شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
المدينة التي أتصالح فيها مع الواقع... كارلوفي فاري

المدينة التي أتصالح فيها مع الواقع... كارلوفي فاري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الجمعة 9 ديسمبر 202211:34 ص

من يعشق السفر تصفو روحه عبر تأمل وجه المدن، فتسمو الروح فوق المادة والأشياء والواقع المتخم بالصراعات. والسفر قصة عاطفية، تُكتب بمشاهدة الجديد والمختلف، وبالابتعاد عن رتابة الاعتياد، ولا يحدث ذلك، عادة، إلّا عبر زيارة المدن البعيدة.

مدينة كارلوفي فاري التشيكية من المدن الفاتنة التي تأخذ العقول، حيث مناظر الجبال الساحرة والطبيعة الخلابة وينابيع المياه، هذه الطبيعة الإلهية الممزوجة بمهارة وذوق الإنسان التشيكي الذي بنى وصمم المباني والجسور والكنائس لتصبح المدينة واحدة من أجمل المدن الأوروبية> فضلًا عن ذلك تمتلك هذه المدينة العديد من السمات التي لا تتوفر في كثير من المدن الأخرى، مما جعلها مقصداً للباحثين عن الهدوء والسكينة والجمال والاستشفاء من الأوربيين والشرقيين.

بيتهوفن وشوبان في كارلوفي فاري

تقع كارلوفي فاري غرب إقليم بوهيميا، ويمر بها نهرا أور وتيبلا، وتسمى "كارلسباد" بالألمانية، وهي مدينة تاريخية بناها ملك بوهيميا والإمبراطورية الرومانية المقدسة. سميت بهذا الاسم نسبة للملك كارل الرابع الذي بناها سنة 1370م.

تضم كارلوفي فاري العديد من الفنادق والمتاحف والكنائس العريقة، فضلاً عن الينابيع الطبيعية التي تتوفر في المدينة. وتتميز بالتنظيم الراقي للشوارع والمساحات الخضراء والمباني الملوّنة بشكل متناسق، مما ساعد على أن تكون لها خصوصية فريدة تجذب الملوك والأمراء والحكام والمفكرين من كل بلاد العالم، وقد زارها بيتهوفن، وشوبان، وكارل ماركس، ومصطفى كمال أتاتورك، والشاعر الألماني غوته. وتعتبر وجهة سياحية لكثير من المصريين والشاميين والخليجيين الراغبين في السفر إلى أوروبا.

مدينة لها خصوصية فريدة تجذب الملوك والأمراء والحكام والمفكرين من كل بلاد العالم، وقد زارها بيتهوفن، وشوبان، وكارل ماركس، ومصطفى كمال أتاتورك، والشاعر الألماني غوته... مدينة كارلوفي فاري إحدى أجمل المدن الأوروبية

تبعُد المدينة عن العاصمة التشيكية براغ 127 كم، وتعتبر أكثر المدن الأوروبية هدوءاً وجمالاً، وتتوفر بها سُبُل السياحة العلاجية، لاحتوائها على العديد من الينابيع الدافئة حيث تتدفق المياه من باطن الأرض، ولذلك يقصدها الزائرون للاستشفاء بمياهها الصحية، إذ يصل عدد هذه الينابيع إلى 13 ينبوعاً، إضافة إلى نهر تيبلا الذي يتميز بمياهه الدافئة على مدار اليوم.

وقد أثبتت دراسات تطبيقية قدرة هذه الينابيع على علاج الكثير من الأمراض، خاصة أمراض العظام والعمود الفقري والمفاصل والخشونة. ومن لم يذهب إلى كارلوفي فاري من أجل الاستشفاء؛ فإنه يذهب من أجل الاستمتاع بالطراز المعماري وجمال المدينة وطبيعتها الساحرة التي تترك في الزائرين إحساساً مختلفاً من السمو والراحة النفسية.

مدينة الجمال والجلال

الجمال والبهاء والجلال دفعت الكاتب في أدب الرحلة أحمد هريدي أن يعبّر عن مشاعره تجاه المدينة الساحرة قائلاً: "أجاهد كي أتمالك قواي أمام قبس من بهاء الله العظيم يتبدّى أمام ناظري... أنظر بعيون قلبي إلى عناق يد الله في الأعالي مبدعة المنظر الطبيعي، ويد الإنسان على الأرض التي أقامت عمارة تتسم بجمال واتساق وتناسق هندسي بديع، وشقت طرقاً وكباري وقنوات مياه تتوسط بيوت وقصور أنيقة وحدائق وارفة"، ذلك أن كارلوفي فاري تتسم بالتصميم الهندسي للمباني وتمتزج في المدينة الهندسة المعمارية التاريخية بطرز المعمار الحديثة، كما تكشف المباني عن حسّ فني وإبداعي يبدو في ألوانها الجذابة والمتناسقة، مما يسترعى انتباه الزائرين بمجرد الولوج إليها.

الكتابة عن كارلوفي فاري تبعث على العشق، وليست كلّ المدن كذلك...

فضلاً عن الطبيعة الساحرة التي تتسم بها كارلوفي فاري، ووجود العديد من المزارات السياحية والكنائس العريقة، فالمدينة بها سمات ثقافية وفنية عدة تكشف عن وجهها الحضاري، مثل مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي الذي تحتضنه المدينة منذ عام 1948، أي منذ 74 عاماً، بما يجعله أقدم مهرجان سينمائي في أوروبا الشرقية والوسطى، وأحد أعرق مهرجانات السينما في العالم، وقد أقيمت في تموز/يوليو الماضي فعاليات الدورة الـ55 للمهرجان، وشهد الدورات السابقة مشاركات من مصر، ولبنان، وتونس، والمغرب، وفلسطين، وقطر، والإمارات، وغيرها من الدول العربية، كما يقام في المدينة كل عام مهرجان الأوبرا السنوي عند قلعة لوكيت التاريخية، ويشهد حضوراً كبيراً من محبي الفنون.

موسيقى دفور جاك وسميتانا تعانق الطبيعة

تنتشر الموسيقى الراقية في ربوع كارلوفي فاري، فحينما تسمع موسيقى دفور جاك، وسميتانا، من بلاد التشيك، تتجسد الموسيقى أمام عينيك في صورة كائنات ومشاهد وأهازيج، وتمتزج الموسيقى بالطبيعة، فتشعر بأن الموسيقى من الطبيعة، وأن الطبيعة بجمالها وبهائها سيمفونية إلهية، أبدعها الله وحافظت عليها الأيدي التشيكية، وفي كتابه "السفر قصة عاطفية" يصف أحمد هريدي معزوفات سميتانا بأنها "رحلة عجائبية إلى مروج وغابات وجبال ومراعي وأنهار بوهيميا، وإلى احتفالات الزواج في الريف التشيكي، ومشاهد الرقص الفلكلوري، وإلى أهازيج الفرح في نهارات الصيد وليالي الحصاد". ويصف العناق بين الطبيعة والموسيقى: "من ألوان الخضرة المتدرجة تتدرج نغمات السلم الموسيقي القادم من السماء إلى الأرض يزف الرحمة والجلال والجمال للبشر، إنها يد الله في الأعالي".

يعدّ التصوير السينمائي في المدينة وجهاً ثقافياً آخر، حيث تعتبر المدينة بمعالمها وطبيعتها وواجهات الفنادق بها مكاناً محبباً للمخرجين من أجل تصوير الأفلام، وشهدت العديد من الأماكن المفتوحة بالمدينة تصوير العديد من الأعمال، ومنها فيلم "العطلة الأخيرة"، وفيلم "كازينو رويال" أحد أجزاء سلسلة جيمس بوند، كما تم استخدام فندق Palace Bristol في كارلوفي فاري كنموذج لفيلم The Grand Budapest Hotel.

معالم بارزة في المدينة

تضم كارلوفي فاري العديد من المعالم التاريخية والدينية والثقافية منها برج ديانا الذي يعتبر أحد أشهر معالم المدينة، ويقع على نهر الأور، ويمر الزائر للمكان برحلة لمشاهدة المدينة كلها من علوّ شاهق، حيث يصعد بواسطة التلفريك ويشاهد الجبال المحيطة والسهول، كما يمكنه أن يرى من أعلى البرج ديانا كنيسة ماريا المجدلية العتيقة بكل تماثيلها وبنيانها وعمارتها التي تشبه القصور الإمبراطورية القديمة، والتي تقام فيها الشعائر والطقوس الدينية حتى الآن. وهناك قلعة لوكيت التاريخية والتي شُيّدت في القرن الثالث عشر على شكل بناء ضخم مربع الشكل، له إطلالة مميزة على مدينة لوكيت، وتحاط القلعة بمساحات خضراء تبعث في النفس الهدوء والراحة. أما ساحة القلعة فتضم متحفاً به عديد من الآثار والقطع التاريخية، وتوجد أسفل الساحة كنيسة القديس فاتسلاف.

الكتابة عن كارلوفي فاري تتسم بالرؤية الصوفية الناتجة عن حالة العشق، فتبدو الكتابة وكأنها قصائد عرفانية، تتآزر فيها مشاهد العظمة الدالة على جلال الخالق

تعتبر كارلوفي فاري واحدة من أهم مدن صناعة الزجاج في شرق أوروبا، حيث تشتهر المدينة بوجود مصنع موسر للزجاج الذي الذي أنشئ عام 1857، ويقوم على صناعة التحف الزجاجية بأيدي العمالة الماهرة أمام السيّاح والزّوار الأوروبيين الذين يقبلون على زيارة المتحف ومشاهدة مراحل التصنيع، أما السائحون العرب الذين يزورون المدينة فيهتمون أكثر بأماكن الترفيه والمطاعم ومتاجر العطور والملابس.

جديلة فنية جديرة بالتأمل

في كتاب "السفر قصة عاطفية" يتجلى أفق العشق لتجربة السفر باعتباره أفقاً صوفياً مفعماً بالوجد، في مكاشفة مفردات (المكان) باعتبارها تجليات لـلخالق وتستحيل هذه الثنائية (المكان-الخالق) إلى جديلة فنية جديرة بالتأمل في سعي الذات نحو الاكتشاف أو المعرفة الحقة، وهو ما عبّر عنه فلاسفة الصوفية بنزوع الروح للبحث فيما وراء العوالم المادية. ويتضح هذا من قدر التأمل للمكان/كارلوفي فاري، والتركيز على الجليل والجميل، أي ما هو جميل بالفطرة، وماهو جميل بصنع الإنسان.. أي الجبال ونثار الثلج والأنهار والمراعي والمروج من جهة، والعمارة والجسور والميادين من جهة أخرى.

الكتابة عن كارلوفي فاري تبعث على العشق، وليست كل المدن كذلك، فما جاء في الكتاب عن مدينتي كارلوفي فاري، ومارينسكي لازني، يختلف تماماً عمّا جاء عن المدن الأخرى، فالمكان في المدينتين التشيكيتين يبعث على الحب والطمأنينة والصفاء، ويشهد على عظمة الخالق، وعبّر الكاتب عمّا يحمله المكان من بهاء المشهد، وجمال الطبيعة، وتموسق الأشياء، وصفاء الروح، فيقول على سبيل المثال: "في كارلوفي فاري التي تسكب موسيقاها في عمق روحي، أتصالح مع الواقع من حولي، وأتفهم ما يجرى في قرارة نفسي، وأعلو عن كل رغبة لا تتفق مع حاجات الروح في تطابقها مع كل جميل إلهي".

ذوق الكاتب يعكس إحساسه بالمكان

إنه قوس الصعود على درجات الفن والعشق والحكمة، بحسب المبادئ الأفلاطونية، والسمو فوق النفس أمام جلال المكان وعظمة الخالق، فتبدو مفردات الجمال الفطري، من تلال، وهضاب، وجبال، وغابات، وأنهار، ونثار ثلج، في صباحات المدن، وتتداخل هذه المفردات والصور المتآزرة مع منجزات الإنسان الحضارية من معمار هندسي وتشييد وفنون، إلخ، بما يدعو للتأمل أو المراقبة. وربما يرجع اختلاف الكتابة من مكان إلى آخر تبعاً لإحساس الكاتب وذوقه، فذوق الكاتب أو الرحالة هو ما يعكس إحساسه بمكان دون آخر، فقد كان السهروردي يعتبر "الذوق" هو وسيلة المعرفة.

هذا الإحساس بالمكان هو ما جعل الكتابة عن كارلوفي فاري تتسم بالرؤية الصوفية الناتجة عن حالة العشق، وأن تبدو الكتابة وكأنها قصائد عرفانية، تتآزر فيها مشاهد العظمة الدالة على جلال الخالق. أنظر إلى نهر تيبلا لايزال يجري مخترقاً الوادي والتلال والغابات في كارلوفي فاري من زمن، وأكلم نفسي: هذا شاهد على جمال المنظر الطبيعي الذي أبدعته يد الله، وحافظت عليه أيدي الجماعة التشيكية، وأضافت إليه من روحها المتآلفة والمتوافقة كتآلف وتوافق نسيج موسيقي متعدد الألحان والنغمات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard