"بنتك طاهرة وعفيفة يا أبو حسن"، و"البنت طاهرة وعفيفة يا أبو طالب"، هاتان عيّنتان من الأحاديث المقتبسة من الدراما العربية، وأبرزها أعمال البيئة الشامية التي تحظى بملايين المشاهدات على الشاشة الصغيرة أو مواقع التواصل الاجتماعي.
إذا أردنا توضيح الصورة قليلاً، يمكننا النظر في الرسائل المبطنة التي يحاول بشكل رئيسي المخرج والسيناريست، إيصالها.
صور نمطية مسيئة
في مسلسل أهل الراية (2008)، وهو من كتابة أحمد حامد، يُحكى أنّ زوجة زعيم الحارة "أبو الحسن"، لفّقت تهمةً لابنته "قطر الندى"، زاعمةً بأنّها أقامت علاقةً جنسيةً مع أحد الشبّان، وسرعان ما جلب "الزعيم"، ثلاث "دايات" من الحارة ليثبتن "طهارة" ابنته.
غير أن الذهول، وبعد أن تردّد على ألسنة "الدايات" (القابلات) أنّ "البنت مو طاهرة"، عمّ بين الأسرة وأهالي الحارة، وفقد "أبو الحسن" صوابه.
بعدها، دخل "شيخ الحارة"، وهو الرجل المتديّن العادل كما تُظهره أعمال البيئة الشامية، إلى غرفة "قطر الندى"، ليلومها تارةً، ويتأكد من صحة الخبر تارةً أخرى. أما الوالد، فقد أصرّ على قتل ابنته، واضعاً خنجره على جسد ابنته من باب "غسل العار"، وهو يستشيط غضباً يفوق ذلك الذي يظهر في أثناء وقوفه في وجه الاستعمار.
معظم السيناريوهات تعزز صوراً نمطيةً مسيئةً عن المرأة وتترسخ في أذهان الجمهور العربي فكرة أنّ "الشرف" دائماً ينحصر في أعضاء المرأة، وذلك انطلاقاً من الفكر الذكوري الذي يعدّ أنه يتعيّن على الأنثى أن تذهب "من بيت أهلها إلى بيت زوجها عالطّبخ والنّفخ".
في حديثه إلى رصيف22، رأى الكاتب والمخرج اللبناني لوسيان أبو رجيلي، أنّ أكثر ما يهمّ الكاتب هو جذب انتباه الجمهور من خلال تضمين عناصر إثارة، وهو ما حصل مع شخصية "قطر الندى"، منبّهاً إلى أن ذلك قد يؤدي إلى انفكاك المسؤولية الاجتماعية عن القائم بالعمل الدرامي.
بدورها، رأت مدربة المسرح ومديرة مسرح "لبن"، فرح ورداني، أنّ هذا النوع من الأعمال الفنيّة خطير، كونه يُعرَض على الشاشة الصغيرة ويدخل إلى بيوت الناس: "من الممكن أن تكون هذه الدراما هي التي أوصلت المجتمع إلى هذه الأفكار، ومن الممكن أن تكون هذه الأفكار موجودة في الأساس، بينما ساهمت هي في ترسيخها بدلاً من طرح بدائل".
معظم السيناريوهات تعزز صوراً نمطيةً مسيئةً عن المرأة وتترسخ في أذهان الجمهور العربي فكرة أنّ "الشرف" دائماً ينحصر في أعضاء المرأة، وذلك انطلاقاً من الفكر الذكوري الذي يعدّ أنه يتعيّن على الأنثى أن تذهب "من بيت أهلها إلى بيت زوجها عالطّبخ والنّفخ"
على مدار حلقات متتالية، تكمن الحبكة في مسلسل "أهل الراية"، في هروب "قطر الندى"، وإصابتها بأزمة نفسية جعلتها خرساء بعد فقدان ثقة والدها بها، ليتضح في نهاية المسلسل أن "قطر الندى طاهرة".
وفي سياقٍ مشابه، ينقل الكاتب نفسه القصة بزعامة "أبو طالب" في مسلسل "طوق البنات" (2014)، الذي يحتوي على مشاهد عديدة تغرق في التنميط الذكوريّ وتقدّم أمثلةً عن سلطة أبوية تحكم النساء.
الذكورية في "باب الحارة"
على الرغم من أنّ النظام الأبوي قائم بالفعل في بعض المجتمعات العربية، إلّا أنّ الدراما تعزّز هذا الدور من خلال بعض العبارات المهينة للمرأة.
"بتضبّي أواعيكي وبتنقلعي برّاة البيت… إنتِ طالق"؛ هذا السيناريو مثلاً تردّد كثيراً في المسلسل الشهير "باب الحارة"، بعد أن قالت "سعاد"، لـ"أبو عصام": "فشرت"، وبدوره، توجه "أبو النار" لـ"أبو شهاب" بعبارة "لإنّك حريمة"، وكأنه بذلك يشك في "رجولته"، ويمسّ "شرفه".
في دراسة أجراها شيخ علي، في جامعة ابن خلدون تيّارات، بين سنتي 2021 و2022، حول "الدراما السورية ودورها في ترسيخ الهيمنة الذكورية"، شكّل "الشرف" 84% في ما يتعلّق بصفتي "النخوة والمروءة"، في مسلسل "باب الحارة"، بجزئه الثاني.
قليلاً ما نرى "أبو شهاب" أو "معتز"، في مشهد رومانسي، وكأن "الرجولة" تقتصر على فظاظة الطبع وعلو الصوت وعبوس الوجه أو إصدار الأوامر
وتالياً، يمكن ملاحظة أنّ "شرف المرأة" في مثل هذه الأعمال المصوّرة لا يقع فقط على عاتق رجال عائلتها فقط، بل يطال أيضاً رجال الحارة.
عن رأيها في مسلسل "باب الحارة"، قالت فرح ورداني: "باب الحارة يحتوي على مغالطات تاريخية، ومنها أنّ كل نساء الشام يلبسن الملايا، وهو ما يساهم في تعزيز الصورة السلبية عن المرأة العربية والسورية خصوصاً".
واللافت أن هذه الأعمال تقوم بطرح شخصيات تملك السمات نفسها في أي مشهد درامي وإن كان مختلفاً، بحيث أننا قليلاً ما نرى "أبو شهاب" أو "معتز"، في مشهد رومانسي، وكأن "الرجولة" تقتصر على فظاظة الطبع وعلو الصوت وعبوس الوجه أو إصدار الأوامر.
وفي هذا السياق، رأت ورداني، أنه في هذه المسلسلات تظهر العلاقات بشكلٍ سطحيّ مما يؤثر على سلوك المشاهد أيضاً: "مما لا شك فيه أن هذه المسلسلات تجذب الأشخاص الذين يعارضونها، تماماً كما تشدّ أولئك الذين يبحثون عن بطل غائب في حياتهم".
الدراما السورية التي تجسد بشكل خاص البيئة الشامية، هي مثال عن أعمال كثيرة غزت سوق المسلسلات العربية بسيناريوهات ذكورية لا تملك غالبيّة صنّاع هذه الأعمال الذاكرة التي تسمح لهم بالدفاع عن إنجازات المجتمع الذي ينتمون إليه.
لا يمكن عدّ أنّ الأعمال الحالية باتت خاليةً من هذه المشاهد، فباب الحارة بأجزائه الجديدة، ومع مخرج مختلف (محمد قبنض)، لا يزال يحتوي على مثل هذه الصور الدرامية، إذ لجأ القائمون على باب الحارة بحلّته الجديدة، إلى تزويج "الداية أم زكي"، برجل آخر، بينما تزوّج "الشيخ عبد العليم"، من ابنة حارته "أم بشير". فبعد أن جسّد المسلسل أن الاحتلال قصف حارة الضبع، صوّر حاجة نساء الحارة إلى أن يحتويهنّ رجل. في الواقع، تعرّض مسلسل باب الحارة لانتقادات شديدة، بعد أن عدّ البعض أنه تحوّل إلى مادة "كوميدية"، غير أن الذكورية لا تزال طاغيةً فيه.
بالنسبة إلى الصحة الجنسية للنساء في أعمال البيئة الشامية، فكانت غائبةً تماماً وتعالَج بطريقة سطحية، بحيث تظهر عبارات مثل "زهّرت"، التي تُطلَق بعد اكتشاف الدورة الشهرية لدى المرأة وإرغامها على الزواج مباشرةً لـ"السترة"
في هذا السياق، قال لوسيان بو رجيلي: "من مسؤولية المشاهد أن يعلم ما هو التصنيف الذي ينتمي إليه المسلسل. فعلى سبيل المثال، إذا كان المسلسل تاريخياً، فتقع عليه مسؤولية اجتماعية كبيرة، ويحق للناس أن تلوم هذا العمل إذا أخطأ في المحاكاة التاريخية".
ورأى بو رجيلي، أن الرّد الدرامي الأصحّ، هو القيام بعمل درامي مضاد يعرض الوثائق التاريخية الصحيحة، بالإضافة إلى عرض كيف كانت أوضاع "نساء الشّام" بشكل صحيح: "عندما يكتب السيناريست المسلسل، يمكن أن يعبّر أي شخص عن اعتراضه، وعلى الكاتب أن يوضح أنّ السيناريو رأي خاص"، مشيراً إلى أن هناك مسؤوليةً تقع أيضاً على عاتق القنوات الإعلامية التي تعرض مثل هذه المسلسلات.
أما بالنسبة إلى الصحة الجنسية للنساء في أعمال البيئة الشامية، فكانت غائبةً تماماً وتعالَج بطريقة سطحية، بحيث تظهر عبارات مثل "زهّرت"، التي تُطلَق بعد اكتشاف الدورة الشهرية لدى المرأة وإرغامها على الزواج مباشرةً لـ"السترة".
لا تملك غالبيّة مخرجي ومنتجي وكتّاب مثل هذه الأعمال، الذاكرة التي تسمح لهم بالدفاع عن إنجازات المجتمع الذي ينتمون إليه، وتبقى هناك مسؤولية على عاتق القائم بالعمل الدرامي والوسائل الإعلامية لعرض معالجة درامية منصفة وخالية من الصور النمطية المسيئة إلى النساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...