لا تنسى معلّمة المدرسة، زهراء (24 عاماً)، سيناريو مقتل والدها بطريقة "وحشية"، بعد كتابتها، بحبر القلم الأحمر على دفتر أحد التلاميذ الذين تُدرسّهم مادة اللغة العربية في الصف الخامس الابتدائي، علامة الرسوب، بينما يتعرضّ العشرات من زملائها المدرّسين في العراق، لتهديدات خطيرة وضغوط عشائريّة وحزبيّة.
تروي مدرّسة اللغة العربية في إحدى المدارس الواقعة في منطقة النهروان، في الأطراف الشرقية للعاصمة العراقية بغداد، والمحكومة عشائرياً، وتسيطر عليها واحدة من أكبر الميليشيات الشيعية المسلّحة، قصتها التي أفجعت قلبها وجعلتها تكره مهنة التدريس.
"أنا سبب مقتل والدي"
بعد عودة زهراء إلى المنزل من عملها، بأربع ساعات تقريباً، وأخدها القيلولة اليومية، سمعت صوت والدتها وهي تصرخ بقوّة وتلطم على وجهها من هول المصيبة التي وقعت؛ قُتل والد زهراء النجّار داخل ورشة عمله بالرصاص وبطريقة وحشية من قبل ولي أمر الطالب الذي تدرّسه وولدَي عمومته الاثنين، "انتقاماً منها"، كما تعلّل المعلمة.
وتضيف: "مشهد وقوقنا أنا وأمي وتجمّع بعض أهالي المنطقة لمدة ساعة على جثته الممددة على الأرض والدماء تسيح منها بغزارة، قبل نقله بسيارة الإسعاف إلى المستشفى، جعلني أشعر بتأنيب الضمير وكرهي الشديد لمهنة التدريس".
يعاقب بالحبس مدةً لا تزيد على 3 سنوات أو بغرامة لا تقل عن مليونين ولا تزيد عن 10 ملايين كل من يعتدي على معلم أو مدرّس
تقول زهراء، لرصيف22، إنّ حادثة مقتل والدها أفقدتها رغبة الاستمرار في التدريس. لكن مع مرور الوقت، حاولت انتزاع فكرة اليأس المسيطرة عليها، وخاصّةً بعد إلقاء القبض على المجرمين وإيداعهم السجن.
وتشير معلمة اللغة العربية، إلى أنّ "أغلب زملائي المعلمين يتعرّضون يومياً للضغوط الشديدة والتهديد المبطن بالقتل من قبل رجال العشائر والأحزاب، فهم يخشون على أنفسهم من القتل أو الملاحقة، وهناك من رضخ لسطوتهم بعد تهديده وقرّر منح درجة النجاح لبعض الطلاب الراسبين بأكثر من مادتين في الامتحانات النهائية، خوفاً من خسارة حياته".
"قاضوني عشائرياً"
عن حوادث التهديد العشائري، تتحدث سارة (طلبت عدم ذكر اسمها الحقيقي)، وهي معلمة الفنية، عن قصة تهديدها عشائرياً وإجبارها على دفع دية مالية قدرها 12 مليوناً عراقياً (9 آلاف دولار أمريكي)، وذلك بعد قيامها بطرد أحد تلاميذها من الدرس، ومعاقبته لأنه يشاكس من معه داخل الصف الدراسي، ويعبث بالأصباغ الزيتية على ملابسهم.
"أشعر بالخوف والإحباط في آن واحد، منذ تهديدي هاتفياً من قبل والد أحد تلاميذي في الرابع الابتدائي، وهو يصرخ بنبرة عالية عبر سماعة هاتفه: ’سأغلق المدرسة وأكسر رأسك ورأس مديرتك العجوز، وسأقاضيك عشائرياً لأنك قمت بتعنيف ابني وإيذائه نفسياً وجسدياً‘، وأغلق الهاتف في وجهي".
بعد مرور أسبوع على الحادثة، تقول سارة، لرصيف22، إن الشعور بالخوف والهلع تسللا إلى بقية أعضاء الكادر التعليمي في مدرستها، فبدأوا يلومونها على تصرفها، وكأنها هي المذنبة. وهذا ما أجبرها وعائلتها على الجلوس مع عشيرة والد الطالب، ودفع الدية المالية كفصل عشائري.
تروي معلمة الفنية، أنها تواصلت أكثر من مرة مع وزارة التربية التي تنتسب إليها، غير أن الأخيرة أبلغتها بحل مشكلتها بالتراضي مع ذوي الطفل، لأنها "تخشى التدخل في الأعراف العشائرية".
