ينتمي شريط الكاسيت كأداة لتسجيل الصوت ونقله وتبادله إلى حقل الدراسات الثقافيّة بوصفه غرضاً "يحمل" الفن ويساهم في بثِّه وانتشاره. في ذات الوقت ينتمي إلى ما يسمى "أنثروبولوجيا الأغراض المبتذلة"، ذاك القطاع الذي يدرس الأغراضَ اليومية واستخدامها الإنساني، والتغيرات التي تطرأ عليها مع مرور الزمن والتطور التكنلوجي.
الكاسيت من هذه الأغراض التي قضى عليها الـCD حين انتشر بشكل شعبي، ثم تلاشى مع انتشار منصات البث الرقميّة، إذ لم يعد "شريط المنوعات" أو "الموسيقى الرائجة" هو الذي يتحكم بالذوق العام أو شهرة فنان على حساب آخر.
أرشيف الشرائط السوريّة
نستكشف في "أرشيف الشرائط السوريّة" الكاسيت بوصفه غرضاً نوستالجياً وحاملاً لذاكرة ومعارف زمن قد يبدو بعيداً، في ذات الوقت شاهداً على مرحلة وطبقةٍ فنيّة هُمّشت وأهملت للكثير من الأسباب التي سنشير إليها لاحقاً.
ما إن ندخل الموقع حتى نفاجأ، نحن أمام أغراض اختفت من عالمنا منذ سنوات؛ الكاسيتات الشعبية التي كانت منتشرة في أنحاء سوريا لمن نعرفهم ولا نعرفهم موجودة في مكان واحد، ومعروضة كأنها على "واجهة" محل، بل ويمكن الاستماع إليها، فمحروس الشغري، وحاتم العراقي، وراكان صبحي، في مكان واحد. ناهيك أن أغلفة الكاسيتات تحيلنا إلى زمن لم يعد موجوداً، حيث الصورة ذات معنى وقيمة فردية، ليس كما الآن، حيث يمكن التقاط آلاف الصور بثوانٍ. فضلاً عن أن أزياء المغنين والمؤثرات البصرية على الغلاف تأخذنا إلى زمن ما قبل "الستريمنغ"، حيث لم تكن "كل" الموسيقى متوافرة بين أيدينا بلمسة على الشاشة.
انطلاق المشروع
انطلق المشروع عام 2018 على يد مارك جرجس، الموسيقي والمنتج والمؤرشف والباحث في شؤون موسيقى الشرق الأوسط، بالتعاون مع الموسيقي السوري يامن مقداد.
ونقرأ في لقاء جرجس أنه زار سوريا بشكل متقطع بين عامي 1997 و2010، وبدأ بجمع الأشرطة، مُراهناً على فضوله الشخصي، ومتواصلاً مع الموسيقيين والباعة، للحصول على أكبر عدد ممكن من الأشرطة، إلى جانب جمعِه لما أرسله المساهمون والمتعاونزن معه في مشروع الأرشيف، ليجد نفسه أمام ما يقارب 400 شريط، تنتمي إلى فترة تمتد من السبعينيات حتى عام 2010.
عمل جرجس مع فريق من المؤمنين بالمشروع على أرشفة هذه الأشرطة وتنسيقها وتحميلها بصورة رقميّة، وإطلاق منصة "أرشيف الكاسيت السوري" هذا العام.
نستكشف في "أرشيف الشرائط السوريّة" الكاسيت بوصفه غرضاً نوستالجياً وحاملاً لذاكرة ومعارف زمنٍ قد يبدو بعيداً، في ذات الوقت شاهداً على مرحلة وطبقةٍ فنيّة هُمّشت وأهملت للكثير من الأسباب
يتخفف جرجس العراقي-الأمريكي في حديثه عن المشروع في اللقاءات معه من الرصانة الأكاديمية، ويحكي عن بحثه عن الموسيقى من وجهة نظر ذاك الذي يحاول التقاط جذوره العربية، مستمعاً حين وصل إلى دمشق ببسطات الكاسيتات، وانبعاث الموسيقى من مختلف المساحات العامة من باصات، وأكشاك، وبسطات، إلخ".
ويشير إلى سوء السمعة التي تواجهه هذه الموسيقى الشعبية والمحلية بين أوساط الأكاديميين وسكان المدن كدمشق. وهنا نقرأ تفسير وجهة النظر هذه على لسان يامن مقداد في لقاء أجري معه، إذ يقول: "هناك (تصوّر) أنّ دمشق وحلب هما أفضل الأماكن، وأنّ كلّ شيء خارجهما متخلف. وهذا ينطبق أيضاً على الموسيقى. من الشائع أن ينظر الناس في دمشق وحلب إلى مثل هذه الموسيقى باستخفاف، لكن في أجزاء أخرى من سوريا يحتفل الناس بثقافاتهم المحليّة، وكذلك الثقافة السائدة".
لا يمكن إنكار الجهود المبذولة في جمع وعرض أرشيف الكاسيت السوري. "كنز" مثل هذا يفتح الباب أمام المخيلة، إذ بالإمكان دراسة الأزياء ونظام الموضة عبر أغلفة الكاسيتات، وأساليب الترويج والإعلان عن الموسيقى وغيرها، مما يلبي رغبتنا باكتشاف الماضي وتغيراته عبر أغراضه "المبتذلة"
هذا الحرص والود والابتعاد عن رصانة الأرشيف الأكاديمي هو ما يميز تجربة الكاسيت السوري؛ إذ يمكن الاستماع لكل ما هو موجود كما لو كنا أمام إذاعة أو نستمع إلى شريط ضمن Walkman، أي دون صيغة "التراكس-Tracks"، حيث يجب أن نسمع الشريط، ونحرك المؤشر لمعرفة بداية كل أغنية من نهايتها، دون القدرة على اختيار الأغنية التي نريد مباشرةً. وهذا بالضبط ما افتُقد حالياً. الشريط كتلة موسيقية، تقطيعها يخضع لذوق من أنتجه أو جمعه، بينما اليوم الذوق الشخصي هو المهيمن، وقد تلاشت هذه العلاقة بين جامع الموسيقى والمستمعين، فالكل قادر على خلق قائمته المفضلة (Play list)، ومشاركتها مع من يريد.
محتوى خاص
لا يكتفي الأرشيف بالجمع والاستعراض، إذ يقدم "محتوى خاصاً" يحاول الإضاءة على تجارب الكثير من الذين هُمّشوا، وبقيت أسماؤهم محصورة في الكاسيتات المحليّة. إذ أجرى يامن مقداد لقاءً طويلاً ومعمقاً مع أحمد القسيم، المغني الحوراني الذي بدأ بتسجيل أشرطته الخاصة منذ عام 1998.
ونتعرف أثناء القراءة على ما يشبه سيرةً للقسيم، وعلاقته مع الموسيقى، والتغيرات السياسية، والتكنلوجيا التي شهدها، ثم الثورة في سوريا ،وأثرها على الموسيقى الشعبية. فأرشيف الكاسيت السوري حيوي يتجاوز مهمةَ الجمع والأرشفة والاستعراض، إذ يبحث في أسماء أولئك المنسيين، الذين نميز أصوات بعضهم دون أن نعرف أسماءَهم.
أهمية الكاسيت كوسيط موسيقي تكمن في قدرته على فتح الباب أمام فئة من المغنين الذي بقوا لفترة طويلة أسرى الأعراس والمناسبات الاحتفالية المحلية، فحسب مقداد إن دخول الكاسيت إلى سوريا في السبعينيات كان فرصة للكثير من الموسيقيين الذين قاموا بتسجيل أغانيهم بأنفسهم، واغتنموا الفرصة لنشرها، وتوزيعها في سوريا والدول المجاورة.
وهنا يظهر ما يميز الأرشيف؛ فحين نختار أي كاسيت، هناك معلومات إضافية (بعيداً عن عام التسجيل، ومكانه، إلخ) تحكي لنا تاريخه، وأهميته، وطبيعة الأغاني فيه؛ كأن نقرأ في وصف شريط منوعات التالي:
يقدم الأرشيف "محتوى خاصاً" يحاول الإضاءة على تجارب الذين هُمشوا وبقيت أسماؤهم محصورة في الكاسيتات المحليّة
"شريط تجميعي لأغنيات مختارة من تسجيلات الملك. ما من ثيمة حقيقية تجمع الأغنيات التي نجدها هنا، فهناك موسيقى بوب شهيرة لمغنين مصريين وآخرين من لبنان. ولكن المميز في الوجهين هي الأغنيات الأقل شهرة للمطربين السوريين نهاد نجار ونور مهنا". أو وصف كاسيت "شيلي" لـهناء سلوم، ووصفها بـ"مطربة شعبية من سهل الغاب في محافظة حماه. بدأت تغني في الحفلات في بداية التسعينيات مقدمةً أغنيات ومواويل من الفلكلور. في العام 1993 أصدرت أغنية خاصة بها (يا أهل الشفر دوسوا)، وهي الأغنية الضاربة الوحيدة في مسيرتها، والتي يتذكرها جيل التسعينيات بوضوح. استمر نشاط هناء سلوم بالغناء في الأعراس ضمن نطاق متواضع في الساحل السوري وحماه حتى السنوات الماضية".
لا يمكن إنكار الجهود المبذولة في جمع وعرض أرشيف الكاسيت السوري، بل إن "كنزاً" مثل هذا يفتح الباب أمام المخيلة. فبالإمكان دراسة الأزياء ونظام الموضة عبر أغلفة الكاسيتات، وأساليب الترويج والإعلان عن الموسيقى.
ومثل هذه الأبحاث تلبي رغبة اكتشاف الماضي وتغيراته عبر أغراضه "المبتذلة"، تلك التي أتاح لنا أرشيف الكاسيت السوري النظر بها، خصوصاً أن الحصول على المواد الأرشيفية لمثل هذا النوع من الأبحاث "النوعيّة" شديدُ الصعوبة في الشأن السوري، بسبب الشتات، وعدم القدرة على الوصول إلى داخل سوريا، إلى جانب ضياع الكثير من الأرشيفات، وإن وُجدتْ فهي إما ممنوعة، أو ضمن مجموعات خاصة لم تخرج إلى النور بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.