في السنوات القليلة الماضية، تراجعت عادة قصّ النكّات كشكل من أشكال الفكاهة، دون تراجع الحاجة للضحك والإضحاك التي وجدت متنفسها في أشكال تعبيرية جديدة كالميمز والتيكتوك وعروض الستاند أب كوميدي ("standup comedy"عروض كوميديا الوقوف) التي باتت تلقى اهتماماً متزايداً في العالم العربي، خاصةً مع صعود أسماء مؤدين عرب نجحوا باجتذاب اهتمام شرائح واسعة من الجمهور الناقد، الساخط، الذي يبحث عن نكات تثير غضبه وتقارب مشاكله من زوايا مختلفة.
ضمن هذا السياق شكّلت مدينة إسطنبول نقطة التقاء للعديد من الشباب العرب الذين أرادوا شق طريقهم في هذا المجال الفني. ففي منطقة بلاط ومن قلب القسم الأوروبي في إسطنبول بدأ مركز يولو آرت سنتر (Yolo Art Center) بتنظيم مسابقات للهواة المُهتمين بعروض الستاند أب كوميدي. حتى الآن نظّم المركز موسماً تضمّن أربع مسابقات قدمت لمحبي النوع 32 مؤديّاً من مصر والعراق وسوريا وفلسطين والجزائر والمغرب والأردن وغيرها، وما زال التحضير مستمراً لمسابقات أخرى في ظل الإقبال الكبير على العروض.
تقول المهندسة المعمارية بيان آغا التي أسست مركز يولو آرت مع شريكها جهاد بكر، مفسرة توجهاتهما لاستضافة الفنانين الشباب المهتمين بهذا المجال: "جاء توجّهنا إلى هذا النوع من مجالات الفن البديل غير المطروقة أو المتداولة، وأردنا أن يتحوّل المركز إلى ما يشبه المعمل أو الصالون الثقافي الذي يؤمن مساحة للقاء والحوار ومتنفساً للهرب من ضغط العيش في مدينة مليئة بالتحديات كإسطنبول، تحديداً بالنسبة للمهاجرين الشباب".
موضوعات من وحي الأسرة العربية والهجرة
يضعنا الاهتمام بهذا النوع من العروض أمام أسئلة حول طبيعة الموضوعات التي يختارها المؤدون إلى جانب تأمل الطريقة التي تنظر بها عروضهم إلى علاقتهم مع مدينة معقدة ومربكة مثل إسطنبول، خاصةً في ظل تصاعد التوتر الناجم عن الأزمات الاقتصادية وتنامي خطاب العنصرية وكراهية الآخر.
وبرغم تنوّع الموضوعات التي يعالجها الشباب تبعاً لخلفياتهم الثقافية وتجاربهم الحياتية هناك تيمات تتكرر بصور وأشكال مختلفة. فمن جهة نلحظ التركيز على تجارب الشباب كمهاجرين في تركيا والصعوبات اليومية التي يواجهونها مع المواصلات والعمل، إلى جانب حواجز التواصل مع المجتمع التركي التي تنطلق من صعوبات التواصل اللغوية منتقلةً إلى مستويات أكثر تعقيداً.
"أردنا أن يتحوّل المركز إلى ما يشبه المعمل أو الصالون الثقافي الذي يؤمن مساحة للقاء والحوار ومتنفساً للهرب من ضغط العيش في مدينة مليئة بالتحديات كإسطنبول، تحديداً بالنسبة للمهاجرين الشباب"
من جانب آخر، يشكّل انتقاد أساليب التربيّة التي ينتهجها الآباء في التعامل مع أبنائهم موضوعاً يكثر الرجوع إليه ومعالجته من زوايا مختلفة. ضمن هذا السياق، قدم عمرو ممدوح سلسلة عروض متميزة تعالج تناقضات العيش في الإسكندرية ضمن أسرة صعيدية ملتزمة دينياً. يقول عمرو إنه يعتبر نفسه ممثلاً و (Story teller) أكثر منه مؤدياً كوميدياً، ويرى أنه ما زال يستوحي موضوعات عروضه من حياته وخبراته التي عاشها في مصر رغم أنه أمضى حتى الآن ثماني سنوات في إسطنبول. "اعتقد أنني ما زلت في خضم اللحظة، وأحتاج عدة سنوات كي أرى حياتي هنا من الخارج واستوحي منها موضوعات لعروضي"، يعلق الشاب مؤكداً أنه رغم غياب إسطنبول عن عروضه لا ينفي تأثيرها الكبير على مسيرته كفنان ومؤدٍ.
أما العروض التي قدمتها الشابة مايا منصور من سوريا (14 عاماً) فتضمنت مشاهد من حياتها الأسرية، تعكس فيها ازدواجية معايير الأسرة العربية التي تخلق لنفسها صورة مثالية متجانسة ومستقرة عند استضافة زائر غريب وتعود لطبيعتها الفوضوية والصاخبة بعد انتهاء الزيارة، وهكذا تحضر أم مايا وأجدادها كشخصيات أساسية في عروض منصور.
يتحدث عبد العزيز زيدان (T-Rex) في عرضه عن نزعة الأسرة العراقية لحشو الأبناء بالطعام، كالشكل الأوحد للتعبير عن الضيافة والحب، ويصف زيارته للعراق وهو المولود في مصر، محاولات متتالية لتجنب دعوات العشاء والغداء.
كذلك يلحظ دائماً أن العروض التي قُدمت في الموسم الأول من المسابقات كثيراً ما بُنيت على المفارقات بين التوقعّات المُسبقة الحالمة والواقع الذي يبدو باهتاً ومخيباً للآمال. والمثال الأبرز على ذلك عرض زياد الشريف "المزرعة والكارافان " الذي يتطرق لتفاصيل رحلة لزياد مع أصدقائه لم تجر كما يجب، بحيث ناقضت كل تفصيل متوقع عنها. لكن زياد يُضمن عرضه إشارات تعكس ملامح العيش في تركيا بالنسبة للمهاجرين العرب ويختار تكثيفها بمشهد الشباب الذين وجدوا الأرض تهتز حولهم إثر الزلزال الذي ضرب تركيا عام 2019.
يصف زياد الأتراك الذين كانوا حوله في تلك اللحظة بـ"حلّة فشار بتفرقع" ويسخر من ردود فعل صديقه المصري الذي كان سعيداً بأن الزلزال يخض له كأس العيران الذي يحمله بيده دون جهدٍ منه، كما لو أن زياد يصف على طريقته حالة الخدر التي يعيشها الجيل الشاب العربي في مواجهة المصائب والكوارث التي تحصل حوله.
الضحك كخطة نجاة
يرى الفنان عمرو ممدوح أنه في ظل غياب فرص إيجاد حلول عملية لما يحصل حولنا يظهر الضحك أو السخرية كوسيلة للتعامل مع المشكلات، فهو يؤمن أن المجتمعات العربية وبالأخص المصرية منفتحة على مواجهة ما يحصل معها بالضحك، ويجد أن شعبية عروض الستاند أب كوميدي في مدينة مثل إسطنبول تعكس رغبة المجتمعات الصغيرة التي كانت يوماً منعزلة كجاليات مصرية وسورية وفلسطينية وغيرها للقاء والتفاعل وتشكيل مجتمع واحد.
وهذا ربما ما يبرر توجه القائمين على مركز يولو للتفكير أبعد من العروض وتنظيم لقاءات وجلسات حوار لهواة النوع بغرض التعريف بتاريخه وتبادل الخبرات والمعارف حوله إلى جانب تطوير تدريبات وأنشطة تساعد الشباب على كتابة عروضهم وتطويرها بصورة جماعية.
الكوميديا في مواجهة الخطوط الحمر
كذلك تظهر قضيّة "الخطوط الحمراء" والهوامش التي يمكن لهذه العروض اختراقها كقضية لا بد من ضبطتها. وهنا لا يفضل القائمون على المركز فرض الرقابة بأنفسهم لأنهم يرون أن هذه العروض مصممة لقول ما لا يمكن قوله في مكانٍ آخر، لكنهم يفضّلون إشراك المؤدين لصياغة أطر عامة تحترم الآخر، فالعروض المقدمة على خشبة المركز مخصصة لمن هم (+16 عاماً) وتشترط تقديم نصوص تحترم أي فكر أو توجه أو ميول. فبيان وجهاد القائمان على المشروع يريان أن هذه العروض تؤسس بشكلٍ أو آخر لثقافة الاستماع وقبول الآخر مع توسيع هوامش الضحك والحس الفكاهي الساخر من الذات والآخرين.
"شعبية عروض الستاند أب كوميدي في مدينة مثل إسطنبول تعكس رغبة المجتمعات الصغيرة التي كانت يوماً منعزلة كجاليات مصرية وسورية وفلسطينية وغيرها للقاء والتفاعل وتشكيل مجتمع واحد"
يرى زياد الشريف الذي يساهم في تنسيق العروض إلى جانب المشاركة بها، أن المجتمع العربي يفرض بحساسيته قيوداً على المؤدي؛ فمن وجهة نظره تستند الكثير من عروض الستاند أب كوميدي الغربية على ما يُعرف بـ "Blue comedy" الغنية بالتعليقات الجريئة وأحياناً البذيئة التي قد تنطوي على إساءة أو إشارات تطول الجنس والمعتقد، والتي تبقى بالنسبة للكوميديين العرب أشبه بمساحة مُحرّمة. مع ذلك يرى زياد أن مهمة "الكوميديان" المخاطرة وتجاوز هذه الحدود بأسلوب ذكيّ لا يُنفر الجمهور ويجعله أكثر انفتاحاً على السخرية.
قد لا يكون تضييق هوامش الخطوط الحمر المهمة الوحيدة الأمام الكوميديانز الشباب، فهناك أيضاً التحدي المرتبط بخلق هوية متميزة للعروض التي يقدمونها والمستوحاة من خصوصيات بيئاتهم وشخصياتهم. ففي حين يلحظ المتابع للعروض التي قدمها المركز أن بعض المؤدين كانوا أقدر على استحضار الحس الساخر بصيغته الفطرية والعفوية، ظل مؤدون آخرون حبيسي تصورات جامدة وأحياناً مُقلدة عما يجب قوله أو فعله على خشبة المسرح ليستحق المؤدي لقب "الكوميديان" الحقيقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه