شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"سيرة مولع بالهوانم" تذكرني بأغنية أمي وغطاس وقميص مدرستي السماوي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 24 يناير 202311:01 ص

على كوبري الجامعة، أردّد بيني وبين نفسي قولك في كتابك الكريم: "قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها"، هذا سلوك هوانم. أبتسم. أستدعي الصور التي لا تغيب عني يا ذا الجلال والإكرام. بلقيس ملكة سبأ، فاتن حمامة، ماجدة الرومي، سمية الألفي، آثار الحكيم، فيفيان لي، جوليا روبرتس، درية شرف الدين، منى الشاذلي، أنغام، حنان ترك، منى زكي، وغيرهن كثير لا أحصي فضلك ولا أحصي ثناء عليك.

لم تفتنني سعاد حسني مثلاً، ولا آبه لمعترض، فالسيرة شرطها الصدق. سعاد حسني على حالين، الطفلة الشقية، أو الأنثى المغوية، الهانم شيء آخر.

ذاكرة البهجة

في روايته "سيرة مولع بالهوانم" حرّر الكاتب طلال فيصل ذاكرته من قيود النسيان ومخلفات الزمان، وراح يسرد بطريقة شيقة حكايات عن فتيات مرّ عليهن مرور عابر، أطلق عليهن جميعاً الهوانم.

كغيره من الأطفال منذ كان في السابعة من عمره لم يفطم بعد من ارتباطه ببيته، يملأ الدنيا صراخاً حين تتركه أمه بفنار المدرسة، يطالبه أحد المدرسين بالكف عن البكاء وأن يكون رجلاً، ليربط في قرارة نفسه بين الذكورة والسخافة، يكمل بكاءه حتى تحضر أولى الهوانم بحياته "مس هالة" التي تنسيه أمه ودراسته، يترك يده الصغيرة تغوص في دفء يديها، يتوقف عن البكاء، وينطلق إلى الفصل دون حتى أن يلوح بإشارة لوالدته التي تنصرف مطمئنة على صغيرها.

بالنسبة لي، لم يكن غريباً أن يذكر طلال تفاصيل يومه الأول في الدراسة بكل هذه الدقة، ثم يمر على مراهقته وشبابه، حاملاً إلينا عميق مشاعره كلوحة مرسومة عن كل هانم قابلها على مدار حياته. أنا أيضاً أشترك مع طلال في هذه الذاكرة البصرية، التي ترسم الشخصيات والبيوت والملابس وكل ما يحيط بالحدث أكثر من التزامي التام بتذكر الحدث نفسه.

على كوبري الجامعة، أردّد بيني وبين نفسي قولك في كتابك الكريم: "قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها". هذا سلوك هوانم. أبتسم. أستدعي الصور التي لا تغيب عني يا ذا الجلال والإكرام

استحضر حرارة يد أمي وهي تساعدني في تزرير قميصي السماوي المنقوش بخطوط طولية بنية مدمجة مع الأزرق، تعدل تنورتي الكحلية القصيرة وجواربي الأبيض الكولون، تتأكد من انضباط تسريحة شعري وتلاحق خصلات قبل هروبها من الشريط الناصع البياض كسحب الشتاء.

تغني بصوت رقيق أغنية من كلمتين ظلت تردّدها لسنوات، وظللت أذكّرها بها كلما جاءت سيرة المدرسة قبل وفاتها، كنت أحسب أغنيتها "ونروح المدرسة وهنروح المدرسة... ونروح المدرسة" تنتشر في الكون، وتغنيها جميع الأمهات للأطفال أول يوم للدراسة. نغمتها كانت تؤنس خوفي، وتطرد أفكار الصغار عن قسوة ترك يد الأم والذهاب إلى عالم جديد تماماً، كانت تضحكني وتشعرني أن ساعة الصباح التي تنزع عني نومي العميق هي بالضرورة شيء جيد طالما غنت فيه أمي.

مانوليا... طوبى للعاشقين على حافة الصمت

يحكي طلال عن زائر جديد لفصله في الصف الثالث الابتدائي، أشارت إليها مشرفة الدور بالجلوس بجواره، يعرف أن في هذا العالم عيوناً خضراء حين نظر إليها، تعرفه على اسمها: "مانوليا" وتخبره بمعناه: "وردة". في فصلي الدراسي الثالث الابتدائي أتذكر الأخوين سامح ومحمود، ورحلتنا للعودة بسيارة جدهما الأنيق، من المدرسة بمنطقة مصر الجديدة إلى المنزل بجسر السويس، ظل الجد، الذي ناديته جدو مثلهما، محتفظاً بأناقة الستينيات.

كان يتمتع بقوام فرنسي ينم عن روتين للأكل لا يحيد عنه يوماً، نظارته البنية تحميه أيضاً من الشمس، ومنديله الساتان الملون المطل من جيب جاكت بدلته. كنت أنتظره مع الشقيقين، لا لنذهب إلى البيت سريعاً بل لأرى ماذا سيكون لون منديله اليوم. ثمة زينة أخرى لا تفارقه: عصا المشي الخشبي اللامعة، لا يستند عليها ككبار السن، أظن أنها كانت للوجاهة، لأن مشيته متزنة تماماً لا تحتاج إلى سند.

جوابات صديقتي مريم التي كتبتها على سطور ورق نوت بوك الروز: "مريم تحب مارسيل. أرجو أن تجلسي جانبي كل السنوات. أتمنى لكي النجاح في الدراسة. مريم تحب مارسيل جداً، وهي صديقتها المقربة"، وحين تخاصمنا كتبت لي: "أحبك أكثر من أي شيء. أحبك جدا ولا أريد أن تخاصميني. مريم تحب مارسيل للأبد. سنظل أصدقاء إلى الأبد".

تراكمات بصرية لم تمحها السنوات، حتى قبل المرحلة الابتدائية التي بدأ منها طلال حكاياته. في عمر الخامة اصطحبتني أمي إلى حضانة الكنيسة لتعلم الألحان القبطية، ولتتفرغ هي لعملها. جلست مع الأطفال. كان كل شيء طبيعياً إلى أن لمحت عينين سوداوين واسعتين تبتلعان وجهي، تتفحصانه بطريقة درامية.

ظننت أن صاحب العينين لا يرمش مثلنا، لا حركة لهما نهائياً، تمثال مثبت العين تجاهي. مرّ اليوم الأول هكذا دون كلمة منه، حتى اللحن الذي نردّده وراء المرتل توقف هو عن ترديده معنا، فقط ينظر ناحيتي. اليوم التالي، نفس العينين تتفحصانني، لكن هذه المرة من زاوية أقرب، فهو يجلس جانبي، يسألني عن اسمي وأسأله عن اسمه ليرد: "غطاس".

توالت الأيام بالحضانة، وكثرت نظراته الموجهة نحوي، بينما قلّت المسافة بيننا، حتى أجمعت شجاعتي مرّة لأقول له بنبرة حادة: "بتبص لي كده ليه؟". ليخبرني: "بحبك".

لا أفهم الاسم وبالطبع لم أنسه، أن ينظر لي غطاس كل هذه النظرات فهذا يعني أن الأمر يحتاج لبعض الالتفات إليه والتركيز مع هذا الوجه الغريب كاسمه. شعر أسود داكن بنفس لون العين، ملامح منمقة كأنه رجل قصير القامة وليس صغير السن، وجه مربع حاد مميز يصعب لقاء مثله كثيراً، أظن أنني سأعرفه إن رأيته بعد أن تخطيت منتصف عقدي الثالث.

توالت الأيام بالحضانة، وكثرت نظراته الموجهة نحوي، بينما قلّت المسافة بيننا، حتى أجمعت شجاعتي مرّة لأقول له بنبرة حادة: "بتبص لي كده ليه؟". ليخبرني: "بحبك". شعرت بالخجل كما لم أشعر به من قبل، برودة لا أعرف مصدرها سرت بجسدي النحيل. لم أنطق بكلمة واحدة، كرّر كلمته مرة أخرى، وقبل ردي كان المُرتل يُسكت الهمهمات.

مرت أيام هكذا، نظرات دون كلمات، ليقرّر في أحد الأيام قطع صمتنا: "بتحبيني؟"، أرد: "إحنا صغيرين على كلام الكبار ده"، لم يعبأ بردي وظل متمسكاً بموقف الفنان المتأمل للوحته. شعور غريب يفوق سني بمراحل اختبرته وقتها عن الاهتمام، وكيف ينظر ولد بهذا القدر من الإعجاب لفتاة.

حب ممزوج ببراءة جمعت بيني وبين غطاس الذي انتهت حكايته معي بملله من النظر لي دون فائدة، كل مرة يقول لي "بحبك"، أكرّر عليه أننا صغار، وأنني سأشكوه إذا لم يتوقف عن قول كلمة بحبك "الكُباري".

تمارا نصر الدين، بسنت، صفية، لوليتا، وهوانم كثيرات مررن بحياة الكاتب والطبيب النفسي طلال فيصل صاحب "سيرة مولع بالهوانم"، ذكرهن جميعاً مع مدرسته وجامعته وعمله بالطب، بينما ذاكرتي مرّت على أغنية أمي وحكايات برنامج من الحياة الإذاعي، وقميص مرحلتي الابتدائية السماوي، وجدّ سامح ومحمود، وجوابات مريم، وأخيراً تذكرت ما أخفيته عن غطاس: سعادتي بتلك النظرات المختلسة التي كنت أتبادلها معه دون أن يراني، وكلمة بحبك الغارقة في نقاوة طفولته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard