امتلكت السيدة عائشة شخصية فذّة، تؤكدها المواقف المنحازة بشكل إيجابي لسيرتها ومواقفها كما السلبية المنطلقة من موقع النقد لها. رغم ذلك، غابت زوجة النبي عن مسميات العبقريات واسعة الانتشار التي كتبها المفكر المصري عباس محمود العقاد.
فالعقاد فضّل أن يختار لسيرتها عنواناً مجرداً من سمة الإبداع المتصل بالعبقرية، بعكس ما قام به مع صحابة آخرين، وكان عنوان كتابه عنها "الصدّيقة بنت الصدّيق". ولعلّ اختيار العقاد هذا ليس إلا أثراً من آثار هيمنة النزعة الذكورية البطريركية ذات الرسوخ والهيمنة في تاريخ المجتمعات والثقافات البشرية في العموم، وفي المجتمع والثقافة العربية اليوم بالذات.
إنكار منابع العبقرية النسوية عند السيدة عائشة أو تمويهها ليس أمراً قاصراً على كاتب واحد، لكنه سمة عامة في تناول شخصيتها والشخصيات النسائية في التاريخ العربي بوجه عام. والآلية الشائعة في إنكار مصادر عبقريتها تأتي عن طريق الالتفاف على ذلك بعزو خصائص شخصيتها إلى أسباب بعيدة عن كينونتها الذاتية وتكوينها النفسي والذهني، وردّها إما لتأثير شخصية النبي وبصماته عليها وعلى صياغة شخصيتها، أو لتأثير شخصية أبيها أبي بكر الصدّيق وأثره النفسي والتربوي عليها.
استقلال فكري
المثير في سيرة شخصية السيدة عائشة أن مواقفها السياسية تُصوَّر بالعادة كأنها تابعة لبعض كبار الصحابة، مثل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وهما الرمزان الكبيران للتحالف القبلي السياسي الذي قادته ولم تنقَد إليه كما يصوّر الرواة والإخباريون الأمور.
وعلى رأس الشخصيات المذكّرة التي يعزى إليها تشكيل مواقف السيدة عائشة، وإنْ بتأثير سلبي، خصمها الأُسري والقبلي، ابن عم النبي والخليفة الرابع عليّ ابن أبي طالب.
تفعيل هذه القاعدة شبه المستقرة في التناول الذكري للشخصيات الأنثوية يعني إلحاق واستتباع كل ما هو أنثوي بكل ما هو ذكري بطرق مختلفة، ويهدف إلى تشتيت الانتباه عن حقيقة استقلالية شخصية المرأة موضوع التحليل، وهو ما يجعل من تأثيرها في الأحداث شاحباً إلى أبعد مدى، مهما كان حجمه وقيمته.
ولكن استقلال السيدة عائشة الفكري ترسخ كحقيقة مستقرة في تاريخ الفقه السنّي المذهبي، عبر ذكر تفرّدها عن سائر الصحابة في مسائل فقهية لا توجد إلا عندها، وانفرادها بأنواع من التأويل في اختيارات وأحكام وردت أخبار مخالفة لها عن صحابة آخرين.
يروي الترمذي (279هـ) في سننه عن أبي موسى الأشعري (42هـ) قوله: "ما أشكل علينا (أصحاب محمد) حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً". ويحصي المحدّث شمس الدين الذهبي (748هـ) استدراكها (تصحيحها) على كبار الصحابة في 61 مسألة، كان حظ أبي هريرة (59هـ) منها 13 مسألة، يليه عبد الله بن عمر (73هـ) في عشر مسائل، ثم عمر بن الخطاب (23هـ) وابن عباس (68هـ) بثماني مسائل لكل منهما، والمسائل الباقية تتوزع على بقية الصحابة.
التفرد كملمح شخصي لدى السيدة عائشة رافقها كذلك عبر إسهاماتها المختلفة في سائر وجوه الحياة، وهذا يعود إلى طبيعتها وسمات شخصيتها واستعدادها الفطري، كما يعود أيضاً إلى عوامل أخرى مهمة في تكوينها الذهني والنفسي بالطبع. وعلى رأس تلك العوامل المكوّنة توفر أبيها على تعليمها، إذ كان أبو بكر، بفضل انتمائه القبلي إلى فرع قرشي صغير، متفرغاً إلى حد بعيد لشؤون تجارته وبيته، وأقل اشتغالاً بالأعباء الاجتماعية المفروضة على أبناء الأسر المنتمية إلى الفروع القرشية الكبيرة، وبفضل تفرغه أخذت عنه ابنته الفصاحة والشعر وأيام العرب (التاريخ/ الفولكلور) والأنساب.
في خبر عن ابن أختها وأهم تلاميذها عروة بن الزبير (94هـ) أنه قال: "ما رأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا حرام ولا شعر ولا بحديث العرب ولا النسب من عائشة". والجدير بالذكر أن عروة الذي يشتهر بتوجه الصحابة إليه بالمسائل لم يكن ثمرة وحيدة للتلمذة الفقهية على يدي خالته عائشة، فالأشهر منه كانت تلميذاتها اللواتي اشتهرن في تاريخ القرن الأول بأنهنّ لم يكن بين النساء أعلم منهن، مثل عائشة بنت طلحة وحفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبد الرحمن.
أدوار اجتماعية وسياسية
في صحيح البخاري عن أبي موسى عن رسول الله: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
في هذا الحديث المنسوب للنبي تقدير مساواة بين وضع زوجتين من زوجاته وآسية امرأة فرعون في قوة الإيمان والتصديق بالنبوة والرسالة السماوية، ثم يميّز عائشة بعد ذلك بفضل يشبه فضل الثريد على بقية الطعام المشبع. ولعل حديثاً كهذا يصلح عنواناً نقدياً/ نقضياً صريحاً لخيار كاتب مثل العقاد. فالحديث أضاف في كفة ميزات عائشة ما هو أكثر من كونها صديقة مؤمنة ابنة صدّيق مؤمن.
"إنكار منابع العبقرية النسوية عند السيدة عائشة أو تمويهها ليس أمراً قاصراً على كاتب واحد، لكنه سمة عامة في تناول شخصيتها والشخصيات النسائية في التاريخ العربي بوجه عام"
المميزات النفسية والذهنية في شخصية عائشة نتلمسها في العديد من الأخبار التي تناولت سيرة حياتها في مراحلها المختلفة، بالذات في ما يتصل بحادثين كبيرين فيها: الأول "حادث الإفك" بما يعكسه بذاته من معاني الملاحقة التي تسم موقف المجتمع الذكوري من النساء البارزات؛ والثاني حادث خروجها لقيادة تحالف سياسي قبلي قوي، ناطَحَ بقوته السياسية والعسكرية هيمنة الفرعين القرشيين القويين (بني هاشم وبني أمية) على السلطة وشؤون القيادة في قريش قبل أن يُهزم.
وخاضت عائشة مواجهة "الجمل" العسكرية ضد جيش علي بن أبي طالب (40هـ)، واتخذت الموقعة ذروة لما يمكن أن تخوضه امرأة في زمنها من صراعات التمكين السياسي والاجتماعي القبلي، لكن هذه المحطة، ومهما كان رأي الناظر إليها، لا تثمنها إلى حد بعيد ثقافة تهيمن عليها بُنى وعلاقات البطريركية الذكورية.
اللافت في الحادثيْن المذكورين قوة شخصية عائشة، مقارنة بسيرة معاصراتها ومن بينهن زوجات النبي الأخريات. واللافت أكثر اتخاذ الجدل المرتبط بالحادثين معاً وجهة معاكسة لموقفيْ عائشة عنهما، وهما موقفان يعكسان قوتها النفسية وقوة شخصيتها. ففي حادث الإفك، كان موقفها الإصرار على الصمت وعدم الإفصاح ولا التفوة بكلمة واحدة دفاعاً عن نفسها ضد اتهام مشين وبلا دليل. وفي موقعة الجمل، كان موقفها الإصرار على نفي أن يكون دافعها في سفرها إلى البصرة لخوض معركة شخصياً كالخصام الأسري مع ابن عم زوجها النبي والتأكيد على أنه سياسي، وهو ما أكدته في خطبتها بالناس وهي تغادر البصرة بعد هزيمة جيشها حين قالت: "يا بنيّ لا يغتب بعضكم بعضاً إنه ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه لمن الأخيار"، وهو ما أمّن عليه عليّ نفسه، حسب رواية الطبري: "صَدَقَت والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة".
ما يمكن أن نستبينه بجلاء أن ما سارت عليه روايات وأخبار الحادثين معاً والجدال المرتبط بهما إلى اليوم، سيان أن يتخذ اتجاه الدفاع عن عائشة أو الاتهام لها، كان في الشكل وفي المضمون بخلاف موقفها الذي يعكس قوتها وطبيعة مواقفها.
