يردد العشرات من الممثلين العرب مقولة "التمثيل أصعب مهنة في العالم" بثقة وبديهية في اللقاءات الصحافية والتلفزيونية، لدرجة أصبحت معها الجملة أقرب إلى "كليشية" إلزامي تكاد لا تخلو منه مقابلة، أو ينقص من حوار، ربما هو فعل النقل والاستنساخ الذي يحوّل أية جملة لافتة، أو أي دور ينجح لمرة إلى حالة مكرورة في الأفلام والمسلسلات، وقد يكون دليلاً على الإفلاس الفني الذي يحتاج أصحابه وصاحباته إلى ترديد مقولات تضفي صفة الأهمية على الذات والمهنة.
في لقاء مع الممثل المصري أحمد زاهر يقول: "إحنا بندمر نفسيتنا بالتمثيل لأن المشاعر بتموت، فممكن تموتي من الزعل، وتضطري تعيّشي نفسك في مشاعر معينة 13 أو 14 مشهد، فالجهاز العصبي عندنا بيتدمر، والناس فاكرة إننا بنهزر ورايحين نشرب شاي وقهوة وخلاص، لكن إحنا في أخطر شغلانة ممكن تدمر أي بني آدم، لأننا بنبهدل مشاعرنا وأحاسيسنا".
ويضيف: "بنصور بالـ26 ساعة متواصلة، مش 3 ساعات، وبنصور في عز التلج وإحنا لابسين صيفي والعكس. هاتيلي دكتور أو مهندس أو قاضي أو أي مهنة يقدروا يشتغلوا على رجلهم كل الساعات ده؟ أنا آسف محدش يقدر لأن شغلتنا أصعب مهنة في التاريخ".
هنالك معطيات لا بد من إثارتها والتوقف عندها لدى محاولة فهم هذه القناعة السائدة في الوسط الفني بين الممثلين والممثلات، بعضها يتعلق بنظرة الممثل لنفسه، وبعضها يتعلق بما يعتقد أنها نظرة المشاهدين له، وبعضها يتعلق بنظرته للعمل كقيمة عليا.
إصرار على تضخيم الذات، أم انفصال عن الواقع؟
الحديث عن التقمص والإجهاد النفسي والعصبي وخلافه، مسألة يمكن تفهمها من ممثل بوزن "دانيال دي لويس" المشهور بالتحضير والتقمص والأداء الاستثنائي. لكن هل يمكن تقبل هذا الحديث فعلاً من أي ممثل والتغاضي عن نوعية فنه؟
يردد العشرات من الممثلين مقولة "التمثيل أصعب مهنة في العالم" بثقة وبديهية في اللقاءات الصحفية والتلفزيونية، لدرجة أصبحت معها الجملة أقرب إلى "كليشية" إلزامي، فهل هي فعلاً المهنة الأصعب في التاريخ؟
هل يدرك الممثل الذي يردد هذه الجملة، متوسط عدد ساعات العمل يومياً لعمال المطاعم والمصانع والديلفري والمهن المرهقة كالزراعة والمناجم؟ ماذا عن متوسط عدد ساعات عمل الأطباء؟ كفئة لا يسمح لها بالخطأ أو التقصير أو "إعادة المحاولة" أياً كانت ضغوط العمل؟ وهذه في المجمل مقارنات بين وظائف لا تحقق الدخل الذي يحققه التمثيل، ولا تتمتع بالامتيازات الإضافية كالشهرة. بصياغة أخرى لا تملك هذه الوظائف نفس المُغريات غير المادية التي تقدمها مهنة التمثيل لأصحابها إلى جانب الدخل المادي.
من أساسيات أي عمل أن يكون الشخص مدركاً ومتفهماً لواقع مجتمعه، فهذه نقطة ميلاد همومه وقضاياه واهتماماته من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تفهمه لعقلية المتلقي ضرورية لرفع معايير الأداء، وتزداد هذه النقطة أهمية في عمل الممثل، لأنه يستلهم أداءه من البشر والشخصيات من حوله، ويحتاج لقراءة واعية لسلوكياتهم وأفعالهم وطباعهم وأدق تفاصيل حياتهم.
السائد لدينا هو العكس، مع وسط فني يعيش في قوقعته الخاصة، نلاحظ مثلاً شكاوى غير مألوفة من فنانات يتحدثن عن نقص الملابس و"الماركات" الفرنسية والألمانية من الأسواق المصرية، على اعتبار هذا النقص أحد أشكال المعاناة الاقتصادية، مع تجاهلهن لأشكال المعاناة الأخرى من حولهن في المجتمع المصري، وتحديداً المعاناة النسائية الاقتصادية.
"اللّي على راسُه بطحة يحسّس عليها"
المثل السابق ينطبق على من ينزع من الممثلين والممثلات إلى إنكار المستوى الرديء من أعماله، واختلاق أساطير وأوهام عن الاجتهاد والإتقان والتفاني في العمل.
الوسط الفني يعيش في قوقعته الخاصة، هنالك فنانات يتحدثن عن نقص"الماركات" الفرنسية والألمانية كأحد أشكال المعاناة الاقتصادية، مع تجاهل لكل أشكال المعاناة الأخرى من حولهن
تزداد هذه المشكلة بسبب العيوب المتوارثة في الوسط الفني، على رأسها أن دائرة الفرص مغلقة جداً، ولا تعتمد على الموهبة والإبداع بقدر ما تعتمد على القرابة والعلاقات والمصالح والشللية.
وعندما نضيف للثنائية السابقة تقلص دوائر الإنتاج وانكماشها، والخضوع لأذرع الحكومات في الإنتاج -رغم تعدد الأسماء والكيانات- سيزداد المشهد عبثية وتقل الفرص أكثر وأكثر.
ليست صدفة أن كثيراً من المروجين لأسطورة "التمثيل هو أصعب مهنة في العالم" هم الأكثر حرصاً على توريث المهنة لزوجاتهم وبناتهم وأولادهم من ذوي المواهب الصفرية، بعد أن تضاف إليها مقولة "رفضت عمل بناتي وأولادي في التمثيل أكثر من مرة، واضطررت لقبول ذلك مرغما".
إلى أي حد يمكن التصالح مع منظومة الإهمال؟
الفخر بطول أوقات التصوير المتواصلة وغير الإنسانية، واعتبار ذلك من ثوابت المهنة وبرهان للكفاح فيها، يدفعنا للتساؤل: ما وجه الاستفادة أصلاً من حالة الإرهاق البدني والذهني للممثلين، وما أثرها على إنتاج علاقة عكسية مع الجودة الفنية؟
لعل هذه المعادلة تندرج أكثر تحت بند التعذيب بالنسبة للتقنيين والمخرج، لأن عملهم متواصل في كل المشاهد على عكس الممثل الذي ينتهي من مشهده ويغادر، المنتج هو بالأساس من يستفيد من الضغط الشديد في العمل وتقليل أيام التصوير، لأن هذا يعني بلغة الأرقام التي تهمه تقليل كلفة الانتاج.
أما البقية وأولهم المشاهد فهم من يخسرون نتيجة هذه المنظومة والتطبيع معها والفخر بها، بينما يُتهم من يرفضها من الفنانين لأسباب تتعلق بحرصه على الإتقان، بتهمة ملفقة ملخصها أنه كسول.
هل يَعرف الممثل الذي يردّد مقولة "التمثيل أصعب مهنة في العالم" عن ساعات العمل في المصانع والمطاعم والزراعة والمناجم، ماذا عن عمل الأطباء؟
يمكن أن يُمد خط التصالح مع الرداءة لدى الممثلين والممثلات إلى نقاط أخرى غير منطقية، أصبحت بمرور الوقت عادية وغير مُدانة، مثل التعاقد على أعمال وبدء تصويرها قبل انتهاء المؤلفين من كتابتها. وبالطبع، فالكل يرى أنه ضحية في هذه المنظومة، رغم أن موافقة ومشاركة أي طرف فيها مرة بعد مرة، تجعله ضمن المتواطئين والمساهمين في استمراريتها واستدامتها.
عجلة الإنتاج تدور وتدور
يبقى السؤال: هل يمكن أن تشهد منظومة الإنتاج الفني تغيراً ملموساً؟ الإجابة المنطقية هى لا، لأن الجودة المتدنية والشكوى المستمرة، لا تتعارضان للأسف مع عجلة صناعة المسلسلات ومعدلات متابعتها، فما دمنا كمتفرجين نشاهد ونتفرج على هذه المسلسلات بشكل دوري ونستهلكها، فالمنظومة ناجحة اقتصادياً.
ما دامت الجهات التي تمول إنتاج هذه الصناعة قد باعت منتجها، وسوّقت لنا إعلاناتها وسط المسلسل، وما دام النجوم قد تلقّوا أجورهم، فيمكن القول إن الكل قد ربح باستثناء المشاهدين
وما دامت الجهات والقنوات التي تموّل هذه الصناعة قد باعت منتجها، وسوّقت لنا إعلاناتها وسط المسلسل، وما دام النجوم قد تلقوا أجورهم، فيمكن القول إن الكل قد ربح باستثناء المشاهدين، فالمتفرج سيظل يشكو ويشكو، ثم سيجلس من جديد باحثاً بالـ"ريموت" عن وهم اسمه "مسلسل متقن".
المعطيات الرديئة تؤدي دوماً إلى نتائج رديئة، ومعهما تأتي الحاجة إلى أسطرة أنيقة وأوهام لتغليف الرداءة من نوعية "إحنا بنتعب أوي، والتمثيل هو أصعب مهنة في العالم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.