طُرقات مليئة بالحُفر تحتاج إلى إعادة تأهيل، وخيم للبدو الرُحّل تضمّ بجانبها أيضاً خيماً مماثلةً للاجئين سوريين، وأطفال في الشارع والحقول، يركضون ويعملون، وفوضى عارمة في كل شيء. يكفي أن تتجاوز بلدة برّ الياس حتى تجد نفسك في عالم آخر، والمفارقة أن هذه البلدة هي مقصد لجميع القرى البقاعية المحيطة، من أجل شراء لحم الغنم بأسعار رخيصة، الأمر الذي بات شبه مستحيل لغالبية اللبنانيين.
أهلاً بكم في بلدة دير زنون في البقاع الأوسط في لبنان.
تبعُد البلدة نحو 13 كيلومتراً من منطقة شتورا، ونحو 4 كم من الحدود اللبنانية-السورية في المصنع. على الطريق الواصل إلى منطقة المرج، ترى محال بيع اللحوم موزعةً على جوانب الطرقات، ولافتات تستوقفك إن كنت فقيراً أو ميسور الحال: "كيلو لحم العجل 300،000، وكيلو لحم الغنم 350،000" ليرة لبنانية، إذ يكثر الحديث عن هذه المنطقة، وكيف يضارب القصابون على بعضهم البعض في الأسعار، خصوصاً لحوم الغنم والعجل، المعروفة بسعرها الباهظ، إذ يختلف سعر الكيلو من محل إلى آخر، فالبعض يبيع بين 300 و350 ألف ليرة، وآخرون بين 500 و600 ألف ليرة للكيلو الواحد، فيما يصل سعر كيلو لحم الغنم خارج هذه المساحة الصغيرة إلى نحو 800 ألف ليرة، أي أكثر من ضعف سعر أرخص لحّام في دير زنون.
البلدة مقصد لجميع القرى البقاعية المحيطة، من أجل شراء لحم الغنم بأسعار رخيصة، الأمر الذي بات شبه مستحيل لغالبية اللبنانيين
غنم مُهرَّب
يملك أبو محمد، وهو لبناني الجنسية من سكان منطقة بر الياس، رفض الكشف عن اسمه خوفاً من الملاحقات القانونية، محال لبيع لحوم الغنم والبقر، ويقول لرصيف22: "لا توجد أغنام كافية في لبنان كي تغطّي الحاجة، كل هذه اللحوم التي تراها مصدرها سوريا عبر خطوط التهريب، من عرسال، طرابلس، وعكار، لذلك سعرها زهيد مقارنةً بالأسعار في المناطق الأخرى".
ويضيف: "نبيع كيلو لحم الغنم مع عظمه بـ280 ألفاً، وخالياً من العظم بـ350 ألف، وذلك طبعاً بسبب خطوط التهريب النشطة من قبل تجار المنطقة هنا، أمّا لحم البقر فيتراوح سعره في حدود الـ380 ألفاً مع عظمه"، فيما المتعارف بشكل عام أن سعر كيلر لحم الغنم يساوي ضعف سعر لحم العجل.
وينشط تهريب الغنم من سوريا إلى لبنان منذ زمن، وقد ازداد كثيراً بعد الأزمة السورية عبر طرق عدة؛ منها حمص والقلمون، وهو ما يرويه الراعي أحمد لرصيف22، والمقيم في دير زنون والمتحدر من مدينة إدلب السورية. يقول: "أغلب رؤوس الغنم هذه من سوريا، وخصوصاً من حمص وحماه، والقلمون في ريف دمشق، وتُهرَّب عن طريق منطقة عرسال اللبنانية آتيةً من حمص، وأغلبها غنم العواس، والتجار الكبار هنا يستلمون الرؤوس من مهرّبين سوريين، وبدورنا نحن نشتري عدداً قليلاً من الرؤوس، إذ لا نستطيع على هذه الكميات فهي صفقات كبيرة".
يضيف الراعي الذي هرب خلال الأحداث من سوريا إلى لبنان قبل سنوات، وسكن في الأراضي الزراعية في دير زنون، حيث يعمل لدى أحد أصحاب المزارع من آل العراجي: "يمكن تمييز أغنام العواس الحمصية من لونها وحجمها، إذ يكون لونها أحمر غامقاً، ولديها ثخانة في الجسم، أما الأغنام العرسالية اللبنانية، فدائماً تكون صغيرةً جبليةً".
ويتابع: "سعر أنثى الغنم يختلف عن الذكر، إذ يُباع الكيلو بنحو دولارين ونصف، أما الذكر فثلاثة دولارات ونصف، ويعود سبب رخص الأسعار إلى أن الأنثى التي يجفّ حليبها أو تكون مريضةً، هي دائماً أرخص، أما ‘المانوي’ التي تدرّ الحليب فيبلغ سعر الكيلو منها من 4 إلى 6 دولارات ولا تباع، ولا تُذبح إلا في حال كانت مريضةً، أو على وشك الموت".
سوق سوداء
أغلب القصابين في دير زنون من الجنسيات السورية، يعملون في العديد من المهن التجارية كالمواد الاستهلاكية، والزراعية، والبزورات، ولكن أهمها تجارة اللحوم. توجهنا إلى قصاب آخر للسؤال عن سبب اختلاف الأسعار من محل إلى آخر، فالتقينا بأبي حسن (اسم مستعار)، وهو قصاب من مدينة الرقة شمال سوريا، لجأ خلال الحرب إلى منطقة بر الياس، وسكن في دير زنون، ويعمل حالياً في محل لبيع اللحوم، تعود ملكيته إلى تاجر أغنام لبناني.
أغلب القصّابين يبيعون بأسعار رخيصة، والسبب خلط لحم أنثى مريضة على وشك الموت مع لحم العجل أو الغنم، أو بيع لحم مثلج منذ وقت طويل... وهذا بعض مما ينتظر من يقصد ملاحم دير زنون
يروي أبو حسن بعد أن تعهدنا له بعدم الكشف عن اسمه، عن سبب بيع اللحوم بأسعار أرخص من بقية المناطق اللبنانية، ويقول لرصيف22: "السبب ليس التهريب، بل كل رؤوس الأغنام هنا مصدرها لبنان وليس سوريا، حيث يبدأ سعر كيلو لحم الغنم من 350 إلى 370 ألف ليرة لبنانية، وهي عادية على الوزن وليست هبرةً، أما الكبش فيُباع حسب السوق السوداء، من 3 دولارات إلى 3 دولارات ونصف، للكيلو الواحد، إذ يكون وزن الخروف 80 كيلوغراماً قبل الذبح، وبعد الذبح يصبح الخروف نحو 40 كيلوغراماً، وهنا المشكلة في بعض القصابين ضعفاء النفوس الذين لا يقبلون بالقليل، ويريدون الضعف، فالكيلو على التاجر بـ250 ألف ليرة، ولكن هم يريدون الضعف وأكثر، ونحن نبيع العجل والغنم بالسعر نفسه، أي 350 للكيلو الواحد".
ويتابع: "نشتري من مزارع عند طريق النهرية في دير زنون، ولا أظن أن الغنم مهرَّب من سوريا، والسبب أن سعر كيلو الغنم في سوريا ضعف سعره في لبنان، ولو كان هناك تهريب لكان السوريون أولى بشرائها من تهريبها إلى لبنان، لأن تهريبها يكلّف أكثر، إذ يباع الكيلو في سوريا حالياً، من 7 إلى 15 دولاراً أمريكياً".
لحوم سامّة
في حزيران/ يونيو الماضي، أعلنت وزارة الصحة العامة في بيان أنه "بعد تسجيل خمسين حالة تسمم غذائي في منطقة البقاع، من جرّاء أكل اللحوم النيّئة، قامت مصلحة الصحة في البقاع بفحص اللحوم في 4 ملاحم موزعة في سعدنايل والرياق وملحمتين في راشيا. وبيّنت نتائج الفحوص أن اللحوم التي تبيعها هذه الملاحم ملوثة. لذا، قامت مصلحة الصحة في البقاع، بإقفال الملاحم الأربع بالشمع الأحمر، بعد أخذ الإشارة من المدّعي العام".
أعلنت وزارة الصحة العامة أنه تم تسجيل خمسين حالة تسمم غذائي في منطقة البقاع، من جرّاء أكل اللحوم النيّئة
لحام آخر على الطرف المقابل من السوق يُدعى طارق، ينحدر من ريف مدينة دمشق، يروي لرصيف22، كيف تباع اللحوم بأرخص الأسعار، ويقول: "يلعب الغش هنا دوراً كبيراً في المنطقة. أغلب القصّابين يبيعون بأسعار رخيصة، والسبب خلط لحم أنثى مريضة على وشك الموت مع لحم العجل أو الغنم، أو بيع لحم مثلج منذ وقت طويل، والبعض أيضاً يذبحون بقرةً على مشارف الموت على أنها طازجة، ويخلطون البقر مع العجل، أما الزبون فلا يهمه سوى الرخص في ظل غلاء الأسعار".
ويتابع في حديثه: "نحن لا نستطيع أن نبيع بأسعار رخيصة، لأن اللحم عندنا غنم صافٍ أو بقر صافٍ لا يُخلط أبداً، بالرغم من أن المنطقة هنا مصدر لبيع اللحوم لكن أعداد الرؤوس قليلة، ولولا الغنم السوري لكان لا يوجد غنم في لبنان، هنا كلّ هذه الأغنام مصدرها سوريا، إذ لا توجد في لبنان ثروة حيوانية كافية، بدليل أننا نشتري من تجار مزارع في المنطقة هنا على مستوى كبير، وهؤلاء التجار يبيعون بصفقات كبيرة مع تجار من سوريا، ونحن نميّز الخروف السوري عن غيره، حسب شكله ومناطق تربيته".
غياب الرقابة
في بداية العام الجاري، صرّح رئيس نقابة تجار اللحوم جوزيف الهبر، في حديث إذاعي، بأن "لبنان لا يملك ثروةً حيوانيةً ويعتمد على الاستيراد"، مشيراً إلى أنه "إذا توافرت اللحوم وقام مصرف لبنان بدعم التجار فلن يصل سعر اللحم إلى 500 ألف بل إلى 300 أو 350 ألف ليرة".
وللحديث أكثر حول هذا الموضوع، تواصل رصيف22، مع حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، لكنهم رفضوا التصريح لأن "هذا الأمر من مسؤولية مصلحة حماية المستهلك في البقاع، فهي التي تقوم بجولات في تلك المناطق، ونحن لا نستطيع التصريح لوسائل إعلامية فالأمر يحتاج إلى موافقة من الوزارة حصراً".
في المقابل، هناك "جمعية حماية المستهلك" التي تأسست عام 1998، لعدم وجود قانون يحمي المستهلك، ويترأسها الدكتور زهير برّو، الذي يقول لرصيف22: "الأمر يقع على عاتق مديرية حماية المستهلك، أما نحن فجمعية وليست لدينا سلطة بخصوص هذا الأمر للأسف، اللحوم والمواد الفاسدة، تحتاج إلى توجه القوى الأمنية إلى منطقة دير زنون، لتقوم بعملية الرقابة وتسطير المخالفات في حق مرتكبيها وإغلاقها إن لزم الأمر".
تواصلنا مع حماية المستهلك للسؤال حول ما تقوم به المصلحة لمكافحة بيع اللحوم الفاسدة، فما كان منها إلّا أن رمت المسؤولية على عاتق فرعها في البقاع... فمن المسؤول عن حماية اللبنانيين إذاً؟
ويضيف: "للأسف البلد اليوم في وضع فلتان وانهيار اقتصادي، والإدارات كلها لا تعمل، وتالياً إمكانية الرقابة معدومة من دون حل المشكلة الرئيسية في البلد. الانهيار وطبيعة النظام الطائفي لا يعطيان المجال لإيجاد حل جذري، فهذه هي النتائج الطبيعية لهذا النظام القائم، أمّا حل الجزئيات في الدولة فلن يفلح لأن الوزارات لا تعمل سوى بـ5% من طاقتها، وقبل الانهيار كان وضع الإدارات مترهلاً، فما بالك اليوم؟".
يتابع برّو في حديثه: "نحن بدورنا سنتحدث مع المراقبين في البقاع، ونبلغهم بالأمر لكي يتحققوا من المخالفات ويتابعوا مع بلدية دير زنون فهذا دورنا كجمعية، وهذا الموضوع المتكرر حلّه واحد لا غير، وهو أن يكون هناك مسلخ صحي وحديث تحت إشراف البلدية يكفي لكل البقاع، بالإضافة إلى طبيب بيطري يتواجد هناك كي يشرف على عملية فحص الماشية قبل ذبحها ويشرف أيضاً على عملية الذبح".
وكانت منظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، قد حذرت من ارتفاع أسعار الأعلاف والأسمدة عالمياً، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، مرجحةً أن تشهد الأسعار ارتفاعات كبيرةً إلى درجة قد تجعل من الصعب على المزارعين حول العالم وتجار المواشي تحمّل هذه التكاليف، الأمر الذي انعكس على واقع الحال في لبنان، فضلاً عن ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com