أكتب لك وأفكر ماذا تفعل الآن في القبر؟ لا أعتقد أنك تحب الأماكن الضيقة. لم نناقش هذه الفكرة، لأننا لم نعتقد أننا سنحتاج إلى ذلك.
أنت في الثامنة والعشرين الآن. اكتسبت القليل من الوزن، وهذا يُناسبك جداً! شعرك كما هو، وضحكتك كما هي، غير أنك بكرمٍ ووسامة أضفت إليها شاربين خفيفين ولحيةً متواضعةً لا تكترث بتهذيبها. لا تستخدم مثبتات الشعر وتميل إلى الملابس الرياضية. أتخيلك بمشاهد كثيرة، ودائماً ترتدي ملابس رياضيةً. أنا آسفة إن كنت ترغب في ملابس أخرى. أريد أن أستخدم "إيموجي" أرفع فيه كتفي للدلالة على قلة الحيلة، ولكنك لا تعرف هذا "الإيموجي". لم يفُتك الكثير من هذا العالم، ولكن عالم "الإيموجيز" اتسع قليلاً.
صحيح أصبحت لديّ طفلة... مبروك أنت خالٌ من جديد!
أتخيلك بمشاهد كثيرة، ودائماً ترتدي ملابس رياضيةً. أنا آسفة إن كنت ترغب في ملابس أخرى. أريد أن أستخدم "إيموجي" أرفع فيه كتفي للدلالة على قلة الحيلة، ولكنك لا تعرف هذا "الإيموجي"
أتخيل أنك ستعود من الموت، هنالك "ربما" تلتصق بي أينما ذهبت. ربما أنت هنا تلعب كرة القدم في الملعب القريب من بيتي. ربما سجّلت هدفاً، وربما تعرفت على صديقٍ جديد. تقف واضعاً يديك على خاصرتك، ونفسك سريعٌ ومتعب، وقميصك مبلول بالعرق، تشرب الماء وتراقب الملعب.
هذه الربما خطةٌ دفاعية متينة يمارسها القلب ليحمي نفسه من مخاطر الحزن وقسوته. القلب ذكيٌ يا حبيبي، أنت حتماً تعرف ذلك.
حمتني هذه الربما من الجنون -بالرغم من أنها ضربٌ منه- منحتني بمساحتها الخيالية؛ مشاعر حقيقية جديدة كنت أحتاجها لأواجه موتك يومياً. كنت أخلق المشاهد بعيني ويبدأ قلبي بترتيبها ثم يضع ضحكتك في منتصف المشهد، ويرفع الصوت أكثر وأكثر تجنباً لدور دموعي. كنت أسمع صوتك الذي طالما تسألت: أين ذهب بعد الموت؟ أسمعه مرراً وأمسكه بحذر وأفكر أين يمكن أن أخبئه حتى لا يضيع مني مرةً أخرى... كنت منشغلةً جداً عندما قالت: "ماما بدي زيت".
أكلت نيارا البيض، وهي الآن تريد أن تغمس الخبز بزيت الزيتون. هي تعلم أن عليها أن تحترم طعامها وتأكل طبقها الأول كاملاً حتى تحظى بطبقها الثاني. وبينما كانت أصابعها تلمع وهي تسبح في صحن الزيت، كنت أنت تضحك بشدة حتى غابت عيناك وانقطع نفسك... "يا غبية... لقد كنت أمامك طوال الوقت ولكنك تفضلين الدراما على الـDNA.
عند استشهادك قبل ثماني سنوات، تركتك في مكان صامت في حياتي. كنت أخاف من الحديث عنك، فأغلقت عليك الباب وراقبت عن بعد أيامنا معاً، وهي تتكور على ذاتها بحزن لمجرد أن تمر جثتك المرفوعة على الأكتاف أمامها
نيارا مثل خالها تحب الزيت والزعتر، والخيار والبطاطا المقلية. وبينما كنتُ أتجنب أن أذكرك خوفاً من دموعي واختناق صوتي أمامها، جاءت شهيتها للطعام مطابقةً لشهيتك! يضحك الإله علينا ربما عندما ندعو للميت بالرحمة، بينما هو يمرره إلينا بشكل جديد ليبقى معنا فنحظى نحن الأحياء بالرحمة.
أهلا بك في بيتي يا حبيبي... أهلاً بك! أنا لا أخاف أن أقول اسمك الآن، ولن أعدك بأنني لن أبكي، ولكن هذه دموع الشوق فقط، فلا تقلق.
حب طفلتي لزيت الزيتون هو انتصاري الشخصي على الموت، وعلى دولة الاحتلال التي قتلتك.
عند استشهادك قبل ثماني سنوات، تركتك في مكان صامت في حياتي. كنت أخاف من الحديث عنك، فأغلقت عليك الباب وراقبت عن بعد أيامنا معاً، وهي تتكور على ذاتها بحزن لمجرد أن تمر جثتك المرفوعة على الأكتاف أمامها. كنت خائفةً... كتبت لك ولكني لم أتحدث عنك. لا أعرف كيف أشرح لك ذلك، ولكن كل الأطفال الذين حظوا باسمك من بعدك كانت أسماؤهم تجرحني لأن وجودها كان مؤشراً على غيابك.
حب طفلتي لزيت الزيتون هو انتصاري الشخصي على الموت، وعلى دولة الاحتلال التي قتلتك. تقول نيارا: "بدي زيت"، وأراك أمامي كأنك لم تمت، كأن أحداً لم يؤذِ رأسك برصاصة أبداً. وجهك صافٍ لا دماء عليه، وعيناك مفتوحتان... إياك أن تغمضهما، لست نائماً على سريرٍ حديدي بارد. الناس حولك لا داعي لوجودهم، فأنت لا تعرفهم. تبتسم لي وكأن الموت حدثٌ تافه لا يستحق البكاء. تبتسم وتنمو في قلبي مثل أرضٍ واسعة من أشجار الزيتون. في كل وجبة فطور تعيش أنت ويموت الموت يا ساجي، صحنك موجود وشهيتك حاضرة.
نيارا تذكرك الآن بالاسم. تقول: "شاجي بدلاً من ساجي"، ولكن لا عليك فهذا مجرد جزء من مشكلات نطقها للحروف، فهي ترقّق الراء بشكل لطيف وتفخّم الـT بشكل مضحك. أظنها تعرف كم يعني لي اسمك، ففي كل مرة أسألها من أين جاء حبها للخيار، تقول اسمك وتبتسم بحنان وثقة. هل هذا هو الحب؟ أظنه ذلك.
تعرف حروف اسمك بالعربية والإنكليزية. تشير إلى صورك على هاتفي، وتقول إنك تلعب كرة القدم، بينما هي تحاول أن تسرق مني وعداً بالذهاب إلى المنتزه لتلعب هي أيضاً كرة القدم. سألتني عن حصانك: أين هو؟ انتبهت إلى الإشارة التجارية الحمراء على قميصك الرياضي الأبيض، وسألتني إن كان الأحمر وجعاً أصابك.
تسألني أسئلة كثيرة، ولكن سؤال: "أين أنت؟ أين خالو؟"، لم يزر رأسها بعد. أُجهّز نفسي للإجابة، ولكني لا أملك واحدةً. أحاول أن أكون صادقةً معها، وواضحةً ودقيقةً فالأطفال يستحقون ذلك
تسألني أسئلة كثيرة، ولكن سؤال: "أين أنت؟ أين خالو؟"، لم يزر رأسها بعد. أُجهّز نفسي للإجابة، ولكني لا أملك واحدةً. أحاول أن أكون صادقةً معها، وواضحةً ودقيقةً فالأطفال يستحقون ذلك. أريد إجابةً تجعلك قريباً بما يكفي لتحبك من دون أن تراك. أن تثق أنك غائبٌ رغماً عنك، ولكنك لست وحيداً أو موجوعاً. لك صوتٌ في رأسها يشبه سرب طيور مهاجرة للدفء، ولكنها حتماً ستعود، هي تحب أن تراقبها. سألتني مرةً لماذا تسقط أوراق الأشجار؟ أخبرتها بأنه البرد، فهل أخبرها بأن غيابك سببه الموت؟ وإن سألتني ما هو الموت؟ فهل أخبرها بأنه الوقت الذي يتوقف الأرنب الجائع في داخلك خلاله عن الركض؟ هي تعتقد أن قلبها أرنبٌ جائع يركض باستمرار.
آسفة، لقد كدت أن تموت مرتين؛ الثانية كانت ستكون بسببي. في كل ليلة سأتمنّاك كلما تمنّيت لطفلتي أحلاماً سعيدةً، وفي الصباح ستخبرني بأنها رأتك! لقد حملتها بين يديك وجعلت منها طائراً في السماء. ستضحكان كثيراً. سترسم معها بيتاً وشجرةً وعصفوراً. ستعلمها ركوب الخيل وكرة القدم. ستكون بينكما قصصٌ وضحكات تسألني عنها في كل صباح: هل الأحلام حقيقةٌ يا ماما؟ لا أعلم، ولكن كل شيء يجعل الأرنب الجائع في صدرك يقفز بسرعةٍ أكبر، حتماً هو حقيقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...