، فالمرء يجب أن ينشغل بتربية نفسه وتهذيبها وأن يحرمها من كل ما تشتهيه، وعليه دوماً أن يرضى بحاله. هذا ما تعلمته من الصوفية.

الأناشيد والموشحات الصوفية كان لها أيضاً مفعولَ السحر، وكانت تجعل المرء يبدو وديعاً، كما لو كان واقعاً تحت حالة من التنويم المغناطيسي التي ينعزل فيها عن كل ما يجري حوله.

الأناشيد والموشحات الصوفية كان لها أيضاً مفعولَ السحر، وكانت تجعل المرء يبدو وديعاً، كما لو كان واقعاً تحت حالة من التنويم المغناطيسي التي ينعزل فيها عن كل ما يجري حوله

مع اقتراب موعد الامتحانات، اضطررت إلى الإقامة في المدينة الجامعية اختصاراً للوقت، حيث اكتشفت بالتجربة العملية كم كنت غارقاً في الوهم، فزملاء الدراسة ليسوا شياطين غواية يجب الاستعاذة منهم بهجرهم، كما سوّلت لي نفسي. إنهم يصلّون ويصومون ويلعبون ويفرحون في الوقت نفسه، وهم فضلاً عن هذا كله يبدون باسمين مقبلين على الحياة، وليسوا عابثين دوماً مثلي، وكأنني رجل بلغ من العمر عتياً.

لحظة استنارة

كان يجاورني في الغرفة صديق من الصعيد، وكانت حجرته مكدسةً دوماً بالكتب. بدأت أقرأ منها وأنهل من علمها، واكتشفت كم كنت أحمق عندما حصرت نفسي في دائرة ضيقة للغاية، فالإيمان بالله لا يشترط أن يعتنق المرء مذهباً معيّناً، أو ينتمي إلى طريقة بعينها، والمسبحة المكونة من تسعة وتسعين حبةً، ليست وحدها الدليل على التقوى والزهد، والإيمان ليس معناه أن يعذّب المرء نفسه بهجر متع الدنيا وملذاتها.

لقد عجزت الصوفية عن أن تقدّم إسهاماً فكرياً متطوراً قادراً على أن يواكب متغيرات العصر.

كان كتاب "رؤية إسلامية"، لزكي نجيب محمود، نقطة تحول مفصلية، ولحظة استنارة فارقة في حياتي، تعلمت منها أن الإنسان لا يجب أن يبحث عن وسيط في علاقته بخالقه، وأن الأمر لا يتطلب أكثر من قلب نقي وعقل واعٍ، ليسير الإنسان في طريق عمارة الدنيا والاستمتاع بكل ملذاتها من دون أن يغضب ربه.

أيقنت بعد ذلك أن الله لم يخلقنا لنعذّب أنفسنا فى هذه الدنيا بالحرمان الدائم من كل ما أحلّه لنا، كما كنت أتوهم فى الحقبة الصوفية من حياتي، وعلمت أننا عندما نفعل ذلك بمحض إرادتنا، فإننا نمارس نوعاً من الغلو والتشدد الذي نفرضه على أنفسنا، وتأباه الشرائع السماوية.

رداء الصوفية الضيق

وُلدت من جديد بعد أن خلعت رداء الصوفية الضيق، وقررت أن أمضي في دنيا الله الواسعة، بعينين مفتوحتين على اتساعهما، وعقل منفتح على جميع الأفكار. ندمت على سنوات كثيرة من عمري أضعتها مصرّاً على تهميش نفسي، قبل أن يهمشها الآخرون، ودفعها إلى الانزواء في ركن قصيٍّ، زاهداً في كل شيء، ومكتوياً بنار حرمان لم أعرف له سبباً.

أيقنت بعد ذلك أن الله لم يخلقنا لنعذّب أنفسنا فى هذه الدنيا بالحرمان الدائم من كل ما أحلّه لنا، كما كنت أتوهم فى الحقبة الصوفية من حياتي، وعلمت أننا عندما نفعل ذلك بمحض إرادتنا، فإننا نمارس نوعاً من الغلو والتشدد الذي نفرضه على أنفسنا، وتأباه الشرائع السماوية

اليوم أعترف بأن التصوف بالنسبة إلي كان نوعاً من المخدرات التي يتناولها المرء رغبةً في الهروب من الواقع، من دون أن يتحلى بشجاعة مواجهته. ربما لا يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى آخرين، ولكن هذه هي خلاصة تجربتي.

لقد عجزت الصوفية عن أن تقدّم إسهاماً فكرياً متطوراً قادراً على أن يواكب متغيرات العصر، لذا انزوت وتراجعت وأصبح أتباعها فى غالبيتهم من كبار السن الذين ارتبطوا بالظاهرة منذ وقت مبكر، أما في أوساط الشباب فإنها لا تسجّل أبداً حضوراً يُذكر، وإذا كان الصوفي في عزلته الاختيارية يحاول أن يعصم نفسه، فإنه أبداً لا ينفع مجتمعه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard