"إغت إيسكر أوسوقي تفولكي، إنغل أغو" (إذا فعل عبد أسود البشرة شيئاً جميلاً، دفق الحليب).
"أسوقي إ تسوقيت، أڭرّامْ إ تڭرّامْتْ" (الأسود للسوداء والأبيض الشريف للبيضاء الشريفة).
بهذه العبارات الصادمة يُوصَفُ سكان الجنوب الشرقي في المغرب من ذوي البشرة السوداء. فدائماً ما تُقرن أفعالهم بالسوء والغباء، وتنسَب إلى البيض المهارة والفطنة والحكمة، بالرغم من تشارك الفئتين المجال الجغرافي نفسه والعادات والتقاليد عينها، إلّا أن الصراع والتوتر، وقد يكونان أحياناً حصريين، هما ما يطبع علاقتهم.
على إيقاع هذه العبارات اليومية العنصرية يعيش سكان الجنوب الشرقي حياتهم، بالرغم من أن الكثير من المغاربة ينكرون الأمر، ويؤكدون أنهم قطعوا مع العنصرية على أساس اللون منذ مدّة، وأنّ ما يطفو فوق السطح منها يخص السود المنحدرين من دول جنوب الصحراء، وليس السود المغاربة.
إيقبلين وإيمازيغن... توتّر يتغذى على العنصرية
يصعب على المغاربة القطع مع هذه "العنصرية البنيانية"، كما يصفها السوسيولوجي المغربي عبد الصمد الديالمي، ويشرح في مقاله "العنصرية ضد السود في المغرب"، أن أغلبية المغاربة لا يعون استمرارهم في السلوك العنصري، وإن على مستوى المزاح والنكتة، إذ أصبح من غير اللائق أن يتبنّى مغربي أبيض البشرة استبعاد مغربي أسود، فأصبحت العنصرية تعبر عن نفسها من خلال التهكم والتنكيت، وهو تعبير مسموح به اجتماعياً.
في المقابل، يؤكد هشام بوبا، الباحث في سوسيولوجيا الشباب، أن العنصرية في الجنوب الشرقي متعددة الاتجاهات، وليست حكراً على ذوي البشرة السوداء فقط، كون المنطقة تتميز بتعدد إثني، وندرة الموارد وقساوة المناخ والتضاريس، وتالياً فإن هذه العناصر أفرزت تاريخاً من الصراعات المادية والثقافية التي لا تزال حاضرةً في منظومة القيم المحلية لقبائل وقصور (قرى محصنة) الجنوب الشرقي.
أغلبية المغاربة لا يعون استمرارهم في السلوك العنصري، وإن على مستوى المزاح والنكتة، إذ أصبح من غير اللائق أن يتبنّى مغربي أبيض البشرة استبعاد مغربي أسود
رأى الباحث ذاته أن العلاقة بين إمازيغن (أصحاب البشرة البيضاء)، وإقبلين (أصحاب البشرة السوداء)، يميّزها التعايش والتنافر في الآن ذاته، لأن بعض قبائل وقصور المنطقة تنضوي تحت المشيخة الواحدة نفسها المكونة من إمازيغن وإقبلين، وأحياناً قد يمثل أحد العنصرين القبيلة، فضلاً عن التبادل التجاري بين الطرفين، مستدركاً أن الزواج يُحْظر بين الطرفين بشكل قاطع.
إذاً، "إقبلين" من سود البشرة، حسب هشام بوبا، ويُنظر إليهم كعبيد استُقدموا من إفريقيا عبر سجلماسة، فتم تحريرهم وصاروا "حراطين" (عمال أرض)، يشتغلون في إطار نظام "الخماسة" لدى عائلات إمازيغن في القصور، مؤكداً أن النظرة التمييزية مزدوجة، فهناك المتعلقة بلون البشرة، والأخرى المرتبطة بالوضع السوسيو-اقتصادي.
"لا شيء يؤكد أن إقبلين هم كلياً عبيد تم تحريرهم في حقبة من الحقب، لأنهم يمثلون الأغلبية في المنطقة، بل يمثّلون جماعات اجتماعيةً قائمةً بذاتها"
وفق هشام بوبا، فإن إقبلين يختلفون عن إمازيغن لكونهم أولاً سوداً، وينتمون إلى عرق مخالف يعكس خصائص سلوكية (الصبر، والقدرة على التحمل والكد...)، مستشهداً أنه في بعض مناطق الجنوب الشرقي يُعتقد، في صورة نمطية، أن هناك عظماً زائداً لدى إقبلين، وهذا ما يبرر قابليتهم للأعمال الشاقة.
يوضح أنه "لا أحد يستطيع أن ينكر أن عائلات كثيرةً من إقبلين كانت تشتغل إلى عقود قريبة في إطار نظام تاخماست لدى عائلات"، وهو نظام يمنح العامل في الأرض خُمس حصادها مقابل عنايته بالزراعة والحصاد، لكنه "لا شيء يؤكد أن إقبلين هم كلياً عبيد تم تحريرهم في حقبة من الحقب، لأنهم يمثلون الأغلبية في المنطقة، بل يمثّلون جماعات اجتماعيةً قائمةً بذاتها".
يشير الباحث السوسيولوجي، إلى أن ثمة من الباحثين من رجّحوا أن السود هم أول من عمّر المنطقة، وأن هذه التراتبيات الاجتماعية ظلت موشومةً في الذاكرة الجماعية، ومترجمةً إلى الانطواء الإثني بين الجماعات المشكلة لهذه الفسيفساء الجنوبية الفريدة.
واقعة شكسبيرية... إن تزوّج أسود من بيضاء
لعل ما يجسّد العنصرية على أساس اللون في مناطق الجنوب الشرقي المغربي، هو حظر التزاوج بين ذوي البشرة السوداء وذوي البشرة البيضاء، إلى حدود حقبتنا هذه، فلا يمكن لعاشق أبيض البشرة أن يحلم بالارتباط بعشيقة سوداء البشرة، ما دام العرف يمنع الاختلاط بينهما.
في هذا الصدد، يرى الباحث بوبا، أن الزواج في الجنوب الشرقي في الغالب زواج داخلي، ترجح فيه علاقات القرابة والإثنية والقبيلة والمجال، وأنه بالرغم من بعض التحوّلات الحاصلة في المنطقة، إلاّ أنه لا يزال هناك تحفّظ ثقافي واسع لدى بعض الجماعات على الأمر.
ويؤكد أن شباب المنطقة يشتكون من استحالة الاختلاط اللوني، لأن واقع الزواج في الجنوب الشرقي مشروع اجتماعي أكثر منه خيار فردي، إذ إن اختيار الشريك إذا لم يكن مفروضاً من العائلة فهو على الأقل يفرض على صاحب الخيار تزكيةً عائليةً، ويضيف: "لا تتم هذه التزكية إلّا بعد بحث متأنٍّ عن أصول وجذور العائلة المراد المصاهرة معها، بل إنه في كثير من الأحيان تُعطى الأهمية لسؤال النّسب في أثناء التقدم لخطبة امرأة أكثر من سؤال الممتلكات".
في حال حدث واختار الشاب أو الشابة شريكاً خارج إطار الثقافة المسموح بها اجتماعياً، حسب الباحث، فعليه أن يستعد لخوض صراع لينتزع به اعتراف ذويه وإنْ على مضض. وإن لم يفلح في ذلك، فما عليه إلا أن يختار بين الأَمَرّين: أن يضحي بذويه أو بشريكه.
إذا ضربنا داخل هذا السياق مثل شابٍّ ذي بشرة بيضاء وشابة ذات بشرة سوداء، أو شابٍّ من قبيلة أيت عطا وشابة من أيت تدغت، ارتبطا ببعضها في علاقة حب، حينئذ يمكننا أن نتخيل مدى "شكسبيرية الواقعة"، حسب هشام بوبا.
هل أنت عبد حرطاني؟
هذه العنصرية لا يقف عندها الباحثون في العلوم الاجتماعية من أبناء المنطقة، بل يعيشها شباب المنطقة خصوصاً السود بشكل متكرر في تعاملاتهم اليومية مع بقية أفراد القبيلة والمداشر.
ضمن هؤلاء الشباب نجد الفاعل الجمعوي محمد هروان، الذي لخّص استمرار العنصرية اللونية بهذه المناطق، في ما عدّه طرفةً حدثت معه مؤخراً: "سألني شخص أبيض عجوز: هل أنت حرطاني؟ أي هل أنت عبد؟ أجبته ضاحكاً: نعم أنا كذلك"، متسائلاً هل من العيب أن تكون أسود البشرة.
"سألني شخص أبيض عجوز: هل أنت حرطاني؟ أي هل أنت عبد؟ أجبته ضاحكاً: نعم أنا كذلك"
العنصرية حسب محمد هروان، في منطقة تنجداد، لا تطال تعاملاتهم اليومية مع البيض فقط، بل تتعداها إلى المناسبات والأفراح، إذ يحرص السود على الاجتماع وحدهم والبيض كذلك، كما هو الأمر في قصور تغفرت والخربات وكردميت وإزيلف وغيرها من القصور.
يخشى سكان تاديغوست التابعة لإقليم الراشيدية، التخلص من العنصرية اللونية الموجهة تجاه سود البشرة في المنطقة، حسب الإعلامي مصطفى قرشال، الذي عدّ ذلك بمثابة موروث لدى قبائل الجنوب الشرقي التي تضم ساكنةً مختلطةً.
لفت الإعلامي ذاته إلى أن الشباب من ذوي البشرة السوداء يتمتعون بانجذاب واعجاب من قبل الفتيات ذوات البشرة البيضاء، حتى وإن كان الأمر مرفوضاً في القبيلة، إلا أن أغلبية الفتيات يفضلن السّود على البيض. نستحضر هنا قول السوسيولوجي عبد الصمد الديالمي، إن "تفوق السود جنسيّاً ضمن العوامل التي تفسر امتناع البيض عن إعطاء نسائهم للسود خوفاً من الظهور أقل فحولةً"، ما يعني أن السود بحسب النظرة النمطية للبيض متفوقون جنسياً وجسدياً، وهذا الأمر يشكل لديهم عقدة نقص، وتالياً الامتناع عن الاختلاط والتزاوج في ما بينهم.
حضور محتشم لسود البشرة في الإعلام
ينتقل تهميش وإقصاء المغاربة السود من الحفلات والأفراح والعلاقات الاجتماعية إلى الإعلام في المغرب، إذ يلاحظ أن موجودهم في القنوات التلفزيونية يكون منعدماً، إلا في بعض الحالات، كما هو الأمر مع الإعلامي من ذوي البشرة السوداء مصطفى قرشال، العامل في القناة الأمازيغية والصحافي الرياضي عادل لوتيتي، في القناة الثانية.
تجربة مصطفى قرشال في تنشيط برنامج ترفيهي يُبث على القناة الأمازيغية تُعزى إلى كفاءته، وينفي وجود عنصرية تجاهه من طرف العاملين في المجال، كما يؤكد على أن التمييز العنصري تجاه السود في الأوساط المتعلمة والمثقفة نادر جداً.
إذا أجب رجل "أسود" امرأة "بيضاء" في المغرب الشرقي فقد تتحول هذه القصة بدل الخاتمة السعيدة إلى "مأساة شكسبيرية"
يصرّ مصطفى على أن إشراك سود البشرة في الإعلام الرسمي وغير الرسمي، هو السبيل للقضاء على العنصرية المتجذرة في قبائل الجنوب الشرقي خصوصاً، والمغرب عموماً، فضلاً عن التخلي عن الأدوار النمطية اللصيقة بهؤلاء، والمرتبطة دائماً بالسّحر والخدم والفقر والجريمة في السينما والدراما التلفزيونية.
في المقابل، يحاول محمد هروان إلى جانب مهنة التدريس، محاربة كل الأشكال العنصرية في منطقة تنجداد، من خلال الأعمال الجمعوية، التي يحرص فيها على إشراك الكل بعيداً عن الحساسيات العرقية والإثنية في المنطقة، لنبذ كل رواسب العنصرية والتمييز التي تلاحق سود البشرة، والتشجيع على الحوار والاختلاط في ما بين السود والبيض هناك.
ويخلص الباحث هشام بوبا، إلى أن التمييز العرقي ما هو إلا أسطورة اجتماعية وثقافية ورثناها عن الأجيال السابقة، كانت لها وظيفة اجتماعية (الغرض منها حماية الجماعة وتحصينها رمزياً ومادياً من التهديدات الخارجية)، لذا ينبغي أن تنتهي مع انتهاء وظيفتها.
لتحقق هذا لا بد من مجهود كبير تتعاضد فيه المؤسسات والأفراد بدءاً من التعليم الذي عليه أن يراعي مسألة الحقوق الثقافية، ويعرّف النشء على تجارب العالم في إرساء الحقوق، وخصوصاً تلك المتعلقة بحقوق الأقليات والتعدد الثقافي. وكذلك على النظام التعليمي ألا ينسى وظيفته الأساسية التي هي التثقيف والمثاقفة، وفق المتحدث نفسه.
ويضيف: نحتاج أيضاً إلى مجهود مدني يقود حملات ودورات ويعبئ فاعلين متعددي الخلفيات من أجل القطع مع الخطابات والممارسات العنصرية التي تنزع إلى إقصاء المواطن أو نبذه، كما أن على مثقفينا أن يعيدوا تحيين أسئلتهم بناءً على الوضع الراهن، وأن يلتفتوا بشيء من الاهتمام إلى أطروحة الاعتراف الثقافي، وفق التوجه الفلسفي المعاصر الذي يُعدّ الفيلسوف الألماني أكسيل هونيت، واضع أسسه الأولى، وهو التوجه الذي بات يشكل الشغل الشاغل في العلوم الاجتماعية على صعيد العالم منذ منتصف التسعينيات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...