شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
جيش الحشاشين في مصر في القرن التاسع عشر

جيش الحشاشين في مصر في القرن التاسع عشر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتاريخ

السبت 17 ديسمبر 202210:45 ص

مع بناء دولة محمد علي باشا، في القرن التاسع عشر، تزايدت هموم المعيشة على الشعب المصري، وازدادت حالات الإحباط والبؤس، والشعور بالقلق والخوف والمزاج النفسي السيئ نتيجة إجراءات الباشا القاسية والمهينة بحق المجتمع المصري.

وللهروب من هذا القهر الشديد، لجأ كثيرون إلى الاحتماء بتعاطي الحشيش، وأصبحت المقاهي ملتقى لمدمني الحشيش، وزادت الغرز والحوانيت والمَحَاشِش، حتى استشرت في معظم أنحاء مصر. ومما يدل على تفاقم هذه الظاهرة أن تعاطي الحشيش كثر بين أهل الحرف والريف وموظفي الدولة.

الفقهاء والصوفية... بين الإباحة والتحريم

عرفت مصر الحشيش كمادة مخدرة للاستعمال الطبي منذ عهد الدولة الطولونية، واشتهرت زراعته منذ بداية العصر المملوكي، حين كان الحشيش يزرع في القاهرة في كل من البستان الكافوري وبركة الرطلي وباب اللوق وأرض الطبالة. وكانت مدينة دمياط من أشهر أماكن زراعة الحشيش في العصر المملوكي.

وتتحدث روايات كثيرة عن أن الأفيون أيضاً كان يُزرع في صعيد مصر. يخبرنا عبد اللطيف البغدادي، في كتابه "الإفادة والاعتبار"، عندما زار مصر أواخر القرن الـ13 الميلادي، أن الأفيون هو مما تختص به مصر، ويجتنى من الخشخاش الأسود في الصعيد.

ويروي المقريزي في خططه، تحت عنوان "ذكر حشيشة الفقراء"، أن أهل الخلاعة والسخف ولعوا ولوعاً كبيراً بتعاطي الحشيش وتظاهروا به من غير احتشام، وامتد الحشيش إلى أهل التصوف، إذ اعتقد بعضهم أن الحشيش أباحه الله، ولم يرد به تحريم قاطع كالخمر، بل تغنّى بعض المتصوفة بتناول الحشيش، وقالوا: "إن الحشيشة لقيّمة الذكر والفكر" حتى سميت هذه الفرقة بـ"حشيشة المتصوفة". وينقل لنا المقريزي ما قاله الشيخ فتح الدين اليعمري عن متصوفة عصره، مع الإشارة إلى أن ما يُنقل عن المتصوفين قد يكون تدليساً ناجماً عن الصراعات بينهم وبين الفقهاء:

ما شروط الصوفي في عصرنا اليوم/ سوى ستة بغير زيادة

وهي نيك العلوق والسكر والسطلة/ والرقص والغناء والقيادة

كذلك، روى ابن الجوزي، في كتابه "تلبيس إبليس"، أن بعض الصوفية في عصره يشربون شيئاً يسمونه "معجون الحشيش". والمثير أن بعض المتصوفة أدخلوا الحشيش في أشعارهم، وأعطوه صبغة دينية، فمثلاً، يقول أحدهم:

لو قالَ لي خَالِقي تَمنى/ قلت لهُ سَائِلاً بصِدق

أُريدُ في صُبحِ كل يومٍ/ فُتُوحَ خير يأتي برزقِ

كف حشيش ورطل لحم/ ومَن خبز ونيك عِلق

وشهد العصران المملوكي والعثماني انقساماً بين الفقهاء وبعض الصوفية على مسألة تناول الحشيش، وكانت القاعدة السائدة عند الفقهاء هي في حدود إباحة الحشيش، والنظر أولاً إلى الدوافع وراء تعاطي الحشيش، لأنه كان يستعمل من قبل الأطباء في تخدير المريض وتسكين الآلام البدنية، وذلك قبل أن تُكتشف مادة الكلوروفورم للتخدير.

وحرّم بعض الفقهاء الحشيش قياساً على الخمر، والبعض انطلق من سد الذرائع، فبدر الدين الزركشي صاحب كتاب "زهر العريش في تحريم الحشيش"، بعد أن تناول تاريخ الحشيش وجوانبه الاجتماعية والنفسية والطبية، أباح تناوله في عدة مواضع: لمَن لا يسكر بها، ولمَن يتداوى بها، وعند قطع اليد المتآكلة، ثم يقر بجواز بيع اليسير من الحشيش لأنه ينفع في الدواء.

في المقابل، حرّم العديد من العلماء الحشيش بشكل قاطع. فمثلاً يقول القسطلاني، في كتابه "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري": "كل مسكر حرام حشيشة الفقراء وغيرها". ويقول علاء الدين الحصكفي في كتابه "الدر المختار": "مَن قال بحل الحشيشة فهو زنديق مبتدع". وأيضاً، رأى ابن تيمية أن يُحد متعاطي الحشيش مثلما يُحد مَن يتناول الخمر، وتبعته جماعة في ذلك. لكن لم يُطبَّق حد الخمر على الحشاشين كما نادى بذلك بعض الفقهاء.

والأمر لم يتوقف عند إصدار الفتاوى، بل صار كل فريق يكتب أبياتاً من الشعر في بغض الحشيش أو في وصف محاسنه. فمثلاً يقول الشيخ ابن الأعمى الدمشقي، أحد المناصرين للحشيش:

ولا نص في تحريمها عند مالك/ ولا حد عند الشافعي وأحمد

ولا أثبت النعمان تنجيس عينها/ فخذها بحد المشرفي المهند

وكف أكف الهم بالكف واسترح/ ولا تطرحن يوم السرور إلى غد

كما ألف الشيخ علم الدين بن الصاحب قصيدته المشهورة في الحشيش يهاجم فيها مَن حرّمه، لأنه برأيه لم يقدم دليلاً قاطعاً، ويقول:

في خمار الحشيش معنى مرامي/ يا أهيل العقول والأفهام

حرموها من غير عقل ونقل/ وحرام تحريم غير الحرام

والطريف أن الشيخ ابن البدري الدمشقي، في كتابه "راحة الأرواح في الحشيش والراح"، ينقل لنا صورة من حوارات وأشعار الحشاشين الصوفيين، كما يضع آداباً لتعاطي الحشيش، حيث ينصح الحشاشين بالدعاء والتضرع إلى الله قبل تناوله، ويعقب: "فمَن استعمله بغير شرطه أو حطه غير محطه، فقد عدل عن محجة العقل والأدب وجهل حجة القصد والطلب".

انتهى الجدل بشكل قاطع لصالح الفقهاء، وكانت الظاهرة بين مد وجزر، ثم في ظل ظروف القرن التاسع عشر، استفحلت ظاهرة الحشاشين، وصار للحشيش شأن كبير وبصورة لم يسبق لها مثيل، إذ ازدادت حركة البيع والشراء، وشغف بتعاطيه العامة والخاصة، وأصبحت الظاهرة واقع متغلغل في حياة الناس اليومية.

وذكر الإمام محمد عبده، في مقال نشر في جريدة الوقائع المصرية (عدد 1089، 16 نيسان/ أبريل 1881)، أن الذين يزرعون الحشيش ويتاجرون فيه ويتعاطونه كثيرون جداً، إلى درجة أنه لا توجد طائفة من أهل القطر ولا بلد من الأرياف إلا وفيها أولئك الحشاشين، لم يعتبروا بالجزاء، ولم يخافوا من الحد.

حشيش الباشا

لم يعبأ محمد علي باشا بأي معنى أخلاقي أو إنساني. كل ما كان يهمه جمع أكبر قدر من المال، وتأسيس مُلك لعائلته بأي ثمن ولو على دماء المصريين التي أراق الكثير منها. وكانت المخدرات في عهده تُزرع ويتاجر بها بشكل رسمي وعلى نطاق واسع، واستفاد الباشا كثيراً منها، إذ فرض رسوماً على زراعة الأفيون والحشيش، وأدخلهما ضمن الحاصلات الزراعية التي خضعت للاحتكار، كما كان يجبي الكثير من الضرائب من العاملين في بيوت العاهرات ومواخير تدخين الحشيش.

وتذكر الباحثة نيرمين حنفي، في دراستها "المخدرات والمجتمع المصري في القرن التاسع عشر"، أن محصول الأفيون في مصر ازدهر في العام 1833 حتى وصل إلى 31.000 كيلوغرام قُدّر ثمنها بمليون فرنك، كما اشتهر الحشيش والأفيون المصري في السوق الأوروبية وعرف باسم "أفيون طيبة".

ذكر المستشرق الإنكليزي إدوارد وليام لاين أن في القاهرة وحدها، في القرن التاسع عشر، كان هناك أكثر من ألف قهوة يباع فيها الحشيش، وأن العوام وأبناء الطبقات الفقيرة هم أكثر الناس إقبالاً عليه

ساهمت سياسة محمد علي في استفحال ظاهرة تعاطي المجتمع المصري للحشيش، وذلك من خلال طريق الاستبداد والقهر المجتمعي من جهة، وإعطائها الطابع الرسمي من جهة أخرى، فقد سهّل الباشا نطاق تجارة وزراعة الحشيش، وكان التجار والباعة يدفعون الضرائب للدولة بانتظام، لكن شيئاً فشياً أدرك الباشا النتائج المترتبة على ازدهار هذه الزراعة، إذ انتقل تعاطي الأفيون والحشيش إلى موظفي الدولة والعمال والفلاحين وأثر سلباً على الإنتاجية.

حاول الطبيب الفرنسي الذي عُهد إليه بتطوير قطاع الصحة في الجيش المصري "كلوت بك" إقناع محمد علي بأن يصدر أوامره بمنع زراعة وتعاطي الحشيش، وبالفعل أصدر الباشا قراراً في العام 1837 إلى كافة المديريات بمنع زراعته، وإزالته من قلم الإيرادات، وجاء في قرار المنع: "عُلم حصول ضرر للأهالي من تعاطي الحشيش، ودأب أغلب الأنفار الشغالة بالمصالح تعاطي هذا، وناشيء من ذلك حصول تأخير في الأشغال"، حسبما ورد في كتاب "الأوامر والمكاتبات الصادرة من عزيز مصر محمد علي"/ الجزء الثاني.

ثم قام الباشا بعدها بشن حملة شعواء لمطاردة مخابئ بيع وتعاطي الحشيش. وأصدر في العام 1839 قراراً آخر بقفل دكاكين الحشيش وتسميرها، وإنْ أراد أحد فتح دكاكين لبيع وشرب المسكرات الأخرى، يكون في حارات العيسوية والموسوية ويحترس من بيع المكيفات إلى أهل الإسلام.

لم تنجح إجراءات محمد علي الصارمة في الحد من هذه الظاهرة أو محاصرتها، ورغم المنع والحظر، وحرق الحشيش المصادَر، وفرض الغرامات والحبس، وإصدار الفتاوى بحرمة تعاطيه، إلا أن المجتمع ضرب بكل هذا عرض الحائط، وزاد إقبال الناس على هذه النبتة خفية، كما لجأوا إلى الاحتيال والتهريب، والالتفاف حول القوانين.

قنطرة الحشاشين

اشتهر العديد من أحياء القاهرة ببيع وتعاطي الحشيش، مثل منطقة الباطنية المجاورة للأزهر، وحديقة الأزبكية التي ظلت مظهراً للانشراح وشرب الحشيش، كما كان الناس يذهبون إلى أماكن بعيدة عن الأعين، مثل مناطق المقابر في القرافة، ومَن لم يشرب الحشيش في القهوة والمخابئ شربه في الدوار على حد تعبير عبد الله النديم، واللافت أن بعض هذه العادات لا زالت مستمرة حتى اليوم.

وعندما زار المستشرق الإنكليزي إدوارد وليام لاين مصر في القرن التاسع عشر، كتب كتاباً عن طباع أهل مصر، سماه "المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم"، خصص فصلاً منه للحشيش والأفيون، وذكر فيه أن في القاهرة وحدها أكثر من ألف قهوة يباع فيها الحشيش، وأن العوام وأبناء الطبقات الفقيرة هم أكثر الناس إقبالاً عليه، بل وصل الأمر أن امتد أيضاً إلى رجال الأدب والدين، بينما يتعاطى الكثير من أفراد الطبقة الوسطى والعليا الأفيون.

ويروي لاين أن بعضاً من المتسولين ينفقون جانباً كبيراً مما يجمعونه صباحاً في التمتع بتدخين الحشيش ليلاً، ويعقب: "يباع الحشيش في بعض المقاهي وفي محال أصغر حجماً وأكثر عزلة، خصصها أصحابها لبيع الحشيش وغيره من المخدرات ويطلق على الواحد منها مَحشَشة... وتستعمل كلمة حشاش للازدراء".

دكان لبيع الأفيون والحشيش ومستلزمات الشيشة.

ويذكر الجبرتي، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، أن بعض العامة في عصره اعتادوا تعاطي المخدرات والمسكرات إلى حد النشوة وترويح النفس، كأنما سقطت عنهم التكاليف وخلصوا من الحساب، وإذا دبت الحشيشة في رأسهم وتحكمت في عقولهم، فإنهم يصرخون ويطبلون ويرقصون.

غرزة حشيش في القاهرة سنة 1932.

وكان غرز الحشيش ينتشر بشكل كبير في الموالد الشعبية. يحكي علي مبارك، في خططه، أن مغنّي الأشعار والمواويل والمدائح كانوا يتعاطون الحشيش قبل الغناء، ولم يكن تعاطي الحشيش في هذه الموالد قاصراً على المنشدين وبعض المتصوفة، بل تناوله العامة أيضاً، وبعضهم كان يحضر هذه الموالد بسبب وجود الحشيش، ولذا ارتبطت هذه الموالد ببيع وتناول الحشيش، وانتقدها عبد الله النديم لهذا السبب، كما اشتكى من توسع الناس في تناول الحشيش واقتصادهم في المعيشة، ويقول في مجلة التنكيت والتبكيت في العدد 5 منقداً حال المجتمع المصري:

"أفسد الحشيش فكرهم وأتلفت السطل مخهم… الولد منهم يدخل القهوة يوقد الشموع ويطلب الخمور ويشرب الحشيش وهو فرح مسرور بوجوده وسط جماعة من المخنثين والفاجرات... ثم يصرف الخمسين جنيهاً والعشرين كأنه صرف قرشاً في رغيف لخادمه، ثم إذا قابله أحد، سأل ومدّ يده".

"الحشيش أقوى من الحكومة، لأنه رغماً عما تفعله الحكومة من القوة في منعه لا يزال حراً يدخل من جميع الأبواب"

واللافت أن النديم يروي أن الحشاشين صارت لهم جمعية وزعيم يتكلم باسمهم ويطالب بحقوقهم. وبنبرة حزينة، يشتكي من أن أسواق التجارة في كساد، بينما أسواق الحشيش والفسوق في ازدحام عظيم وصرف جسيم، وليست فقط أسواق الحشيش في القاهرة هي الرائجة، إذ يذكر أن الحشيش في دمنهور رائج جداً، ولا يشتريه إلا رعاع الناس وأراذلهم، حسب وصفه. كما يروي علي مبارك أن الحشيش يزرع بكثرة في صنافير في قليوب وفي كفر الشيخ.

موسم حصاد الأفيون في مدينة قنا عام 1908.

ولم يقصر تناول الحشيش على الفئات الشعبية، بل كانت توجد غرز حشيش خاصة بعلية القوم ولعمد البلد. يذكر أحمد أمين، في كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، وجود غرز ارستقراطية خاصة، فرشت أحسن فرش وهيئت أحسن تهيئة، يغشاها عليّة القوم، وتستتر عن الأعين بستار كثيف حتى لا يراها رجال الشرطة.

ومن الملفت ما كُتب بـ"جريدة الوقائع" في العدد 1134، بتاريخ التاسع من حزيران/ يونيو 1881، إذ اشتكت الجريدة من أن مقاهي العاصمة لا تخلو من الحشيش، والحشاشون يتناولونه جهاراً وبحرية تامة، وتضيف: "مَن ذا الذي يمر بشوارع القاهرة على تنوعها في السعة والضيق والنظافة والقذارة إلا ويراها غاصة بقهاوي الحشيش، يشرب داخلها وخارجها، وتنتشر رائحته الخبيثة تصدع رأس المارة علي غير استخفاء او استحياء، فإنْ التفتّ نحو اليمين وجدت قهوة حشيش، وإنْ عطفت ناحية اليسار شاهدت دكاناً يبيعه ممزوجاً بغيره من العناصر السامة".

وأيضاً كتبت "جريدة البصير" التي أسسها وأدارها الصحافي اللبناني رشيد شميل، في العدد 501، في نيسان/ أبريل 1899، تحت عنوان المجد للحشيش: "الحشيش أقوى من الحكومة؛ لأنه رغماً عما تفعله الحكومة من القوة في منعه لا يزال حراً يدخل من جميع الأبواب".

والمثير للانتباه أن الحشيش انتشر بين مجتمعات النساء، فقد انخرطن في شربه، واشتهرت سيدة حشاشة تُدعى "أم الكني"، اسمها الحقيقي "جليلة أنور محروس"، ورثت عن أبيها تجارة الحشيش، وفي وقت اشتداد الحملة على قهاوي الحشيش في عصر الخديوي إسماعيل، فتحت بدروم مقهاها للحشاشين، وقالت مقولتها الشهيرة: "اللي عايز يشرب يشرب بس يتكن فى بدروم القهوة"، أي في طابقها السفلي.

وحتى المصريين الذين ذهبوا للعمل في الخارج، كانوا أيضاً يتعاطون الحشيش، الأمر الذي استرعى انتباه مصطفي كامل، فكتب: "الباعة المصريون وسائقو الحمير، يتعاطون الحشيش في كل وقت حتى في البلاد الغربية".

فنون المحششة

رغم التجريم، لم يكفّ المصريون عن تعاطي الحشيش، فنجد أنه ظل يباع في الكثير من المقاهي ودكاكين الدخان والعطارة وأماكن اللهو ودور البغايا، فضلاً عن المحششات السرية. ويشير أحمد تيمور باشا في كتابه "معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية" إلى أن الحشيش الذي يُزرع في مصر هو أجود وأغلى من الذي يأتي من الخارج.

وطبقاً لما ذكره عبد الله النديم، كانت تجارة الحشيش رائجة جداً على الرغم من ارتفاع سعره، والملاحظ أن النديم يذكر أن الناس أقبلوا عليه حتى في شهر رمضان، مما أدى إلى زيادة سعره، ويعقّب: "ارتفعت أسعار الحشيش بسبب طول السهرة ودورة الجوزة إلى السحور".

بائع الجوزة في القرن التاسع عشر.

مال المصريون نحو الحشيش، وفضّلوه على كل صنف آخر، وتفننوا في تعاطيه، ويؤكد على ذلك كلام الإمام عبده في مقالته عن الحشيش، إذ يذكر أن المصريين في عهده اخترعوا وأوسعوا المجال على طرق كثيرة في تعاطي الحشيش، ويطلق على كل منها اسماً مختلفاً، أشهرها المعاجين والمنازيل والبرش والجوارش، وكذلك كان كثيرون يخلطون الحشيش بأنواع من الحلوى، أما وسائل التعاطي، فمنهم مَن يجعله في سيجارة ومنهم مَن يجعله في حجر الجوزة.

وتذكر جريدة "المقتطف" أن من أشهر وسائل تعاطي الحشيش هي "التعميرة"، عندما يجتمع الحشاشون على شكل حلقة، ويدور عليهم صاحب المحششة بجوزة فيها حشيش، فيتناوبون الشرب واحداً تلو الآخر إلى أن يستنزفوا ما في الجوزة، ويسمون ذلك "تعميرة" يردفونها بتعميرة أخرى فثالثة إلى أن تنال أدمغتهم منه الكفاية.

وبالتالي، كان من الطبيعي أن يندرج تعاطي الحشيش عند المجتمع المصري تحت مقولة "الكيف". واللافت أن غرز الحشيش المصرية أثارت إعجاب الإنكليز. فتحت عنوان "الحشيش في لندن"، كتبت مجلة الهلال أن في لندن حانوتاً يُباع فيه الحشيش بنفس أسلوب بيعه في مصر، إذ بنوا له مكاناً كالمغارة، فيه مقاعد وقصب وغيرهما من مستلزمات مقاهي الحشيش في مصر.

وتشير المجلة في عدد آخر إلى أن الحشيش يباع على بعد دقائق من مكتبها. كما يخبرنا أحمد شفيق باشا في مذكراته بأن في منطقة شبرا قهوة مشهورة اسمها "سي خليل" يقصدها أصحاب الكيف ويجدون فيها ما يشاؤون، وقال الظرفاء في هذه القهوة:

كل شيء في مصر يوجد/ إلا قهوة سي خليل

الكيوف فيها نضيفة/ والحشيش مالوش مثيل


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image