"صعب"، "قامة كبيرة يعني"... تتنهد ثم تطأطئ رأسها، وتغرق عيناها بالدموع: "أقول له: أحلامك أكبر مِن العراق، لم يحدها شط العرب، ولا حتى العراق بنهريه وناسه أجمع"، تستمر بقول جملٍ تجاهد لمسك الفكرة، وبصوتٍ منكسر: "ادعوا لي أن أوثق عطاءاتكم... وأن أمضي شهيدة على طريقك يا أبي مهدي"، وعلى الفور تستشهد بأبياتٍ من اللهجة الدارجة، وتنهمر دموعها:
أكلك يخوية الردين تكنطر وطاح
وبعده الفجر لا جلجل ولاح
اكعد وصلي على الفلاح
واسمع خطى وملامح ارماح
هكذا اختتمت الفنانة عواطف السلمان لقاءً تلفزيونياً، طلب منها المقدم خلاله أن ترتجل مشهداً تمثيلياً، تتحدث عبره مع "أبو مهدي المهندس" نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الذي قضى بضربة صاروخية، قرب مطار بغداد الدولي، مطلع العام 2020، مع قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، وعدد من المرافقين.
الأبيات التي استشهدت بها السلمان خلال مشهدها المرتجل، لشاعرة عراقية باللهجة الدارجة اسمها فدعة، وملقبة بـ"خنساء خزاعة"، وأدت السلمان دورها في مسلسلٍ يحمل العنوان ذاته، وفي أحد مشاهده تنثر بطلة المسلسل فدعة (عواطف السلمان) التراب على رأسها، قرب جثة أخيها، ترثيه بالأبيات ذاتها وتنحبه، فيما يحفر الأب قبراً له في ليلة ظلماء.
هذا التداخل بين الدراما ومواقف الممثلة عواطف السلمان، ذات الـ68 عاماً، يتناثر منذ بدء مشوارها الفني الذي يمتد على 48 عاماً، واستفحل مع سقوط المحافظات العراقية تحت سيطرة تنظيم ما يُعرف اختصاراً باسم "داعش"، وصدور فتوى الجهاد الكفائي، لمحاربته، من قبل المرجع الشيعي الأبرز علي السيستاني، حتى صار خطابها الواضح ومشروعها الذي تحيا من أجله "حتى تمضي شهيدة"، على حد تعبيرها.
أي دورٍ تحترف؟
بعد أن تصدرت المشهد في العام 2015، عبر أنشودة "ما يعبرون"، التي أداها المنشد علي الدلفي، حددت عواطف السلمان أدوارها في المسرح والدراما، وفي الحياة الحقيقة أيضاً في أن تؤدي دور المرأة "الثكلى" المفجوعة تارة، و"الموثبة" تارة أخرى، دون أن تبارح هذين الدورين حتى الآن.
استهلت السلمان بداياتها بدور "العمارية"، في أوبريت مشترك، شاركت فيه مع آخرين في فرقة البصرة، في ثمانينيات القرن الماضي، خلال الحرب العراقية - الإيرانية، وبزي شعبي، يحث على مقاتلة العدو (الإيراني) واستحالة العبور إلى البصرة بسبب وجود صدام حسين، رئيس النظام السابق (أُعدِم 2006) تردد فيه السلمان أهزوجة باللهجة الدارجة: "رايد مَن؟ خياب وين منين العبرة ميالة.. رايد مَن؟ خايب وين؟.. البصرة البصرة جتالة (قتالة)".. صوت هلاهيل ثم تكرر المشاركات معها: "منين العبرة هنا صدام".
في المجتمع العراقي الجنوبي، لا تزال ذاكرة مجايلي العماريات تزخر بالقصص التي تتحدث عن دور نساءٍ في معاركٍ، تعرّض لها إخوتهن أو أزواجهن. يتحدثون عن دورهن في تلقيم السلاح، واستنهاض الهمم بالهلاهيل والأهازيج، خلال الاشتباكات. هؤلاء النساء يعدنّ امتداداً لنساء كن معروفات بتسمية "العماريات"، يلتحقن بالجبهات، يحضّن على الحرب، ويحترفن تنخية القوم وتشويقهم للقتال، ويحثنهم على العودة إلى القتال إذا ما رأين فيهم انكساراً، "فهم لا يطيقون الصبر على لائمتها وعتابها".
"السلمان بدأت مشوارها ‘عمارية’ لصدام حسين، قبل أن يسقط نظامه، وتتسلط معارضته، لتقول مثل كثيرين غيرها إنها كانت مجبرة على ذلك، وإن أحداً لم يكن يستطيع قول لا في وجه صدام"
ليست هذه العادة جديدة، ولا دخيلة، بل تعود إلى أيام ما قبل الإسلام، إذ كانت بعض النساء تنذر نفسها للتحريض على القتال، وكن شاعرات أُطلِق على شعرهن "الموثبات"، وهي "قصائد قيلت لإيغار الصور بالحقد وإلهاب حمية القوم، وإثارة النفوس للمطالبة بالثأر، واستفزاز الرجال لدفع الإهانة التي تلحق بهم"، كما كتب عنهنّ نوري حمودي القيسي، في مقال بعنوان "الأشعار الموثبات في الجاهلية"، نُشر في مجلة الأقلام عام 1964.
عمارية على ضفتين
السلمان بدأت مشوارها "عمارية" لصدام حسين، قبل أن يسقط نظامه، وتتسلط معارضته، لتقول مثل كثيرين غيرها إنها كانت مجبرة على ذلك، وإن أحداً لم يكن يستطيع قول لا في وجه صدام، وإنها لا تتبنى ذلك الخطاب الآن، لكنها اختلفت عن غيرها في إعلانها المستمر أنها اليوم خلافاً للسابق، تتبنى خطاباً عبر أدوارها الدرامية، والسينمائية، والمسرحية، انطلاقاً من مسؤوليتها بوصفها امرأة مسلمة جنوبية.
سينعكس هذا بوضوح عبر مبادرتها بعد صدور فتوى الجهاد الكفائي عام 2014. تقول إنها اتصلت بالشاعر الشعبي الراحل سمير صبيح، وإنها طلبت منه أن يكتب قصيدة عن أم لا تمتلك إلا ابناً واحداً التحق بفتوى الجهاد... "أم يقظة محفزة"، وتقول إنها تواصلت مع الشاعر وأجرت تعديلات على النص، ثم حاولت لعدة أشهر أن تجد راعياً يتبنى العمل، قبل أن يتلقفه المنشد علي الدلفي، وكان لها شرط واحد فقط: "تصوير المشاهد في مناطق ساخنة"، على غرار "العماريات".
ففي أنشودة "ما يعبرون" التي حازت حتى اليوم أكثر من 70 مليون مشاهدة، وكانت من أشهر أناشيد التعبئة العسكرية إبان قتال مسلحي تنظيم داعش، الذين يوضعون بمصافاة البعثية، تمثل السلمان دور أمٍ تودع ابنها الذي يستعد للالتحاق بالحشد الشعبي وتوغل صدره بالقول:
"إذا لا سامح الله وعبروا بالليل... وهذا الما يصير وما يعبرون
ذل الذل نشوفه ونكره الروح... ويهدمون المصلى على اليصلون
ابنك ينذبح وعيونك تشوف... وبالجثة بخناجرهم يمثلون
وأبوك كبال عينك شيبه ينهان... وتنجر شيلتي وأهلك يدنكون
وفي مقطع آخر من الأنشودة ذاتها، تبدو فيها تجليات الموثبات بأوضح صورها، تقول: "مو دللول الولد لا مو دللول... ما أريدك تنام وليلنا يطول... وعدوك مو عليل يصول ويجول... ما اريدن عذر أي عذر ما مقبول... شتكل للوطن للناس شتكول؟".
وفي العام التالي، أدّت السلمان مع المنشد علي الدلفي الجزء الثاني من أنشودة ما يعبرون، تمثل خلالها دور الأم التي يعود ابنها شهيداً من القتال، وهنا تلعب دور الثكلى ليكون خطها الثاني في الدراما في ما بعد، لكنها ثكلى بنَفَس العمارية الموثبة. تقول في أحد المشاهد، مجملة فكرة التضحية والشهادة:
"مدري ألطم؟ أهلهل؟ مدري أواسي الروح؟ مدري أحزن؟ أعيّد؟ كلهن ببالي".
"التداخل بين الدراما ومواقف الممثلة عواطف السلمان، ذات الـ68 عاماً، يتناثر منذ بدء مشوارها الفني الذي يمتد على 48 عاماً، واستفحل مع سقوط المحافظات العراقية تحت سيطرة "داعش"، وصدور فتوى الجهاد الكفائي"
وفي مشهد آخر:
"لا يمة لا ماكول وسفة وخسارة... الحامة على عرضه وطاح مامونة داره
بس كلبي يمة اشلون ما تطفة ناره... الإ الوطن يرتاح ويرد له ثاره".
بعد هذين العملين، اشتركت السلمان في أنشودة لمنشد آخر عن الحشد أيضاً، وعدة مشاهد وأعمال عن الموضوع ذاته، لكنها تقول إن عملاً لم يصل إلى الأثر الذي تركه العمل الأول (ما يعبرون).
ثكلى على ضفة ثالثة
وفيما كانت الممثلة قد لعبت دور "العمارية" على ضفتين متناقضتين، في زمنين مختلفين، داهمت تظاهرات تشرين البلاد عام 2019، في وقتٍ لم يتوقعه أحد، وحملت علانية شعارات مناهضة لقادة الحشد الشعبي، حتى إن صور "قادة النصر" التي نعتهم السلمان في مشهدها المرتجل، كانت قد حُرِقَت في ساحات الاحتجاج.
على هذه الضفة، اكتفت السلمان بدور الثكلى، ففي عام 2020 أدّت دور والدة عمر سعدون، الذي قُتِلَ صبيحة الـ27 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، خلال محاولة اجتياح ساحات الاحتجاج في مدينة الناصرية. وفي هذه الحلقة المخصصة لعمر، ضمن سلسلة "قصص لجابر"، تظهر الممثلة الثكلى التي تزور قبر ابنها وتخاطبه كأنه حياً وتنتهي بالبكاء عليه مع أصدقائه الذين وصلوا إلى قبره بعدها.
وفي العام ذاته، ظهرت السلمان، خلال أربعينية أحمد مهنا، الذي قُتلِ خلال هجوم ميليشيات على كراج السنك وسط بغداد نهاية العام 2019. على المنصة وبحضور كوادر من الحشد الشعبي، نعت السلمان مهنا بأبيات من الشعر الدارج على لسان الأم أيضاً، وهي الوصفة السهلة لاستدرار الدموع.
ورغم أن القتيل أحمد مهنا سقط في ساحات الاحتجاج، فإن الحشد الشعبي لم يتخلَّ عنه (وهو مقاتل تطوع في الحشد الشعبي) حتى إنهم اتهموا محتجين بقتله خلال الفوضى برصاصة من خلف. وما دامت السلمان لم تعبر ضفة الحشد كثيراً هذه المرة، ظهرت في مقطع آخر، وهذه المرة بالطريقة ذاتها التي ظهرت فيها بدور الأم في أنشودة "ما يعبرون". ورغم أنها لا تؤدي دوراً هذه المرة، إلا أنها تستمر باستخدام الوصفة السهلة، وتخاطب الضحية بعبارة "ها يمة يحمودي" وتترحم عليه وتهنئهُ على الشهادة، ثم تقول: "بارك الله فيهم الشهداء"، "فراقكم صعب يا يمة لكن تنغبطون عليها الشهادة"، "دماؤكم هي النور والقوة التي يستمد منها إخوتكم في الحشد الشعبي، المستمرين على مسيرتكم ونهجكم"، وتكمل قائلة: "هذا الطريق (الشهادة) مفتوح ولا يُغلق من علي بن ابي طالب حتى قيامة الساعة... هنيئاً لمَن يمشي بهذا الطريق".
السلمان تشدد على أنها اليوم تتبنى خطاباً عبر إطلالاتها، وفي أكثر من موضع تقول إنها اليوم تؤدي رسالة تنطلق من دورها كـ"أم"، وإنها رفضت أدواراً لا تنسجم مع قيمها ومبادئها، وتهاجم الممثلين الذين برأيها تحوّلوا إلى "أداة" لتخريب المجتمع عبر المشاركة ببعض الأعمال الدرامية، وترفض أن يكون الإنتاج "شماعة" تُعلّق عليها المسؤولية. لا تكتفي بهذا وحسب بل تعتقد بضرورة أن يكون لنقابة الفنانين نظام على غرار مصر، يتدخل في الأعمال الدرامية، التي ترى فيها "إساءة مقصودة لمجتمع جنوب العراق، ونسائه"، وتتساءل: "كم فدعة نطَلِّع بالعراق من 2014 حتى اليوم؟"، سؤال يوحي بأنها أخذت على عاتقها أداء هذه الأدوار حتى تمضي "شهيدة"، كما تقول في أحد اللقاءات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.