وفي عام 2018، صوّت مجلس النواب العراقيّ على قانون حماية المعلم، ونصت النقطة الأولى من المادة الأولى فيه على "حماية المعلمين والمدرّسين من الاعتداءات والمطالبات العشائرية والابتزاز، جرّاء قيامهم بأعمال الوظيفة الرسمية أو بسببها"، ولكن الجدير بالذكر أن هذا القانون غير مفعل.
في المقابل، يقول المتحدث الرسمي باسم وزارة التربية العراقية، كريم السيد، إن "للوزارة موقفاً واضحاً ولديها العديد من القرارات والتوجيهات بهذا الشأن ولدينا تجارب عديدة وتدخلات لحماية الكوادر التعليمية والحرم المدرسي والمطالبة بتفعيل القوانين لحماية البيئة المدرسية".
حياتي مرهونة بأبناء الأحزاب
يقول مدرّس مادة الفيزياء، أحمد الحسناوي، الذي يقطن في محافظة النجف، التي تبعد عن العاصمة بغداد نحو 150 كيلومتراً، إنّ "الأحزاب والتيارات الدينية الشيعية، تلعب دوراً خطيراً في التأثير على الكوادر التدريسية وتهديد بعض أولياء الأمور في الجهة التي ينتمون إليها للمدرّسين".
أغلب زملائي المعلمين يتعرّضون يومياً للضغوط والتهديد بالقتل من قبل رجال العشائر والأحزاب، وهناك من رضخ لسطوتهم بعد تهديده وقرّر منح درجة النجاح لبعض الطلاب الراسبين
تعرّض الحسناوي، وهو أستاذ في مادة الفيزياء، لتهديد بفصله من السلك التدريسيّ نهائياً من قبل شخص متنفذ في التيار الصدري الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر.
ويُعدّ التيار الصدري من أهم التيارات العقائدية الشيعية المسيطرة على المحافظة، ويحظى بقاعدة شعبية واسعة وله ثلاثة أجنحة عسكرية مسلحة وهي: جيش المهدي وسرايا السلام واليوم الموعود. بينما يواجه التيار تهماً بمقتل ناشطين مدنيين وشخصيات دينية مؤثرة من بينها اغتيال ابن المرجع الديني جواد الخوئي، بعد انتهاء نظام الرئيس السابق صدام حسين بأقل من سنة واحدة.
لكنّ أحمد يدرك تماماً حجم السطوة التي يمتلكها والد أحد طلبته المتنفذين عند اقتحامه المدرسة خلال ساعات الدوام برفقة أشخاص مدججين بالسلاح ويرتدون البدلات الرسمية، ويقول إنهم "أطلقوا في وقتها شتى الألفاظ النابية ’غير اللائقة‘ ضدي وأنا داخل الصف الدراسي وأمام طلابي، من دون أن أنبس ببنت شفة، خوفاً على حياتي من تهوّرهم وسرعة غضبهم".
ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "اقترب مني والد الطفل وفي يده سلاح لم أعرف نوعيته، وأمهلني ساعات معدودات لأنفّذ أمره بعدولي عن قرار رسوب ابنه، بعد فشله في تحقيق نصف درجة السعي".
كذلك، يروي مدرّس الفيزياء، أنه تم "تهديده بالسحل من الجماعة المسلحة نفسها في الشارع وأمام الملأ، في حال إصراره على عدم الرضوخ لتنفيذ طلبهم".
وورد في المادة الخامسة من قانون المعلم الذي شرّعه البرلمان في السابق، أنه "يعاقب بالحبس مدةً لا تزيد على 3 سنوات أو بغرامة لا تقل عن مليونين ولا تزيد عن 10 ملايين كل من يعتدي على معلم أو مدرّس في أثناء تأديته لواجبات وظيفته أو بسببها".
"اتّهموني بالبعث ولاحقوني"
ظاهرة الاعتداء على المعلمين أخذت تتسع بنحو غير مسبوق، وخاصّةً في مناطق وسط العراق وجنوبه، نتيجة هيمنة قوّة العشائر
في أيار/ مايو عام 2021، وخلال موسم الامتحانات النهائية لطلبة المدارس الابتدائية، "كنت برفقة فريق مكوّن من خمسة أشخاص أوفدته وزارة التربية للإشراف على سير الامتحانات داخل أحد المراكز الامتحانية الواقعة في أطراف محافظة ديالى شمال شرق العاصمة بغداد، فصرت في موقف لا ينسى"، تروي المشرفة التربوية السابقة التي سنطلق عليها اسم "بيداء" (وهو اسم مستعار)، لحمايتها.
