شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أحبت إيران ولكنها لم تستطع العيش فيها... آن ماري شفارسنباخ

أحبت إيران ولكنها لم تستطع العيش فيها... آن ماري شفارسنباخ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

السبت 24 ديسمبر 202212:01 م

زارت الروائية السويسرية آن ماري شفارسنباخ خلال العامين 1933 و 1934 إيران ثلاث مرات. وجمعت كتاباتها عن تلك الزيارات في مؤلفها "الموت في إيران" الحافل بالحديث عن الموت، ما يجعل القارئ يعتقد أن الكاتبة ماتت في إيران بينما البحث في سيرتها يبين أنها ماتت بعد أعوام طويلة في مسقط رأسها إثر اصطدامها بدراجة هوائية.

آن كانت تعشق السفر وخصوصاً إلى بلاد الشرق. قررت في بداية مشوارها السفر برفقة أصدقائها إلى إيران ولكن انتحار أحد أصدقائها المقربين حال دون ذلك وهو أمر جعلها تعيش الكآبة والإدمان. ومنذ ذلك الوقت أصبحت فكرة الموت تملأ فكرها.

وبدأت آن رحلتها بعد مضي عام واحد على الحدث، والسؤال هنا لماذا كانت إيران وجهتها.

البحث عن وطن خالد

يقول السويسري الخبير في الدراسات الإيرانية "رودولف كليكه" إن آن لم تحتمل متاعب السفر إلى الشرق بسبب الحب والرغبة في الشرق فحسب، إنما من أجل السفر بذاته والسير في الطريق. لأن البحث عن وطن آخر وطن خالد كان هوسها ورغبتها، ربما كان قرارها انتخاب إيران وأفغانستان والمغرب وجهة للسفر بسبب رؤية الشرقيين إلى الموت كخطوة نحو النمو والكمال.

تقول آن في كتابها: "ما هو معنى الموت؟ إن كان الموت أمراً طبيعياً فلماذا نعجز أمامه؟ لكن الأسيويين في دياناتهم لا يرون الموت إلا حياة وحقيقة ويجلسون بانتظاره دون تشجيع من أحد".

ثم تضيف: "سمعتهم يقولون إن الموت يمكنه الارتقاء بالإنسان ولكن عليّ أن أكون صادقة فـ أنا لا أؤمن بهذا القول. كيف يمكن الهروب من مرارة الموت؟ للموت قوة تفوق قوة البشر وأوسع من قوة استيعابنا. ولا فناء لتلك القوة إلا إذا اعتبرنا الموت الطريق الوحيد الذي لا يمكن تجاهله".

لأن البحث عن وطن آخر وطن خالد كان هوسها ورغبتها، ربما كان قرارها انتخاب إيران وأفغانستان والمغرب وجهة للسفر بسبب رؤية الشرقيين إلى الموت كخطوة نحو النمو والكمال

ومن أجل سهولة التردد تزوجت آن من الدبلوماسي الفرنسي "كلود كلار" زواجاً شكلياً لتتمكن من خلاله الحصول على جواز سفر دبلوماسي، السفر إلى حيث تشاء بسهولة أكبر.

ولهذا السبب زارت إيران ثلاث مرات في عام واحد.

عن الحياة في إيران

وكتبت عن الحياة في إيران: "بأي شكل من الأشكال حاولتُ العيش في إيران، ولكني لم أستطع ذلك. رأيت من حولي أناساً لا يسعون إلا من أجل العيش. إنهم يواجهون المخاطر وكلما كانت المخاطر حقيقية بدا الوضع أفضل. كانوا مثلي يمرون عبر طرق جبلية طويلة متعبين خائفين وعبر شواطئ مظلمة فائضة. ومثلي أيضاً يعودون ذات يوم إلى العاصمة ويذهبون إلى السفارات ويستحمون ويتناولون الطعام وينامون طويلاً".

وقامت بالبحث في آثار "ري" (مدينة أثرية تصنف إدارياً ضمن طهران) و"تخت جمشيد" (بقايا من قصور تاريخية كانت في الماضي مدناً عظيمة وإحدي عواصم الحكومة الأخمينية وهي قريبة من مدينة شيراز الحالية). وصوّرت  هذه المناطق والمدن. صورها تعد مصدراً مهماً لدراسة إيران التي كانت في طريقها نحو الحداثة.

كتبت آن عن تخت جمشيد: "كانت ليالي تخت جمشيد جميلة. ليالٍ مضيئة ليس  دائماً بفضل نجوم درب التبانة أو ضوء القمر الذي يضيء كالنهر عندما يجري في صحراء جافة إنما بفضل حوارات واضحة بسيطة مليئة بالحزن والسُكر أثر تناول الفودكا".

حبّها لـ"ژاله"

وتتطرق آن في الجزء الثاني من كتابها إلى معرفتها وحبّها لفتاة إسمها "ژاله" ويتناول هذا الجزء مخاوفهما: "أريد هنا رواية مغامرة جميلة وعادية فيها الحب والسعادة ولهذا السبب كادت أن تخلصنا أنا وفتاة أخرى من الشقاء".

تعرفت آن على هذه الفتاة في المشفى عندما دخلته بسبب حمى شديدة ورعتها مريضة أخرى هي ژاله التي كانت تعاني الربو. وتكتب آن فيما بعد عن ژاله: "نظرت إليها. كانت يدها تحت ذقنها. فتاة جميلة أصلها مزيج من العرقين القرغيزي والعربي وذات ملامح  نحيفة وعينان حمراوان من الحمى".

حب ژاله لآن وتعلقها بها كان أكبر من مجرد صديقة، لكنها كانت تعي أنه لا يجوز البوح بهكذا حب في إيران آنذاك، وهو حب امرأة لإمرأة أخرى

قلت لها: "هذا الطقس مضر لك". 

فهزت كتفيها ثم قالت: "إنه مضر لنا نحن الإثنين، ولكنك تعرفين أني لا أستطيع الذهاب إلى الأعلى (أعلى الجبل). لم تعد لدي قدرة على هكذا رحلة".

وضعت يدها بلطف علي شفتيّ قائلة: "دعينا من هذا، أنا على يقين بأنك هناك ستكونين أفضل حالاً".

حب ژاله لآن وتعلقها بها كان أكبر من مجرد صديقة، لكنها كانت تعي أنه لا يجوز البوح بهكذا حب في إيران آنذاك، وهو حب امرأة لإمرأة أخرى. الحب الذي كانت تنكره آن أحياناً.

وتشیر آن في كتابها إلى حظر هذا الحب، وتكتب: "في أحد اللقاءات قالت ژاله، وسط الحديث عن والدها: "إنه لا يستطيع أن يحول دون حبي لك". قلتُ لها: "بل ولا يستطيع أن يحول دون لقائي بك". فاحتضنت ژاله رأسي وكأنها أرادت طمأنتي. قلتُ لها: "یا ژاله!". قالت: "لا تحزني فإني أخبرتك بحقيقة الأمر".

"كانت ليالي تخت جمشيد جميلة. ليالٍ مضيئة ليس  دائماً بفضل نجوم درب التبانة أو ضوء القمر الذي يضيء كالنهر عندما يجري في صحراء جافة إنما بفضل حوارات واضحة بسيطة مليئة بالحزن والسُكر أثر تناول الفودكا"

كلما استمرت العلاقة سعت آن إلى الابتعاد من ژاله وخرجت من طهران لأيام، ولكن عندما اضطرت إلى البقاء في المشفى بسبب عدوى في رجلها، كانت تنادي ژاله دون وعي ثم طلبت من ممرضتها أن تخبرها بأنها ترید زيارتها. حينها كانت ژاله تعاني بشدة من المرض ولکنها أتت إليها وهي تحت العناية الطبية: 

"قلت لها: إبقي جنبي.

رفعت كتِفَيَ قليلاً إلى الوراء ثم نظرت إلي وقالت: نعم، لن أدعك وحدك ثانية. 

إبتسمت لي وقالت: لن يستطيع أحد أن يحول بيننا.

قلت: سنذهب إلى بلاد أخرى.

قالت: إلى بلاد سعيدة نبني فيها بيتاً لنا.

طلبت منها: حاولي أن تأتي إليَ غداً.

قالت: بالتأكيد، حبيبتي.

قلت: أنت تذهبين وربما لن ترجعي.

تركت يدي بلطف ووضعت رأسي على الوسادة قائلة: "نحن لسنا بعيدتين الواحدة عن الأخرى كثيراً ثم لا أحد له علاقة بنا".

وكان هذا اللقاء الأخير الذي جمع بينهما. وبعد ذلك أدخلت ژاله إلى مشفى آخر حيث فارقت الحياة بسبب العدوى. وكتبت آن: "لا أعرف مدى معاناة ژاله في تلك الليلة. لم أعرف كيف ماتت. ولكنها كانت وحيدة، وحيدة...".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image