بين خديجة وعائشة
بوسع متصفح مدونة الحديث والأخبار لصدر الإسلام أن يلمح اهتماماً مدهشاً برصد وسرد ما اعتُبر غيرة ملتهبة من طرف عائشة تجاه السيّدة خديجة، الزوجة الأولى للنبي. من ذلك ما ذكره البخاري في رواية عن عائشة: "استأذنت هالة بنت خويلد (أخت خديجة) على رسول الله فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة، قالت عائشة: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر الأول قد أبدلك الله خيراً منها!".
وبالإضافة إلى ذلك، أدّت الوفرة المتراكمة من روايات المصادر وآراء الإخباريين وكتّاب السير إلى وجود ما يمكن أن نعدّه مبحثاً مستقلاً يدور حول إجابة سؤال يبدو، من وجهة نظر نسوية، بالغ العبثية، وهو سؤال: أيهما أفضل أو أسبق أو أصلح (حسب وضع المتسائل)، خديجة أم عائشة؟ والقياس المعياري للصلاحية أو الإفادة في المقارنة بين الزوجتين هو دعم النبي أو إفادة الدعوة الإسلامية، وليس أي معيار آخر.
"الآلية الشائعة في إنكار مصادر عبقرية السيدة عائشة تأتي عن طريق الالتفاف على ذلك بعزو خصائص شخصيتها إلى أسباب بعيدة عن كينونتها الذاتية، وردّها إما لتأثير شخصية النبي أو لتأثير شخصية أبيها أبي بكر الصدّيق"
وفرة مصادر هذا المبحث لا بد أن تقف بنا أمام حقائق مهمة: أولاها حقائق الاهتمام المفرط بشؤون الحياة الخاصة الذي تبديه المجتمعات المغلقة تجاه سكانها، فقيمة كالخصوصية الشخصية والحياة الخاصة لم تكن من القيم التي تحظى بالاهتمام الذي تحظى به اليوم؛ والثانية حقائق ولع المخيلة الذكورية بإجراء المقارنات بين النساء، والميل إلى تأكيد القيم والتفضيلات الأبوية البطريركية عن طريق إجرائها. والسؤال المهم هنا: ما الذي يمكن أن يشكل شاغلاً للعقلية الذكورية في المقارنة بين أكبر زوجات النبي وأصغرهن عمراً عند الزواج منه؟
المعروف أنه كان لكلا الزوجتين، خديجة وعائشة، موقفاً قوياً ثابتاً داعماً للنبي ومنحازاً لرسالته. ويُحسب لخديجة أن موقفها ترافق مع لحظات المواجهة الأولى بين النبي وقومه، وكان من أكثر دعائم صموده أمام سخرية وتكذيب الناس له. وربما يكمن هنا منبع غيرة عائشة كزوجة محبّة لم تتِح لها الأقدار أن تكون إلى جانب زوجها في لحظة تودّ لو لم تكن بجانبه فيها زوجة غيرها.
وبالنسبة إلى خديجة، يتطابق الدعم الذي منحته للنبي في المخيلة الذكرية مع مقولة: "وراء (لا بجانب) كل عظيم امرأة". فلم يُعرَف عنها أنها تصدت مرة، طيلة سنوات صعبة من صراع النبي مع قومه، لمواجهتهم على نحو فكري أو جدالي أبداً، وتمثل دعمها له في الدعم القوي والوقور من امرأة تقبع بين جدران بيتها لا تشارك زوجها شؤون دعوته وحياته العامة.
ولعل ذلك لم يكن نابعاً من سمات شخصية خديجة، وهي التاجرة القرشية ذات الشخصية الاجتماعية المستقلة، بقدر ما كان نابعاً من طبيعة المرحلة المبكرة من دعوة النبي للإسلام. كان مجرد التصديق برسالته والثبات على ذلك أقوى ما يمكن أن تقدمه زوجة مؤمنة لدعم زوجها النبي. ولكن الأمر اختلف كلياً بعد الهجرة النبوية إلى المدينة، وبدء مرحلة حافلة بالوقائع والمعارك والأحداث والتقلبات والمساجلات، وهو ما طبع علاقة النبي وعائشة وشخصية عائشة التي نشأت في تلك الأجواء ذات الطابع المختلف. وهذا يجعل المقارنة بين الزوجتين غير ذات مضمون باستثناء التعبير عن شغف القيم الذكورية والبطريركية بتأكيد نفسها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...