تقول بيداء، إن إحدى معلمات المركز الامتحاني استجوبت تلميذاً لا يتعدى عمره الـ10 سنوات، عن سبب تأخره لنصف ساعة عن وقت الامتحان، ومنعته من الدخول إلى القاعة الامتحانية، فتهجم التلميذ عليها وبدأ يصرخ بصوت عالٍ ويهددها بالقول: "أنا في العصائب وسأبلغ والدي فوراً وهو سيؤدّبكم".
وتكمل في حديثها إلى رصيف22: "بالفعل جاء والده يُهدد ويتهمنا بأننا بعثيون، ثم أردف محذّراً: إياكم من حرمان أبنائنا من الدراسة والتعليم، كما حرمنا الملعون صدام حسين في ذلك الوقت"، وتشير إلى أن والد الطفل حاول ملاحقتها أكثر من مرتين، وسأل عنها في قضاء بعقوبة حيث تقيم.
وعصائب أهل الحق، فصيل مسلح شيعي تشكّل رسمياً في عام 2011، وذلك بعد انشقاقه عن جيش المهدي نهائياً، ويتزعمه القيادي الشيخ قيس الخزعلي، المصّنف على لائحة الإرهاب والعقوبات الدولية، ولاحقاً انضم العديد من السنّة في صلاح الدين وديالى إليه، وخاصّةً بعد معارك التحرير التي شاركت فيها الحركة ضد تنظيم "داعش".
"كوادرنا تحتمي بعشائرها"
يقول نقيب المعلمين العراقيين، عباس السوداني، لرصيف22، إنّ "ظاهرة الاعتداء على المعلمين أخذت تتسع بنحو غير مسبوق، وخاصّةً في مناطق وسط العراق وجنوبه، نتيجة هيمنة قوّة العشائر وتأثيرها على أغلب المرافق الحكومية ومنها مجال التعليم".
ويشير إلى أنّ "كودارنا التعليمية والتدريسية تتعرّض بشكل شبه يومي للترهيب والضغوط، وهذه الظاهرة تتفاقم مع بداية كل موسم امتحاني أو تتزامن مع توزيع النتائج النهائية على الطلبة".
ويتابع، أنه "خلال السنة الحالية سجّلنا نحو 85 حالة اعتداء على الكادر التدريسي فقط في محافظة ذي قار، فضلاً عن توثيق حالات أخرى في كربلاء وبغداد والديوانية وواسط وغيرها من المحافظات".
اقترب مني والد الطفل وفي يده سلاح لم أعرف نوعيته، وأمهلني ساعات معدودات لأنفّذ أمره بعدولي عن قرار رسوب ابنه، بعد فشله في تحقيق نصف درجة السعي
ويختم: "النقابة خاطبت أكثر من مرة مجلس القضاء الأعلى لتفعيل قانون حماية التدريس والتعامل بحزم مع من يعتدي على الكوادر التربوية، ولكن للأسف الشديد زملاءنا من المعلمين والمدرسين يقومون باللجوء إلى عشائرهم لحل المشكلات، ولا يذهبون إلى المحاكم من أجل الحكم بالسجن وفرض الغرامات المالية على المعتدي، ويصبح عبرةً لغيره".
تغوّل العشائر والأحزاب
برأي نائب رئيس لجنة التربية النيابية، جواد عويز الغزالي، فإنه لا بد من تشريع قوانين أكثر قوةً وفعاليةً للحد من التجاوزات المتكررة على الكوادر التعليمية. ويشير في حديثه لرصيف22، إلى "تزايد خطورة المجاميع والأشخاص الذين يتحصنون بالنفوذ الحزبي أو العشائري والسياسي، إذ يستغلون تغوّلهم بالتجاوز على المعلم من أجل تحقيق منافعهم الرخيصة".
ويضيف: "ظاهرة الاعتداء وكسر أبواب المدارس وزجاج نوافذها وترويع الطلبة الكودار، ما هي إلا تصرفات همجية"، مؤكداً أن "لجنة التربية ترفض وبشكل قاطع هكذا تصرفات غير حضارية"، مشيراً إلى أن لجنة التربية، في صدد إعداد مشروع "متكامل" ليرسَل إلى هيئة رئاسة البرلمان خلال الأيام القادمة، وذلك للمساهمة في حماية سلامة وحياة الكوادر التربوية.
بالرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية ودقيقة حول أعداد المعلمين الذي يتعرضون للتهديد العشائري في محافظات العراق كافة، تكثر قصصهم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
وطالب عدد من المعلمين في وقت سابق، السلطات الحكومية بالسماح للكوادر التعليمية والتدريسية بحمل السلاح لحماية أنفسهم، فيما اقترحت لجنة التربية النيابية مشروع قانون يفيد بتدريب المعلمين والمدرّسين على استخدام السلاح، وسط استغراب كبير أبداه ناشطون ومدوّنون على مواقع التواصل الاجتماعي في وقتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع