كانت قريتي مقراً للكثير من الفرق الصوفية، منذ سنوات طفولتي الأولى، لذا شعرت بشيء من الحنين الداخلي إلى هذا النوع من التدين، حتى قررت أن أنغمس فيه في الكلية مع بداية دراستي الجامعية.
كنت حينها، كأقراني، مشغولاً بالبحث عن ذاتي، بعد أن غادرت قريتى للمرة الأولى إلى الجامعة في القاهرة، في خروج مباشر ومن دون مقدمات، من ضيق الريف إلى سعة المدينة، ووجدت في التصوف خلال تلك الفترة عاصماً من الزلل.
لشهور عدة، رفضت الإقامة في المدينة الجامعية، وشيدت في داخلي جداراً نفسياً ضخماً يفصلني عن أقراني، فأنا متصوّف لا تشغلني الدنيا.
لشهور عدة، رفضت الإقامة في المدينة الجامعية، وشيدت في داخلي جداراً نفسياً ضخماً يفصلني عن أقراني، فأنا متصوّف لا تشغلني الدنيا، فهي سقط متاع، أما هم فغارقون في الحياة بكل ملذاتها؛ يرافقون الفتيات، ويغنّون، ويرقصون خلال حفلات الجامعة، ولا يكلّون من الرحلات ودورات كرة القدم.
تنويم مغناطيسي
عندما كنت أعود إلى القرية مساءً، وجدت االإيمان اللذيذ في جلسات الذكر الصوفي والحضرات التي كنت أداوم عليها، والتي كانت تمدني بقدر من الخدر الجميل الذي يسري في دمي، ويجعلني في حالة سكينة مع النفس، فالمرء يجب أن ينشغل بتربية نفسه وتهذيبها وأن يحرمها من كل ما تشتهيه، وعليه دوماً أن يرضى بحاله. هذا ما تعلمته من الصوفية.
الأناشيد والموشحات الصوفية كان لها أيضاً مفعولَ السحر، وكانت تجعل المرء يبدو وديعاً، كما لو كان واقعاً تحت حالة من التنويم المغناطيسي التي ينعزل فيها عن كل ما يجري حوله.
الأناشيد والموشحات الصوفية كان لها أيضاً مفعولَ السحر، وكانت تجعل المرء يبدو وديعاً، كما لو كان واقعاً تحت حالة من التنويم المغناطيسي التي ينعزل فيها عن كل ما يجري حوله
مع اقتراب موعد الامتحانات، اضطررت إلى الإقامة في المدينة الجامعية اختصاراً للوقت، حيث اكتشفت بالتجربة العملية كم كنت غارقاً في الوهم، فزملاء الدراسة ليسوا شياطين غواية يجب الاستعاذة منهم بهجرهم، كما سوّلت لي نفسي. إنهم يصلّون ويصومون ويلعبون ويفرحون في الوقت نفسه، وهم فضلاً عن هذا كله يبدون باسمين مقبلين على الحياة، وليسوا عابثين دوماً مثلي، وكأنني رجل بلغ من العمر عتياً.
لحظة استنارة
كان يجاورني في الغرفة صديق من الصعيد، وكانت حجرته مكدسةً دوماً بالكتب. بدأت أقرأ منها وأنهل من علمها، واكتشفت كم كنت أحمق عندما حصرت نفسي في دائرة ضيقة للغاية، فالإيمان بالله لا يشترط أن يعتنق المرء مذهباً معيّناً، أو ينتمي إلى طريقة بعينها، والمسبحة المكونة من تسعة وتسعين حبةً، ليست وحدها الدليل على التقوى والزهد، والإيمان ليس معناه أن يعذّب المرء نفسه بهجر متع الدنيا وملذاتها.
لقد عجزت الصوفية عن أن تقدّم إسهاماً فكرياً متطوراً قادراً على أن يواكب متغيرات العصر.
كان كتاب "رؤية إسلامية"، لزكي نجيب محمود، نقطة تحول مفصلية، ولحظة استنارة فارقة في حياتي، تعلمت منها أن الإنسان لا يجب أن يبحث عن وسيط في علاقته بخالقه، وأن الأمر لا يتطلب أكثر من قلب نقي وعقل واعٍ، ليسير الإنسان في طريق عمارة الدنيا والاستمتاع بكل ملذاتها من دون أن يغضب ربه.
أيقنت بعد ذلك أن الله لم يخلقنا لنعذّب أنفسنا فى هذه الدنيا بالحرمان الدائم من كل ما أحلّه لنا، كما كنت أتوهم فى الحقبة الصوفية من حياتي، وعلمت أننا عندما نفعل ذلك بمحض إرادتنا، فإننا نمارس نوعاً من الغلو والتشدد الذي نفرضه على أنفسنا، وتأباه الشرائع السماوية.
رداء الصوفية الضيق
وُلدت من جديد بعد أن خلعت رداء الصوفية الضيق، وقررت أن أمضي في دنيا الله الواسعة، بعينين مفتوحتين على اتساعهما، وعقل منفتح على جميع الأفكار. ندمت على سنوات كثيرة من عمري أضعتها مصرّاً على تهميش نفسي، قبل أن يهمشها الآخرون، ودفعها إلى الانزواء في ركن قصيٍّ، زاهداً في كل شيء، ومكتوياً بنار حرمان لم أعرف له سبباً.
أيقنت بعد ذلك أن الله لم يخلقنا لنعذّب أنفسنا فى هذه الدنيا بالحرمان الدائم من كل ما أحلّه لنا، كما كنت أتوهم فى الحقبة الصوفية من حياتي، وعلمت أننا عندما نفعل ذلك بمحض إرادتنا، فإننا نمارس نوعاً من الغلو والتشدد الذي نفرضه على أنفسنا، وتأباه الشرائع السماوية
اليوم أعترف بأن التصوف بالنسبة إلي كان نوعاً من المخدرات التي يتناولها المرء رغبةً في الهروب من الواقع، من دون أن يتحلى بشجاعة مواجهته. ربما لا يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى آخرين، ولكن هذه هي خلاصة تجربتي.
لقد عجزت الصوفية عن أن تقدّم إسهاماً فكرياً متطوراً قادراً على أن يواكب متغيرات العصر، لذا انزوت وتراجعت وأصبح أتباعها فى غالبيتهم من كبار السن الذين ارتبطوا بالظاهرة منذ وقت مبكر، أما في أوساط الشباب فإنها لا تسجّل أبداً حضوراً يُذكر، وإذا كان الصوفي في عزلته الاختيارية يحاول أن يعصم نفسه، فإنه أبداً لا ينفع مجتمعه.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياميخلقون الحاجة ثم يساعدون لتلبيتها فتبدأ دائرة التبعية
Line Itani -
منذ 6 أيامشو مهم نقرا هيك قصص تلغي قيادات المجتمع ـ وكأن فيه يفوت الأوان عالحب
jessika valentine -
منذ اسبوعينSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع