كأي أب سوري في بلاد اللجوء الضيّقة نفسياً والواسعة جغرافياً، لم أنج من أسئلة ابنتي التي يمكن اختصارها بكلمتين: "من نحن"؟!
وتختصر هاتان الكلمتان عشرات الأسئلة التي تجرّ أخرى وراءها، عن اللغة والاختلاف والآخر والأصل والفصل والبلاد والعباد، بما في ذلك سوريا بحد ذاتها، أسباب خروجنا منها واستحالة العودة في الوقت الحالي، ومن السهل جداً أن يكون الفضول هو المصدر الرئيسي لهذه الأسئلة، على اعتبار أن "الكانتون" السوري في تركيا موجود بشكل كبير، لغوياً على الأقل.
وتكمن الصعوبة في الإجابة على هذه الأسئلة بعمر ابنتي التي لم تصل إلى سن الخامسة بعد، وتعقيد قصة سوريا التي يصعب شرحها للكبار أصلاً، فما بالكم لطفلة لا يتجاوز عمرها أصابع اليد الواحدة؟
قبل أعوام، اشتبكت في نقاش طويل مع أحد الأصدقاء من الصحفيين السوريين حول انتماء الأطفال المولودين في بلاد المهجر، (وهو حديث متكرّر وشبه يومي لدى السوريين في تركيا). كان صديقي يرى بأن على الأهل، وفي تركيا تحديداً، تجاوز الاهتمام بتعليم أطفالهم للغة العربية، إلى ربطهم بشكل أكبر مع وطنهم الأم حفاظاً على الانتماء، وأذكر أن النقاش كان يدور في عام 2019، وهو العام الذي شهد بداية تغيّر لهجة الحكومة التركية تجاه اللاجئين والمقيمين السوريين، والعرب والجنسيات الأخرى بشكل عام.
لا يمكن أن نحمّل أطفالنا مسؤولية قضايانا، وخطوة من هذا النوع ستضعهم أمام مسؤولية أكبر من قدرتهم على الاستيعاب أصلاً، وأن تحرمهم من حياة طبيعية ومن طفولتهم المهدّدة بالاضطرابات
دافعت حينها عن وجهة نظري بشراسة منقطعة النظير، معتبراً أنه لا يمكن أن نحمّل أطفالنا مسؤولية قضايانا، وأن خطوة من هذا النوع ستضعهم أمام مسؤولية أكبر من قدرتهم على الاستيعاب أصلاً، ومن شأنها أيضاً أن تحرمهم من حياة طبيعية ومن طفولتهم المهدّدة بالاضطرابات، كما أن هذه النقطة لا تتصل بعملية الحفاظ على الهوية العامة للعائلة وانتمائها إلى مجتمع ما، بقدر ما تهدف إلى الحفاظ على انتماء "أخلاقي" على الأقل لقضية ما، بغض النظر إن كانت هذه القضية محقّة أم لا، إذ إن عملية التصنيف تخضع بدورها إلى وجهات نظر، تختلف تبعاً لمئات التفاصيل التي لا يمكن ذكرها في هذا المقال.
إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين لا أن نغيّر القضية، غسان كنفاني.
رأى صديقي حينها أن على السوريين جميعاً تعليم أطفالهم اللغة العربية قبل التركية، وهو أمر حسن لم أعترض عليه، لكن المشكلة في السبب الذي سيدفع الأهل لتعليم أطفالهم اللغة العربية، هل هو أهمية امتلاك لغة ثانية إلى جانب اللغة التي يستخدمونها في المدارس، وهو ما يعني فرصاً أكثر وتميزاً وقدرة أكبر على البحث والاكتشاف والمعرفة والتواصل مع الآخر وفهم طبيعة الاختلاف، أم أنها تأتي من منطلق قوميّ بحت في مواجهة العنصرية أو المتغيرات التي يخاف منها الأهل؟ طبعاً هذه الأسئلة جاءت في خضم النقاش الذي كان أحد أهم أسبابه حينها، ربط الأطفال بالثورة السورية منذ نعومة أظفارهم، بل وهم في بطون أمهاتهم إن أمكن!
أحاول النظر إلى الأمر من زاوية أخلاقية، إلى أي مرحلة يمكن أن نربط أطفالنا، بغض النظر عن الجنسية التي يحملونها، بقضايانا التي دفعنا أعماراً وأحلاماً وآلاماً وأوجاعاً ثمناً لموقفنا منها؟ والسؤال الأصعب: ماذا إن خرج أحد الأطفال ليدافع عن ديكتاتور حاربناه؟ ماذا لو قرّروا بوعي جمعي تبني آراء تخالف آراءنا؟ قد لا يبدو السؤال منطقياً وقد يبدو مبكراً للغاية، لكنه سؤال مطروح، ويرتبط بجيل مقبل، ربما لا يتعامل مع البلاد يوماً، علماً أن السؤال نفسه موجّه لأهالي الأطفال السوريين، ممن خرجوا من هذه المنطقة إلى فضاء أكبر وأكثر اختلافاً بطبيعة الحال.
علينا بالتأكيد، بشكل ما، أن نخبر أولادنا بما جرى، ليكوّنوا هم وجهة نظرهم التي قد تؤدي إلى نتائج مغايرة عن المتوقع، ودون إلزام وإكراه بما آمنا به، سواء كانت قضية إنسانية أم دينية أم سياسية
لنعتبر أن النقاط التي ذكرتها في الأعلى تمثل الرأي (أ)، ولننتقل سوياً إلى الرأي (ب): أليس من حق الأطفال أن يعرفوا تاريخ عائلاتهم وعذابات أهلهم والأسباب التي دفعتهم إلى الخوض في البرد وتحدي الخطر والوصول إلى مجتمع لا يُعدّ فقط غريباً، بل يختلف بشكل شبه كليّ، في العادات والتقاليد والثقافة والنظرة للحياة والنظام العام؟
ألم يكن أحد أسباب خروج السوريين هو بشار الأسد وغيره من قوى الظلام وسارقي الأحلام؟ كيف يمكن لي أو لغيري أن نتقبل أن أطفالنا قد يصافحون يداً ملطخة بدم أهاليهم، ويداً أخرى هدمت أحلامهم وسرقت أمانيهم وتضحياتهم، لإقامة دويلات في البلاد لا همّ لأمرائها سوى أنهم وصلوا إلى كرسي يتحكمون من خلاله بمصير العباد؟
وحرفياً، لولا أن القضايا تتوارثها الأجيال لانتهت مئات القضايا الإنسانية حول العالم بمجرد انتهاء رعيل أصحابها الأوائل، ولا يمكن بطبيعة الحال أن نتخيل استمرار قضية ما دون عملية الوراثة تلك، لما كان هناك قضية فلسطين أو أي قضية أخرى، وبالتالي من البديهي أن شرط استمرار قضية ما لفترة ما هي انتقالها بالوراثة.
لولا أن القضايا تتوارثها الأجيال لانتهت مئات القضايا الإنسانية حول العالم بمجرد انتهاء رعيل أصحابها الأوائل.
لأصل إلى النقطة الأخيرة: لا أدعو بالتأكيد إلى نسيان القضايا التي دفعنا أعمارنا ثمناً لإيماننا بها، ولا أن نترك أولادنا جميعاً عرضة للتلاعب بما يخصّ تاريخ مجتمعاتهم، لكنني أرى في المقابل أن مقولة الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين لا أن نغيّر القضية"، تمثل هذا الجانب تماماً، وعملية التغيير تلك تستدعي أيضاً موقفاً أخلاقياً، بأن ندع الجيل المقبل، الذي ولد وبدأ يكبر بالفعل، أن يحدد ما يراه هو، بما يناسب تطلعاته وآماله، وما يتوافق مع ظروفه، ليجد آليات جديدة للدفاع عن قضايا يراها البعض ميتة أو على وشك الزوال، إلا أنني أراها، وغيري كثيرون، ما تزال حيّة وينبض فيها الأمل!
علينا بالتأكيد، بشكل ما، أن نخبر أولادنا بما جرى، كل من وجهة نظره، ليكوّنوا هم وجهة نظرهم التي قد تؤدي إلى نتائج مغايرة عن المتوقع (بناء على الظروف الحالية على الأقل) ودون إلزام وإكراه بما آمنا به، سواء كانت قضية إنسانية أم دينية أم سياسية أم قضية حياة. لهم حياتهم ولنا حياتنا، ولنا حكايتنا التي لطخت بالدم ولهم حكاياتهم التي قد يزينونها بالورود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون